محمد سيد رصاص
بعد أربعة أشهر على وصول روح الله الخميني للسلطة في 11شباط/فبراير 1979، وصل وفدان من التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين إلى إيران. ووفق المرويات الشفوية داخل أوساط في المعارضة السورية آنذاك، فإن الجماعة عرضت على الخميني مبايعته خليفة للمسلمين مقابل إعلانه أن “خلافات الصحابة حول الخلافة والإمامة هي خلافات سياسية وليست معتقدية إيمانية”، ويقال إن الزعيم الإيراني قد استمهلهم في الرد، ثم أتى الجواب في نهاية ذلك العام لمّا نُشر الدستور الإيراني الجديد الذي قال في مادته الثانية عشرة أن “الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثنا عشري”.
منذ البداية اختار الخميني الوجه الشيعي لنظامه، رغم علاقته مع جماعة الإخوان المسلمين التي تمتد إلى مشتركات فكرية، ويبدو أنه قرأ أن “تصدير الثورة الإسلامية”، وهي العبارة السرية لتمدد النفوذ الإيراني، لن تجد أرضاً ملائمة سوى عند الشيعة. وعملياً نجح الخميني في ذلك هو وخليفته علي خامنئي، وهذا إذا أخذنا بعين الاعتبار ما حققته إيران من تمدد نفوذها الإقليمي في العراق، ولبنان، واليمن عند الحوثيين الذين لم يتقيدوا بوسطيّة الإمام زيد بين السنة والشيعة.
اعتمد التمدّد الإيراني على تنظيمات سياسية تؤمن عقائدياً بـ”ولاية الفقيه” ولها امتدادات اجتماعية قوية في الوسط الشيعي المحلي، ومقابل ذلك كانت إيران تمتد في حالات أخرى من خلال تحالفات كعلاقتها مع حركتي “حماس” و”الجهاد” في فلسطين، وهذه التحالفات قد جعلت لإيران امتدادات مؤثّرة في الساحة الفلسطينية وأمسكتها ورقة مؤثرة في مجريات القضية الفلسطينية التي كانت منذ عام 1948 الدينامو الرئيسي المحرِّك للشرق الأوسط وللكثير من دواخل بلدانه. ويمكن القول إن هذا الامتداد الإقليمي الإيراني قد جعل إيران في وضعية المنافس لإسرائيل حول من يكون القوة الإقليمية العظمى، والأرجح أن الحميّة التي يبديها بنيامين نتنياهو من أجل توجيه ضربة قاضية لإيران هي في إطار ذلك، وليس البرنامج النووي سوى قمة جبل الجليد عنده.
ولكن من المؤكد أن إيران لم تصل لأن تكون حتى الآن “القوة الإقليمية العظمى” كما قال الجنرال رحيم صفوي القائد السابق للحرس الثوري الإيراني والمستشار الحالي في مكتب خامنئي. فهي تملك فائضاً من القوة أكبر من جسمها ولا تستطيع تصريف هذه القوة في السياسة والفكر والثقافة، إذ إن الشيعة أقلية بين المسلمين، حيث بحسب “روزنامة العالم 2020-the world almanac2020 ” وهي مجموعة إحصائية تصدر منذ عام 1868 في نيويورك، فإن عدد مسلمي العالم في تموز/يوليو عام 2019 بلغ مليار وثمانمئة وثلاث وتسعون (1.893 مليار نسمة)، منهم 1.687 مليار من السُنّة (صفحة 698)، كما أن الفُرس هم القومية الأصغر عدداً بين القوميات الأربع الكبرى في المنطقة، أي العرب والترك والكرد والفرس، والفرس هم ليسوا أكثرية في إيران بل هم الأقلية الكبرى. وفي هذا الصدد فإن محاولة إبراز وجه إسلامي لإيران لم يكتب لها النجاح، ذلك أن وقائع ما بعد 11 شباط/فبراير1979 تقول إن هناك وجهاً شيعياً- فارسياً هو الأساس في إيران الخميني- خامنئي.
هنا يلفت النظر أن امتداد ايران في الإقليم قد أشعل نار المذهبية الطائفية في عموم المنطقة وخاصة من خلال عمليتي سيطرتها على عراق ما بعد 3 نيسان/إبريل 2003 ولبنان ما بعد 7 أيار/مايو 2008 عبر أذرعها المحلية، لكنّ تمددها أثار توتراً كبيراً في البلدين جعل سيطرة هذه الأذرع هشّة وقابلة للاهتزاز، ولعل لبنان في اختلاف جسمه الاجتماعي العام حول “حزب الله” يقدم مثالاً كبيراً على ذلك، وبالمثل نجد خلاف اليمنيين حول “الحوثيين”، وخلاف العراقيين حول ظاهرات مثل “الحشد الشعبي”، وقد لوحظ في حرب ما بعد 17 أيلول/سبتمبر 2024 في لبنان، وقبلها “حرب المشاغلة والإسناد لغزة منذ 8 أكتوبر 2023 التي أعلنها حسن نصر الله”، مقدار عدم الإجماع اللبناني حولها، وإذا قارنّا في سجل الحروب منذ عام 1948 فإن حرب ما بعد 17 أيلول/سبتمبر 2024 هي الأكثر اختلافاً عليها داخل الجسم الاجتماعي المحلي في بلد عربي أثناء لحظة حرب مع اسرائيل، وهذا اختلاف لم يوجد بمقداره في الجسم الفلسطيني تجاه حرب 7 أكتوبر2023، رغم مرارات ما فعلته حماس تجاه حركة “فتح” منذ سيطرتها على قطاع غزة عام 2007، ورغم ما أبدته حركة فتح تجاه جدوى ما فعله يحيى السنوار في يوم7 أكتوبر، وفي يوم 17 أيلول/سبتمبر 2024، وقبلها جزئياً في فلسطين 7 أكتوبر 2023، سقطت لبنانياً مقولة قالها ماوتسي تونغ عن “التناقض الرئيسي”، عندما دعا إلى تناسي خصومة وصلت لمذابح بين حزب الكيومنتانغ القومي والحزب الشيوعي أمام مشهد الغزو الياباني للصين عام1937، إذ لا يملك اللبنانيون الآن اجماعاً مارسوه في يوم تحرير الجنوب عام 2000 وكانوا أقل اختلافاً في حرب 2006، ويمكن القول في هذا الصدد أنَّ الفلسطينيين هم أكثر اختلافاً تجاه حرب 7 أكتوبر من أي حالة مجابهة سابقة حصلت لهم مع اسرائيل ولو أنهم لم يصلوا لما وصل إليه اللبنانيون في هذه الأثناء.
هذا الخلاف في الحرب يعود لموقف اللبنانيين تجاه النفوذ الإيراني في بلادهم وتجاه ذراع إيران المحلية، وليس موقفاً من إسرائيل، وهو ما تمظهر في الحرب، ولكنه جاء كفاتورة يدفعها حزب الله عن كل ما حصل منذ يوم 7 أيار/مايو 2008 منه تجاه لبنان واللبنانيين، ويجب تذكّر أنه في تظاهرات ما بعد 17 تشرين الأول/أكتوبر2019 تمظهر شيء من هذا الموقف الاجتماعي تجاه حزب الله وحليفه ميشيل عون وتجاه إيران، وكذلك فإن النفوذ الإيراني في لبنان قد أنشأ أكبر خلاف عربي حول حرب تحصل في بلد عربي مع اسرائيل منذ عام 1948، كالحرب الجارية حالياً في لبنان، وهذا يعود لأدوار لعبتها إيران في عموم المنطقة، وأدوار لعبها حزب الله لصالح طهران في العراق وسوريا واليمن.
كل ما سبق يخلق ضعفاً في القوة الإيرانية بعموم المنطقة، ويجعلها تعيش فائضاً في القوة لا تستطيع استعماله وترجمته، كما يجعل هذه القوّة سهلة التقويض وهشة. بالمقابل، فإن هناك دول تملك القوّة وتملك معادلاً لهذه القوة، مثل الولايات المتحدة الأميركية بعد عام1945، عندما امتلكت أيديولوجية ليبرالية في مواجهة ماركسية الكرملين السوفياتية، وهي وجدت في غالبية مجتمعات أوروبا الغربية أرضية اجتماعية – ثقافية لقبول هيمنتها وجعلت تفوقها التكنولوجي- العسكري قابلاً للترجمة في السياسة والثقافة، وهذا ما سهّل على واشنطن أن تظهر لها مقبولية أوروبية غربية رسمية واجتماعية أثناء مجابتها للاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة (1947-1989)، والأرجح أن هذا أحد أسباب انتصار واشنطن على موسكو في تلك الحرب التي كانت القارة الأوروبية ساحة رئيسية لها.