ترامب الثاني العائد إلى البيت الأبيض

محمد سيد رصاص  
في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، أصبحت كامالا هاريس رابع نائب للرئيس يخسر في الانتخابات التي جرت نهاية ولاية رؤسائهم. فالبداية كانت من ريتشارد نيكسون عام 1960، ومن ثم هيوبرت همفري عام 1968، وصولاً إلى آل غور عام 2000، فيما مثّل جورج بوش الأب عام 1988 الاستثناء الوحيد عن هذه الحالات. تدلّ هذه الخسارات الأربع على تصويت عقابي ضد الإدارة التي كان فيها المرشح للرئاسة نائباً للرئيس، وليس لشخصه، إذ إن نيكسون نجح في انتخابات 1968، وكذلك جو بايدن عام 2020 بعد أربع سنوات من إدارة دونالد ترامب. وهذا المؤشر تجاه هزيمة هاريس في المجمع الانتخابي والتصويت الشعبي معاً يعززه أن الحزب الديمقراطي فاز في التصويت الشعبي مع باراك أوباما عامي 2008 و 2012 ومع بايدن، وكذلك مع هيلاري كلينتون عام 2016 عندما فاز ترامب من خلال أغلبية أصوات المجمع الانتخابي وليس التصويت الشعبي.
الأرجح هنا أن الاقتصاد كان له التأثير الأكبر في انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة. فعهد بايدن حكمته الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا والحرب الأوكرانية التي تسببت في ارتفاع كبير بأسعار الطاقة، ما ولّد تضخّماً وصل إلى 9,1% في صيف 2022، وهو أعلى تضخم تشهده الولايات المتحدة منذ عام 1980 عندما سقط الرئيس- المرشح جيمي كارتر أمام رونالد ريغان في انتخابات ذلك العام وكان الاقتصاد أيضاً الناخب الأكبر يومذاك، بالإضافة لميل الناخب الأميركي لرئيس متشدد ضد السوفييت بعد خمس سنوات من هزيمة فيتنام. صحيح أن التضخم انخفض الصيف الماضي إلى 2,9%، إلا أن أسعار الطاقة والغذاء والسكن ظلت عالية. ولم تنفع إجراءات البنك الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة إلى 5,5% في صيف 2023، فيما نجح هذا الإجراء مع ريغان لمعالجة التضخم عندما قاد رفع الفائدة إلى هجرة واسعة لرأس المال النقدي العالمي إلى البنوك الأميركية، وهو ما ترافق مع تخفيض الإنفاق الحكومي وفق نصائح قدمها ميلتون فريدمان، المفكر الاقتصادي لليبرالية الجديدة في الاقتصاد إلى ريغان. وزاد التضخم عندما اتبع بايدن نهج سلفه أوباما الذي عاد للوصفات الكينزية (نسبة إلى المفكر الاقتصادي جون ماينارد كينز الذي قدم وصفات لتجاوز أزمة 1929-1932) في زيادة تدخل الدولة في الاقتصاد بعد أزمة 2008 المالية- الاقتصادية التي تم على إثرها تحميل وزر تلك الأزمة إلى نهج الليبرالية الجديدة.
وتعطي خريطة التصويت المؤشرات على ذلك، حيث أن الولايات المتأرجحة تاريخياً في التصويت، مثل بنسلفانيا ونورث كارولاينا وميشيغان وجيورجيا، خسرتها هاريس كلها. وعانت هذه الولايات كثيراً في السنوات الماضية من الأزمة الاقتصادية. كما أن الناخبين من أصول لاتينية تحولوا أخيراً للتصويت بغالبيتهم لصالح الجمهوريين وأكثريتهم فقراء أو ضمن الفئات الأفقر في الطبقة الوسطى. ويلاحظ من يراقب خريطة التصويت أن اللون الجمهوري الأحمر يتركز في الوسط والديمقراطي الأزرق في النصف الشمالي من الساحل الشرقي وفي الساحل الغربي، حيث توجد الولايات الأفقر في الوسط وهي صوتت لليمين الجمهوري. بينما الولايات الأكثر قوة اقتصادياً صوتت لليبراليي الحزب الديمقراطي الذي أصبح اليساريون الأميركيون يميلون إليه في السنوات الأخيرة كملاذ بوجه موجة يمينية صاعدة يجسّدها ترامب، وهي على يمين اليمين التقليدي للحزب الجمهوري، كما كان الرئيس دوايت أيزنهاور في الخمسينيات وريغان في الثمانينيات، وهما جمعا يمينية محافظة اجتماعياً وثقافياً مع نزعة خارجية تدخلية في مواجهة الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة.
تعتبر يمينية ترامب عودة لليمين التقليدي الأميركي الذي كان يميل للنزعة الانعزالية منذ مبدأ مونرو عام 1823، وهو مبدأ أدار بموجبه المهاجر إلى العالم الجديد ظهره لعالمه القديم. وليس صدفة أن نشوء الولايات المتحدة تم عبر ثورة على لندن، وأن الأخيرة ساندت ولايات الجنوب ضد العاصمة واشنطن في الحرب الأهلية الأميركية 1861-1865. وعندما فكّت الولايات المتحدة حبال الانعزالية عام 1917 من خلال اشتراكها في الحرب العالمية الأولى ضد الألمان، هُزم الرئيس وودرو ويلسون عام 1920 عندما صوّت الانعزاليون في مجلس الشيوخ ضد المصادقة على ميثاق عصبة الأمم التي كان ويلسون أباها وأمها بعدما ولدت في العام السابق كنتيجة لمؤتمر فرساي. وعليه، يمكن القول إن ترامب هو خليفة السيناتور الجمهوري روبرت تافت الذي وقف ضد ميول الرئيس فرانكلين روزفلت للانخراط في الحرب العالمية الثانية، ولكن تم قلب الطاولة على تياره بعد سنتين وثلاثة أشهر إثر الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربور في 7 ديسمبر/كانون الأول 1941، وكان تياراً قوياً يضم جمهوريين وديمقراطيين في مجلسي الكونغرس. ووقف تافت ضد مشروع مارشال وإنشاء حلف الناتو وضد مجابهة موسكو وبكين في الحرب الكورية. وماتت «التافتية» حتى في الحزب الجمهوري عندما هُزم تافت أمام أيزنهاور في الانتخابات التمهيدية الحزبية لاختيار المرشح للانتخابات الرئاسية عام 1952.
في عام 2016، عادت «التافتية» وانبعثت بصورة «الترامبية». ولكن دافع الانعزالية عند ترامب ليس مثل تافت الذي أراد الانعزال عن الحروب ومشاكل العالم القديم، إذ أن ترامب لا ينظر للعالم من خلال الحروب بل من منظار الاقتصاد. فهو أول يميني يقف ضد العولمة الاقتصادية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فيما كان المحافظون الجدد في عهد بوش الابن يحملون نزعة ورثوها من تروتسكيتهم اليسارية السابقة بنشر مبادئهم ورؤاهم العالمية عبر التدخل وغزو العالم لزرع قيم الديموقراطية واقتصاد السوق. وكان اليساريون، منذ التسعينيات، في أرجاء العالم أسلافاً لترامب ضد العولمة. فترامب، ومن خلال مبدأ «القومية الاقتصادية» الذي طرحه في حملته الانتخابية عام 2016 ثم طبقه حينما وصل البيت الأبيض، يرى أن التجارة  العالمية الحرّة تضرّ بمصالح الولايات المتحدة وتستفيد منها دول أخرى مثل الصين وحتى دول حليفة للولايات المتحدة على حساب الأميركيين جرّاء «سرقة» الملكية الفكرية للمنتوجات الأميركية ونقل التكنولوجيا أميركية الصنع للآخرين لتقليدها أو صنع المنتوجات الأميركية في الخارج من قبل شركات أميركية تغريها الصين والهند بضرائبها الأقل وأجور اليد العاملة الرخيصة وعدم وجود قيود تتعلق بالحفاظ على البيئة. كما أن منتوجات الآخرين التي تدخل سوق الولايات المتحدة تنافس، بسعرها الرخيص، المنتجات الأميركية وتؤدي إلى إغلاق المنشآت الصناعية وازدياد البطالة، حيث حذف العجز التجاري الأميركي مع الصين بين عامي 2001 و2018 أكثر من ثلاثة ملايين وظيفة أميركية. ومن خلال هذا المبدأ، انسحب ترامب من اتفاقية التجارة عبر الباسفيك مباشرة بعد أن دخل المكتب البيضاوي، وفرض حمائية جمركية من خلال الرسوم على الصادرات الصينية والصادرات العالمية. وكان رأيه اقتصادياً بأن «الاتحاد الأوروبي صورة سيئة مخففة عن الصين». وأتت انتقاداته لأعضاء حلف الناتو من منطلق أنهم لا يساهمون في النفقات العسكرية للحلف، تاركين العبء على واشنطن، فيما ينطلق رأيه في الحلفاء الأوروبيين واليابانيين والكوريين الجنوبيين من مفارقة: «كيف تحمي حليفاً من الناحية العسكرية لا يساهم عسكرياً معك في النفقات، وفي الوقت نفسه تعاني من عجز تجاري معه؟». ولم يكن يفكر من خلال الحمائية الجمركية في الصناعي والعامل والمستخدم في الأرض الأميركية فحسب، بل بالصناعي والمصرفي الأميركيّان اللذين يفضلان، مثلاً، العمل والاستثمار في  مدينتي مومباي وشنغهاي على ولايتي كولورادو ونيفادا في الداخل الأميركي. وأراد ترامب، ويريد، إرجاعهما للبر الأميركي. وهو كما ينفر من نزعتهما الكوزموبوليتية العالمية، ينفر من النخبة الإدارية والثقافية في واشنطن ونيويورك، ولطالما شعر طوال سنوات أربع في البيت الأبيض بالغربة في واشنطن. وعلى الأرجح أنه سيعود غريباً إلى هناك. ولم يستطع ترامب تحمّل جون بولتون مستشاراً للأمن القومي الأميركي أكثر من سنة وخمسة أشهر بين عامي 2018 و2019 رغم قربهما السياسي في ملفات الصين وايران، إذ يسخر خريج جامعة ييل في مذكراته من جهل ترامب عندما يذكر كيف سأل ترامب، بعد أن حدد لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي، إن «كانت فنلندا جزءاً من روسيا؟» (بولتون: «ما حدث في تلك الغرفة»، منشورات سيمون وشوستر، نيويورك 2020، ص 118). ولكن من المؤكد أن العامل الفقير الذي انتخب ترامب أعوام 2016 و2020 و2024 لا ينظر له مثل بولتون، بل يؤمن أن له نهجاً اقتصادياً يقيه العوز والبطالة.
ستبقى العقبة أمام ترامب في واشنطن، حيث لا تتفق وزارة الدفاع ومجمع الاستخبارات مع رؤيته تجاه روسيا وإيران والوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط
يرى ترامب التناقض الرئيسي مع الصين من ذلك المنظار الاقتصادي الذي يعتقد أن فيه تهديداً للتفوق الأميركي العالمي. كما يرى الشؤون الدولية عسكرياً وسياسياً من هذا المنظار الاقتصادي الذي يضع من خلاله بكين كمنافس رئيسي لواشنطن، تماماً كما رأى سادة البيت الأبيض أن التناقض الرئيسي هو مع موسكو في الحرب الباردة 1947-1989، ولكن من منظار عسكري- سياسي. وعبره، نظروا للشؤون الأخرى والدول الأخرى ولمجمل لوحة العلاقات الدولية. فترامب، ومن خلال رؤيته لخطر الصين، يريد إبعاد روسيا وكوريا الشمالية عنها وتحجيم إيران بوصفها ممراً للصين إلى الشرق الأوسط. واللافت للنظر أنه يشترك مع أوباما في رؤيته للخطر الصيني وإرضاء روسيا لإبعادها عنها، ولكنه يختلف مع بايدن-هاريس عندما يضعان الصين وروسيا كخطرين رئيسيين في سلة واحدة ويريدان مراضاة ايران، في استكمال لسياسة أوباما مع طهران. ويختلف ترامب مع بايدن- هاريس في قربهما من رؤية وزارة الدفاع ومجمع الاستخبارات الأميركية التي على ما يبدو فرضت عليه من خلال نص «استراتيجية الأمن القومي الأميركي» الصادر في الشهر الأخير من عام 2017 الذي وضع الصين وروسيا في خانة المهددين الرئيسيين للأمن القومي الأميركي (الصفحتان 46و47 من النص)، ثم تأتي كوريا الشمالية بدون ذكر إيران، سوى أن توسعها هو أحد العوامل الخمسة التي تزعزع استقرار الشرق الأوسط (ص48). وليس صدفة معارضة جيمس ماتيس وزير الدفاع الأميركي حينها، وهو جنرال متقاعد من المارينز، قرار ترامب في الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني عام 2018 (بولتون: ص 67) ورفضه أن طهران تمثل تهديداً رئيسيا للأمن القومي الأميركي (بولتون: ص71).
الآن ومع ترامب العائد إلى البيت الأبيض، يبدو أن ترامب الثاني هو كترامب في انتخابات 2016 و2020 وفق مؤشرات حملته الانتخابية عام 2024، مع جرعة أيديولوجية أكبر من المؤكد أن تعززها نسبة الأصوات العالية التي أخذها والتي تمثل أكثرية اجتماعية أميركية صريحة. ولكن هناك بيئة دولية معقّدة أكثر مما كانت عليه إبان فترته الأولى في البيت الأبيض، حيث تبلور التحالف الصيني- الروسي- الإيراني في الحرب الأوكرانية، وهو ما يجعل مهمته في عزل موسكو عنهما أصعب، ولو عبر جوائز ترضية أميركية للروس في أوكرانيا وسوريا. كما من غير المعروف كيف سيتصرف مع أنقرة التي تعمقت علاقاتها كثيراً مع موسكو وطهران في السنوات الأربع الماضية، فضلاً عن إرسال كوريا الشمالية قوات لمساندة الروس في أوكرانيا برضا صيني يوحي بأن مهمته أصعب في تكرار محاولة استمالة الزعيم الكوري الشمالي. وتبدو مهمته أقل صعوبة في احتواء طهران في ظل ضعف طهران في عالم ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، سواء كان هذا من خلال استثمار هذا الضعف مع «غورباتشوف إيراني»، كما فعل ريغان مع غورباتشوف السوفياتي، أو بالسماح لإسرائيل بضرب إيران في فصل ثالث من حرب 7 أكتوبر بعد غزة ولبنان في ظل توازن إقليمي جديد فقدت طهران فيه الكثير من عوامل قوتها بعد ضرب أذرعها. والأرجح، أن الشركاء في حلف الناتو لن يمانعوا، في ظل أزمة اقتصادية سببتها الحرب الأوكرانية، من تسوية للحرب مع بوتين ربما وفق ما نقله بولتون عن أن الرئيس الروسي قال له، في اللقاء التمهيدي لقمة هلسنكي في صيف 2018، إن أوباما أخبره أنه «يمكن حل المجابهة الأوكرانية إن لم تتجاوز روسيا ضم القرم عام 2014» (بولتون: ص 121) مع حكم ذاتي للروس في مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك وحياد أوكراني. ولكن ستبقى العقبة أمام ترامب في واشنطن، حيث لا تتفق وزارة الدفاع ومجمع الاستخبارات مع رؤيته تجاه روسيا وإيران والوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد