خريطة سوريا السائلة بعد سقوط حلب 

شورش درويش

لا تزال خريطة الصراع المسلّح سائلة حتى اللحظة مع تقدّم هيئة تحرير الشام بعد أن تجاوزت حدود حلب إلى محيط محافظة حماه. وفيما تحاول قوات النظام السوري صدّ القوات المتقدّمة بعد أن قامت بسلسلة انسحابات غير مسبوقة مخلّفة وراءها أسلحة ثقيلة ومئات الآلاف من السكان، فإن فصائل «الجيش الوطني» الموالية لتركيا شرعت بالتوسّع شرقي حلب مستفيدة من تلاشي حضور قوات النظام وانسحاب القوات الروسية.

وإذا كانت الخريطة سائلةً حتى اللحظة، فإن الثابت الوحيد في كل ما جرى هو وقوع حلب بأسرها تحت حكم هيئة تحرير الشام والفصائل التي تدور في فلك عملية «ردع العدوان» التي أعلنها أبو محمد الجولاني في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وباتت مهمّة استعادة النظام لحلب مستحيلة في هذه الغضون، إذ لا يمتلك النظام الكفاءة القتالية ولا المقدّرات البشرية اللازمة. والأهم، أنه يفتقر للأسلحة المناسبة لخوض حرب استعادة طويلة على الأرض في ظل انكماش السندين الروسي والإيراني. وكل ذلك في مواجهة «الهيئة» التي غدت نسخةّ أكثر كفاءة وأشد مراساً عسكرياً ولوجستياً وحتى تقنياً ومزوّدة بجيل جديد من الأسلحة بما في ذلك المسيّرات الانتحارية.

الطريق إلى خسارة حلب

عملياً، لم يكن بوسع النظام الاستماتة في الدفاع عن حلب، إذ إن هذه المهمّة الصعبة جاءت في أعقاب تراجع النفوذ الإيراني في سوريا والضربات الموجعة التي وجهتها إسرائيل للتواجد العسكري الإيراني خلال العام الماضي وتذرير سلاح الجوّ الإسرائيلي المليشيات الإيرانية واستهداف تجمّعاتها. ويضاف إلى استحالة دفاع النظام عن حلب، بطء الاستجابة الروسية لمتطلّبات الحرب المفتوحة على عدّة محاور. كما أن تركيا التي كانت ترى مطلع الإعلان عن «ردع العدوان» بأنها عنصر ضاغط على بشار الأسد لجلبه إلى طاولة المفاوضات، باتت متشكّكة من إمكانية تحقق ذلك بالنظر إلى التقدم المهول للهيئة واستحالة أن يجلس النظام إلى طاولة تفاوض في الوضع الراهن الذي يعيشه. فهو لن يكون سوى تفاوض تحت النار وأقرب للاستسلام غير المشروط للأمر الواقع. ولعلّ ما جرى لا يعني أن الأتراك غير سعيدين بالتقدم العسكري الحاصل وانهيار الأسد في مدينة حلب التي طالما وضعتها تركيا وعبر رسمييها ضمن الأراضي التركية التي ينبغي استعادتها بمعزل عن تركيبها السكانيّ الإثنيّ غير التركي.

فور تمكّن قوات «ردع العدوان» من السيطرة الجزئية على حلب، خرجت الصحف المقرّبة من الحكومة التركية بتقديرات تصبّ في صالح تقديم منظور تركيّ جديد لما يجري، إذ ينظر المقرّبون من الحكومة إلى أن السيطرة على حلب تعني إمكانية إعادة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين إليها، ولا يهمّ إن تسبّبت الحرب بطرد كتل سكانية كبرى كردية أو مسيحية أو أخرى موالية للنظام منها، ذلك أن الكتل المطرودة لن تختار النزوح صوب تركيا. وعلاوة على ذلك، يجري الحديث عن إمكانية الربط الاقتصادي والتجاري بين حلب وتركيا عبر مشروع «تنمية حلب» الحالم من خلال إعادة الحياة لعاصمة سوريا الاقتصادية بواسطة مشاريع الربط بإشراف تركي. أي أن تركيا ترى إمكانية التشبيك مع «حكومة الإنقاذ» التابعة للجولاني بذريعة الاستقرار، دون الأخذ بالاعتبار وقوف الجولاني في عداد الحركات الجهادية القادمة من المتن القاعدي الملفوظة دولياً.

لا يمكن إغفال نقطة أخرى تجعل تركيا راضية بحذر عمّا يدور في سوريا، وهي أن الدور التركي تراجع في المنطقة، وفي سوريا تحديداً، عقب سلسلة من التحوّلات لاسيما مع ما بدر من  نتائج حرب غزّ.، وكان من المتوقّع أن يؤدّي وصول دونالد ترامب إلى إمكانية أن تفرض «الكيمياء الشخصيّة» بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إيجاد حل في سوريا يكون فيه لروسيا حصّة متقدّمة على الأتراك. ولأجل ذلك، أيّدت أنقرة عمليّة عسكرية تقودها المعارضة لتوسيع هامش حضورها والجلوس أيضاً إلى جوار الروس والأميركيين في أي طاولة تفاوضية تعقد لأجل سوريا. غير أن ما حدث تجاوز توقّعات الأتراك المتخوفين من أن تؤدي سيطرة الجهاديين إلى استنفار دول المنطقة وروسيا، وربما واشنطن الترامبية، والسعي للتخلّص من الجولاني، وبالتالي إضعاف الفصائل الموالية لتركيا في وقت لاحق.

كان من المتوقع بداية أن تكون العملية محدودة الزمان والمكان، أي أنها ستستعيد الأراضي التي خسرتها «الهيئة» والفصائل عامي 2019- 2020، وبالتالي تصويب مسار أستانا الذي اختل لصالح الروس والنظام وإيران على حساب الفصائل و«الهيئة» وتركيا. بيد أن إدخال حلب في مجرى الصراع بطريقة مفاجئة وسريعة، ترك خلفه أسئلة من قبيل: هل كان النظام والروس متكئين على ما تم الاتفاق عليه في اجتماعات أستانا الأخيرة ولم يتوقعا أن تنشط ديناميات الصراع بالشكل الذي يقود إلى الوصول لحرب جبهويّة مفتوحة؟ وكذلك، لماذا خلّف النظام السوري العتاد الثقيل وراءه، بما في ذلك بعض المقاتلات والكثير من المدرّعات والذخائر، بالشكل الذي يذكّر بما جرى في الموصل عقب سيطرة تنظيم داعش عليها أو ما خلّفه الجيش الأفغاني من أسلحة كانت بيد حكومة أشرف غني بعد ساعات من رحيل الجنود الأميركيين؟ لا دليل هنا عن أن النظام تعمّد ترك أسلحته ولاذ بالفرار دون أن تلحق بقواته هزائم حقيقية. ولا دليل كذلك، خارج التحليلات الأولية، على أن الانسحاب حصل نتيجة صفقة روسية تركية للضغط على النظام للقبول بالتفاوض مع أردوغان أو للتخلّص من المليشيات الإيرانية بدعم أميركي وإسرائيلي من وراء الستار. لذلك، تبقى مسألة الانسحاب العاجل للقوات السورية وصمت الروس موضوعاً ملغّزاً.

يمكن أن يُستشف من انهيار قوات النظام السريع عدّة أسباب، أوّلها أن الروس ربما خُدعوا بنتائج أستانا المطمئنة بإبقاء مناطق «خفض التصعيد» على ما هي عليه، خاصة أنهم لم يكونوا مستعدّين لخوض حرب موسّعة تفضي لسقوط حلب بيد قوى متطرّفة. كما أن بطء اتخاذ القرارات ضمن البيروقراطية العسكرية الروسية حال دون اتخاذ القرار الميداني المناسب لتحجيم الهجوم على حلب، الأمر الذي دفع موسكو إلى إقالة سيرغي كيسيل، الجنرال المسؤول عن القوات الروسية في سوريا. وبهذا، حاولت موسكو إخلاء مسؤوليتها عن الخطأ الكارثي لقائد قواتها العاملة في سوريا. أما السبب الثاني فيكمن في أن قوّات النظام تفتقر لإرادة القتال وعدم تحمّل حرب شوارع طويلة وفي مواجهة تنظيم عقائدي شديد التدريب والإعداد ويعجّ بالانغماسيين والانتحاريين. فيما يتمثّل ثالث الأسباب في تراجع الحضور الإيراني وانكشاف مليشياته على سلاح الجو الإسرائيلي الذي قلل من قدراتها وأهميتها. بذا، يصبح انسحاب قوات النظام وانهيار جبهاته بدون قتال منطقياً إذا أخذنا بالحسبان حاجة النظام لتكديس مقاتليه في جبهات أخرى، ربما في حمص وحماه ودمشق، للتعويض عن الغياب الإيراني.

خيارات الأسد 

تبدو السمة الغالبة بالنسبة لواشنطن وتل أبيب عند المفاضلة بين الأسد والإسلاميين هو التعادل بين الطرفين. مثل هذا التفصيل الكبير مفيد لدمشق، إذ لا يمثّل الإسلاميون مهما أبدوا من مرونة إعلامية ودعائية وتورية لتوجهاتهم الفعليّة البديل المفضّل، بل يمكن المجازفة بالقول أن الأسد ناقصاً إيران أفضل لهما من الجولاني عدوّاً لإيران، على ما تقول تجاربهما مع التنظيمات الجهادية بشقّيها السني والشيعي.

أمام النظام السوري عدّة أفكار لتدارك تداعيات الهزيمة الكبيرة في حلب. فبعد زيارة بشار الأسد لموسكو، كان من اللافت اتصاله برئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، ذلك أن العراق يخشى تفشّي أو نموّ التنظيمات الجهادية في العراق وما تشكّله تجربة هيئة تحرير الشام من إلهام لسنّة العراق، على ما قالته تجارب البلدين خلال السنوات العشر الماضية. لذلك، أسرعت بغداد إلى نشر جنودها وإطباق الحدود المشتركة مع سوريا. إلى ذلك، قد يشكّل الدعم العراقي المُعادل الشيعي المناسب بدل الدعم الإيراني المحظور أميركياً وإسرائيلياً. وعليه، قد يستجيب السوداني لنداء المصلحة المشتركة حال تدهور أوضاع النظام.

في إزاء ذلك، جاءت محادثات الرئيس الإماراتي محمد بن زايد والأسد الهاتفية في صالح دمشق. مفردات بن زايد بدت قطعية لجهة «تضامن دولة الإمارات مع سوريا ودعمها في محاربة الإرهاب والتطرف». وهو ما يعني أن صيغة الإمارات: القليل من إيران في سوريا في مقابل الكثير من العرب، ما زالت موضع تأييد خليجي وأردني، وهو ما يعني أن تعهدات الدول العربية المطبّعة مع دمشق لا تتأثر بالخرائط العسكرية السائلة.

أيضاً، يبدو أن موسكو قد تمسك زمام المبادرة مجدداً، وإن عرقلتها الحرب الأوكرانية. وقد تعود لممارسة أدوارها العسكريّة بلياقة أعلى حال تفرّغها من الحرب الأوكرانية على ما تشير عليه صيغة الوئام بين بوتين وترامب. لذا، يمكن توقّع عودة روسيا إلى الفاعلية التي أظهرتها عام 2015.

داخل هذا الجوّ الجديد والمفاجئ وتمكّن جماعة جهادية (هيئة تحرير الشام) ينضوي في كنفها العديد من الجهاديين الأجانب المتطرّفين ظهروا بوجوههم ولغاتهم المختلفة في وسط حلب، قد تذهب الأوضاع إلى صيغة تحالف عربي- روسي بالشكل الذي برز فيه التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش للتخلّص من صداع جهاديّ قد يساهم في تعقيد صيغة الاستقرار التي تسعى إليها العديد من الأطراف. وهو ما قد يعني أيضاً إثارة مخاوف تركيا من أن تتعطّل آلة الحرب التي تسنّها لمواجهة قوات سوريا الديمقراطية، خاصة أن «قسد» كانت المصل المضاد لجماعة جهادية أخرى مثل «داعش». وبالتالي، فإن بقاء «قسد» بات مرتبطاً بدرجة وثيقة بنموّ الجماعات الجهادية وسيطرتها على الأجزاء الأهم من سوريا.

حتى درجة بعيدة، يمكن القول إن ما جرى في حلب كان معركة كبيرة في خضم حرب كبرى لا يمكن الجزم بخريطتها الأخيرة ولا بالمنتصر النهائي فيها. وهذه مسألة تدعو إلى الإنصات للمزيد من وجهات النظر الأقل تحيّزاً، والأكثر استشرافاً، خاصّة أن المنتصر الحالي في حلب ينتمي إلى متنٍ يخيف العالم والجوار وطيفٍ سوري كبير.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد