هل ينهي ترامب حقبة الزعامة الأميركية؟

4 سنوات قد لا تكفي لإنجاز مبدأ «أميركا أولاً» في السياسة الخارجية

ابتكر دونالد ترامب  في ولايته الأولى شعار «أميركا أولاً» و«اجعل أميركا عظيمة ثانية». لم يفقد هذا الشعار بريقه في حملة الانتخابات التي توجت بفوز ترامب على كامالا هاريس. لقد عنى هذا الشعار في ولاية ترامب الأولى (2016 – 2020) الكثير من التطبيق المتطرف، فظهر كفوضى هائلة في أكبر مؤسسة عبر التاريخ لصناعة السياسة الخارجية.
قبل فوز ترامب في الانتخابات الأخيرة، كتب الباحث ديفيد إي. سانجر في صحيفة «نيويورك تايمز» مقالاً مطولاً عن معاني «أميركا أولاً» في ولاية ترامب الثانية.
الواقع أن ترامب كان يتبنى سياسة خارجية تتلخص في «أميركا أولاً». كان بمثابة انهيار في عملية صنع السياسات الأميركية، وفق سانجر الذي يرجح بقوة أن رئاسة ترامب الثانية سوف تمثل عودة إلى «عصر المراسيم» المتعلقة بالسياسة الخارجية، غير المرتبطة بأي عملية سياسية، في لحظة من الخطر الدولي الأقصى.
إن أغلب ما قاله ترامب في حملته للعودة إلى منصبه يشير إلى أنه في فترة ولايته الثانية يخطط لمزيد من نفس الشيء، وأنه يعتبر عدم القدرة على التنبؤ سلاحه المميز. وهو يتلذذ بذلك، حيث قال لمجلس تحرير صحيفة «وول ستريت جورنال» في أكتوبر/تشرين الأول إنه لن يضطر إلى تهديد الصين باستخدام القوة العسكرية الأميركية بشأن تايوان لأن الرئيس شي جين بينج «يحترمني ويعرف أنني مجنون»، مستخدماً كلمة نابية قبل كلمة «مجنون» للتأكيد.
بغض النظر عن آراء خبراء السياسة الأميركية، ومنهم سانجر، فإن فوز ترامب الثاني أثبت أن فوزه الأول لم يكن مجرد خلل في نهج أميركا بعد الحرب العالمية الثانية تجاه العالم. وخسارة هاريس تعني أن فترة جو بايدن كانت النهاية الحاسمة لعصر كانت فيه الولايات المتحدة ضامنة موثوقة للأمن الغربي. وكما يكشف الصحافي الاستقصائي الأميركي بوب ودورد، في كتابه الأخير «الحرب»، فإن الفضل يعود إلى بايدن لعدم تحويل «خطأ باراك أوباما» في التراخي أمام الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم وأجزاء من شرق أوكرانيا عام 2014 إلى منهج سياسي، حيث تسبب بايدن في تعثر الخطط العسكرية الروسية.
ما أثبتته النتيجة أن ترامب ليس نزوة الناخب الأميركي الغضب والمهمش، بل هو تشكيل اجتماعي راسخ كان يتشكل منذ عقود ووصل إلى شكله الحالي في ترامب، وسيجد آخرين في المرحلة المقبلة. وبما أن أغلب الأحداث العالمية قائمة على مسارات السياسة الأميركية الخارجية، فإن الصراع الخارجي يشتد بقوة داخل الولايات المتحدة بين نهج الانعزالية و«العودة إلى الوطن»، وبين بناء التحالفات والعولمة. ولعل أصعب ما سيواجهه ترامب خلال سنواته الأربع المقبلة هو الإرث الكبير لبايدن في السياسة الخارجية. فالتخلص من تعهدات وتشبيكات بايدن في أوكرانيا والشرق الأوسط قد تستهلك فترة ترامب كاملة دون أن ينجزها بالكامل، وهنا مصدر «الفوضى» المحتملة في السياسة الخارجية الأميركية المقبلة، والتي أطلق عليها سانجر «عصر المراسيم»، وما يمكن أن نسميه أيضاً بـ«المبادرات الارتجالية».
لا شك أن الجمهوريين يشيرون الآن إلى أن الولايات المتحدة لم تكن متورطة في حربين خارجيتين أثناء إدارة ترامب، ولم تكن التوترات مع الصين حادة كما هي الآن. ولكن عندما كان ترامب رئيساً، كان مساعدوه يتهيؤون في بداية عطلة نهاية الأسبوع وهم يعلمون أن رئيسهم الذي يتجول في البيت الأبيض سوف يغرّد بتغييرات السياسة بعد التحدث عبر الهاتف مع أحد المانحين الرئيسيين أو زعيم أجنبي اتصل مباشرة للدفاع عن قضيته، متجاوزاً وزارة الخارجية أو مسؤولي الأمن القومي.
وهكذا قرر ترامب سحب القوات الأميركية من شمال سوريا بعد مكالمة هاتفية مع أردوغان. وعندما أدرك أنه كان ضحية خداع من جانب الرئيس التركي، تراجع جزئياً.
يضيف سانجر: «وهكذا قرر ترامب في عطلة نهاية الأسبوع سحب القوات الأميركية من شمال سوريا بعد مكالمة هاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتي فاجأت مساعديه. وعندما أدرك ترامب أنه كان ضحية خداع من جانب الرئيس التركي، الذي أراد ملاحقة الكرد في عمليته العسكرية الخاصة، تراجع جزئياً ونشر أنه ‘إذا فعلت تركيا أي شيء أعتبره، بحكمتي العظيمة التي لا مثيل لها، خارج الحدود، فسوف أدمر وأمحو اقتصاد تركيا تماماً’».
بعد فوز ترامب، كتب سانجر مرة أخرى بشكل أكثر وضوحاً أن فوز ترامب ينهي حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية من الزعامة الأميركية.
على مدى السنوات الأربع الماضية، زعم بايدن أن ولاية ترامب الأولى كانت مجرد زلة في التاريخ الأميركي. وأثبتت الانتخابات أن الرئيس المنتخب ترامب لم يكن دخيلاً على السياسة الأميركية.
يقول سانجر: «مرت أربعة أشهر فقط منذ دعا الرئيس بايدن حلفاء أميركا في حلف شمال الأطلسي إلى واشنطن للاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين لتحالفهم، وهو رمز لعصر من الزعامة العالمية الأميركية التي احتُفِي بها ذات يوم باعتبارها حجر الزاوية للديمقراطية وأفضل طريقة للحفاظ على السلام بين القوى العظمى».
لم يخف ترامب رغبته في الإشراف على تدمير هذا النظام العالمي. في ولايته الأولى، لم يكن يعرف حقاً كيف يفعل ذلك، وكانت تحركاته تواجه معارضة من قبل مؤسسة راسخة. الآن، أوضح أنه يمتلك المعرفة والدافع والخطة.
إذا نفذ ترامب وعود حملته، فسيتم استبدال عصر التجارة الحرة إلى حد كبير بالرسوم الجمركية – «أجمل كلمة» في اللغة الإنكليزية، كما يقول، دون الإشارة إلى حقيقة أن هذا النهج ساهم في الكساد الأعظم.
يشير سانجر إلى معادلة مشروطة. فقابلية شعار «أميركا أولاً» يعتمد إلى حد كبير على كيفية مزج خطابه الانعزالي مع رغبته الغريزية في أن يكون اللاعب المركزي في عصره.
يقول هال براندز، مؤرخ الحرب الباردة في جامعة «جونز هوبكنز»: «خلال فترة ولايته الأولى، تحدث ترامب غالباً وكأنه يريد الانتهاء من تقليد القيادة الأميركية. كان يتصرف غالباً كما لو كان يعيد معايرته. ما يقلق العديد من حلفاء الولايات المتحدة هو الخوف من أن تكون الفترة الثانية هي النسخة الأكثر نقاءً من أميركا أولاً، مع كل العواقب المزعزعة للاستقرار التي قد تجلبها».
الفرق الأساسي الذي يجسده ترامب هو هذا: لقد نظر الرؤساء، من هاري ترومان إلى بايدن، إلى حلفاء واشنطن باعتبارهم امتداداً للقوة وتكاملاً مع الولايات المتحدة. ينظر ترامب إلى هذه التحالفات على أنها عبء. وغالباً ما يعلن أنه لا يفهم لماذا تدافع الولايات المتحدة عن الدول التي تعاني واشنطن من عجز تجاري معها. لقد أعلن في ولايته الأولى رفضه لمفهوم أن أوروبا كانت حصناً ضد الاتحاد السوفييتي، وفي وقت لاحق، روسيا. أو أن اليابان كانت حاملة الطائرات الأميركية في المحيط الهادئ؛ أو أن كوريا الجنوبية هي المفتاح لاحتواء كوريا الشمالية.
في مقال له في مجلة «فورين أفيرز»، كتب الأكاديمي بيتر فيفر، الذي خدم في مجلس الأمن القومي أثناء إدارة بوش، إن «جوهر نهج ترامب في السياسة الخارجية لا يزال دون تغيير. ولكن السياق الذي سيحاول فيه تنفيذ شكله الفريد من نوعه في عقد الصفقات تغير بشكل كبير: فالعالم اليوم أصبح مكانا أكثر خطورة مما كان عليه خلال ولايته الأولى». ويلاحظ أن حملة ترامب كانت مليئة «بالواقعية السحرية: تفاخر خيالي ووصفات سطحية لا تعكس أي فهم حقيقي للتهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة».
كتب كل من شين غولدماشر وليزا ليرير في «نيويورك تايمز» أن فوز ترامب يبشر بعصر من عدم اليقين للأمة الأميركية. في خطاب النصر الذي ألقاه بولاية فلوريدا، أعلن ترامب أنه زعيم «أعظم حركة سياسية على الإطلاق».
لقد وعد ترامب بفك ارتباط البلاد بالصراعات في الخارج، وهو التحول نحو الانعزالية الذي وجد جمهوراً جديداً مع اندلاع حرب في أوروبا بين روسيا وأوكرانيا لما يقرب من ثلاث سنوات، ومع كون أن الشرق الأوسط على شفا حريق أوسع نطاقاً.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد