التوافق الكردي – العربي.. ركيزةُ استقرار في الاضطراب الإقليمي
التحالف الكردي - العربي في "قسد" وجودي وديمقراطي
شورش خاني
في ظل الصراعات الدامية التي تعصف بالشرق الأوسط، وخاصة سوريا، تبرز قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كفاعل رئيسي على الساحة السياسية والعسكرية في شمال وشرق سوريا. إلى جانب العشائر العربية، تشكل قسد ركيزة أساسية لاستقرار المنطقة، التي تواجه تهديدات مستمرة من تنظيمات متطرفة ومحاولات تدخل إقليمية. إن هذا التحالف الطوعي بين الكرد والعرب، إلى جانب مكونات أخرى، ليس مجرد تحالف تكتيكي لمواجهة التحديات الآنية، بل هو تعبير عن ديناميكيات اجتماعية وسياسية عميقة تهدف إلى إعادة هيكلة المشهد السياسي والاجتماعي في شمال وشرق سوريا، بما في ذلك الشروع في كتابة عقد اجتماعي جديد.
هذا الشروع في كتابة العقد الاجتماعي هو انعكاس للتطورات السياسية في المنطقة، ويهدف إلى ضمان تمثيل جميع المكونات في إدارة شؤونهم الذاتية. من خلال هذا المشروع الطموح، تبرز قسد ليس فقط كقوة دفاعية، بل كجزء من نسيج اجتماعي أوسع يسعى إلى تجاوز التوترات الاجتماعية والقومية بعقد اجتماعي يتسع لجميع الهويات الجماعية والفردية.
يُعد هذا التحالف نموذجًا لما يمكن أن نسميه “التحالف الوجودي”، حيث تدرك المكونات المحلية أن استمرارية وجودها ومصالحها مرهون بقدرتها على التعاون والتضامن في مواجهة الأخطار المشتركة.
قسد، بوصفها قوات الدفاع الذاتي التي تحمي الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، تمكنت من دمج القبائل العربية في إطارها العسكري وحامية لمشروع الشعوب والمكونات على الصعيد السياسي، ما عزز من قدرتها على مواجهة التهديدات، وخاصة من قبل تنظيم داعش. هذا الاندماج يعكس تحولاً اجتماعيًا مهمًا؛ إذ أن القبيلة، التي كانت تُعتبر تقليديًا مؤسسة مجتمعية قائمة بذاتها، وجدت نفسها منخرطة في مشروع سياسي أوسع يخدم استقرار المنطقة. يمكن تفسير هذا التحول من خلال منظور سوسيولوجي يعاين كيف أن البنية القبلية في مراحل الانهيار السياسي تتحول إلى شريك في مشاريع الإدارة من أجل حماية مصالحها وتوسيع نفوذها في النظام السياسي الناشئ.
في هذا السياق، يمكن اعتبار الشراكة بين الكرد والعرب في إطار قسد نوعًا من التحالف الطوعي الذي يقوم على “علاقات تبادلية” تضمن المصالح المشتركة للأطراف. هذا التحالف لا يُعبر فقط عن احتياجات أمنية، بل يتجسد في دعم التماسك الاجتماعي وتأسيس بنية مؤسسية تمكن المكونات المختلفة من التعبير عن حقوقها وضمان مشاركتها في إدارة شؤون المنطقة.
من جهة أخرى، فإن الفوضى الإقليمية المستمرة توفر أرضًا خصبة لظهور المنظمات الإرهابية واستغلال النزاعات المحلية. تنظيم داعش، الذي خسر معاقله الرئيسية، يسعى إلى إعادة بناء شبكاته في المناطق التي تشهد فراغًا أمنيًا أو توترات محلية. هنا، يبرز دور قسد في توفير الحماية عبر دفاعاتها الذاتية، مما يمنع التنظيمات المتطرفة من إعادة تشكيل نفسها في المناطق المحررة. ومن هذا المنطلق، يبرز مفهوم “الأمن الجماعي”، حيث يصبح الدفاع عن المنطقة مهمة مشتركة بين جميع المكونات.
إلى جانب هذه التهديدات، يبرز أيضًا التدخل الإيراني الذي يسعى إلى العبث بديناميكيات القبيلة عبر برامج مذهبية وتجنيد أفراد العشائر في ميليشيات محلية، وهو ما يشكل تهديدًا إضافيًا للتوازن القبلي والاجتماعي في المنطقة.
على الصعيد الإقليمي، تُظهر التدخلات التركية في شمال وشرق سوريا مثالاً واضحًا على التهديدات الخارجية التي تواجه هذا التحالف الوجودي. التدخلات العسكرية التركية، والتي تهدف إلى إحداث تغييرات ديموغرافية وجغرافية مباشرة وفورية، تهدد بتقويض الاستقرار المحلي. ورغم أن قسد تمكنت من التصدي لهذه التهديدات إلى حد بعيد، إلا أن كبح جماح هذه التدخلات يتطلب دعمًا دوليًا وإقليميًا أكبر لمنع حدوث تصعيد جديد. هذه التدخلات التركية لا تسعى فقط للسيطرة على الأراضي، بل تهدف أيضًا إلى تفكيك بنية التحالف الكردي العربي واستغلال نقاط الضعف القبلية لإحداث شرخ في المنطقة.
على الجانب الآخر، يرفض النظام السوري بشكل مستمر الاعتراف بالمطالب المشروعة للمكونات المحلية، سواء من الكرد أو العرب، في إطار حل سياسي شامل. النظام السوري يُصر على إدارة الأزمة بأسلوب تقليدي لا يأخذ بعين الاعتبار التغيرات الاجتماعية والسياسية العميقة التي حدثت في شمال وشرق سوريا، ما يزيد من تعقيد المشهد ويجعل حل النزاع بعيد المنال.
في الختام، يمكن القول إن التحالف بين قسد والعشائر العربية يمثل نموذجًا جديدًا للتعايش السياسي والاجتماعي في سوريا. بينما تستمر قوى خارجية، مثل تركيا وإيران، في محاولات استغلال الفوضى الإقليمية لتحقيق مصالحها، يظل التحالف الوجودي بين مكونات المنطقة هو القوة التي تمنع الفوضى من السيطرة على المشهد. هذه الشراكة بين الكرد والعرب تعكس تحولًا جوهريًا في ديناميكيات السلطة والنفوذ، وتحمل في طياتها إمكانية بناء نظام سياسي مستقر قادر على مواجهة التحديات.