“النظام الجديد” بعد حسن نصرالله.. خياران أمام دمشق

حسين جمو

أزاحت إسرائيل جيلاً بأكمله من قيادات حزب الله وحماس في الأشهر الأخيرة، وتوجت سلسلة الملاحقات المعقدة باغتيال كل من رئيس حركة حماس إسماعيل هنية، ثم درة تاج الاستخبارات والتقنية الإسرائيلية وهو اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله وعدد من قيادات الحزب في غارة استخدمت فيها 80 قنبلة بالضاحية الجنوبية.

قبل نحو ساعة فقط من استهداف إسرائيل القيادة المركزية لحزب الله اللبناني في بيروت واغتيال حسن نصر الله، كان بنيامين نتانياهو يلقي خطاباً في نيويورك أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان قد أعطى الأمر- قبل الخطاب- بتنفيذ الهجوم الإسرائيلي غير المسبوق.

في خطابه أمام الأمم المتحدة، ألقى نتانياهو كلمات مليئة بالتحدي وتجاهل الجهود الدبلوماسية للتهدئة، وأصر على استكمال أهداف إسرائيل بدون أي تراجع عن تدمير حركة حماس وتحييد حزب الله.  وقال متحدياً: لا يوجد مكان في الشرق الأوسط لا تستطيع ذراع إسرائيل الطويلة الوصول إليه.

بحسب قراءة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، فإن “اغتيال نصر الله يمثل نقطة تحول تاريخية يمكن أن تغير ميزان القوى في الشرق الأوسط”، على حد تعبيره. ومن هوايات نتانياهو الشخصية إطلاق تقييمات في جمل مكثفة يدوم أثرها سنوات طويلة. وإذا كان لكلامه أعلاه أن يبقى له أثر فإن “تغير ميزان القوى” يحمل طابعاً إبادوياً لما يسمى “محور المقاومة”، لكن “نقطة التحول” البنيامينية قد تحمل وجهاً مدنياً قاسياً، وهو تفكيك المجتمع الشيعي اللبناني، وإخلاء جبل عامل من الشيعة، إضافة إلى تدمير الشبكة الريعية الاجتماعية لحزب الله وحركة أمل والمنظمات الخيرية الرديفة، ما يترك شيعة لبنان بلا مرجعية دينية واقتصادية. وهذه طريقة، للأسف تشترك فيها كل قوى الشرق الأوسط، على رأسها تركيا والنظام السوري والمعارضة السورية المسلحة والميليشيات السنية والشيعية في العراق. كافة هذه الكيانات لا تكتفي بإزالة القوى المناهضة لها، إنما تصر على تدمير المجتمع ما أمكن، بتهجيرها وإفقاره وإذلاله بطريقة القرون الوسطى التي يعتبرها هؤلاء “فخامة التاريخ” لديهم، والفخامة هي الحرية في اضطهاد المغلوبين.

في كل الأحوال، من يتتبع سيرة بنيامين نتانياهو في كتابه “مكان تحت الشمس” الصادر عام 1995، ويقارن المكتوب بقلمه حينذاك مع ما يفعله اليوم، سيرى العجب في أن الرجل لم يتغير قط. لديه قناعة لا تتزحزح في أن القوى الفلسطينية، بدون استثناء، ليست شريك سلام، بل تنتظر الفرصة لإبادة الشعب اليهودي. على هذا الأساس، لم يعتبر نتانياهو يوماً، مذ كان زعيماً للمعارضة على رأس حزب الليكود، ياسر عرفات شريكاً للسلام. فيقول إن عرفات حين عاد إلى غزة وأريحا بموجب اتفاق أوسلو عام 1993، أبلغ زواره أن اتفاق أوسلو مثل “صلح الحديبية”، مؤقت وسرعان ما سيستخدمه منصة للهجوم على اليهود. لقد وصف نتانياهو منظمة التحرير أنها شريك غير جدير بالسلام، لكنه لا يقف عند التوصيف، بل يتصرف ويجند موارد الدولة وأذرعها على هذا الأساس. لذلك لم يكن سراً أنه لم يمانع سيطرة حماس على غزة، مقابل إضعاف السلطة في رام الله. فبالنسبة له كلاهما عدوان. ولكي يحقق نتنياهو رؤيته فإن عليه منع حزب العمل من العودة إلى السلطة بأي شكل كان، فحزب العمل على حد وصف زعيم الليكود “متأثر عاطفياً بالدعاية العربية ويعيش عقدة الذنب من ضياع وطن الفلسطينيين”، وهو تعبير استخدمه في كتابه مراراً، بل إن كتابه “مكان تحت الشمس” المترجم للعربية عن دار الجليل، موجه أساساً للشباب اليهودي في سبيل إقناعهم بعدم الانضمام إلى حزب العمل وأحزاب اليسار. هو جاد جداً في ملاحقة خصومه وتدميرهم. يستخدم أساليب خصومه بدقة أكبر ضدهم. تهجير بتهجير. قتل بقتل. مدني بمدني. منزل بمنزل. كأنه يقول لخصومه: “إذا كنت مجرماً فسترى إجرامنا”. في الوقت نفسه، يقول إنه يمد يده للسلام لكل من لديه الرغبة الصادقة، والترتيبات الأمنية المستقبلية الضامنة. على هذا الأساس، أيد نتانياهو معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والإسرائيلية الأردنية، والاتفاقيات الإبراهيمية مع الإمارات والبحرين.

لقد درس نتانياهو “ظاهرة العنف العربي” كما أسماه، وسرد تاريخ هذه الظاهرة، والاغتيالات السياسية في العالم العربي. وتعمّد تفصيل هذه الظاهرة قبل الدخول في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ليقول:

هناك أنظمة عربية تميل للاعتدال.. لكن هذه الحقيقة لا تغير الصورة العامة البشعة، التي يجب التعرف عليها وفهمها، لكي نبلور رأياً متزناً عن السياسة الشرق أوسطية: العنف ظاهرة دائمة في الحياة السياسية في كل الدول العربية. الشرق الأوسط المنطقة الأكثر عنفاً على وجه الأرض.

لا يتردد نتانياهو في أن يكرس موارد حكومته وجيشه لإخراج هذا العنف من دياره. إنه يعتقد جازماً أنه خبير في كشف العنف، ويتصرف استباقياً قبل أن يبادر أصحاب العنف التاريخيين، على عكس حزب العمل واليسار الإسرائيلي الذي يترك أولاً العنف يحدث ضرراً على الإسرائيليين ثم يتحرك بعد ذلك!

الآن، وبعدما بدأ نتانياهو التبشير بتغير موازين القوى في الشرق الأوسط لعشرات السنوات القادمة، من اللافت الافتراض أن إيران وحزب الله أكثر القوى التي تفهم شخصية إسرائيل في ظل قيادتها الحالية. لو كان حزب العمل هو الحاكم في إٍسرائيل، ربما بلغت صواريخ حزب الله تل أبيب منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أي بعد يوم من هجوم حماس الدامي حيث يحيى السنوار، شبيه نتانياهو، لكنه لم يفهم نتانياهو كما فهماه حسن نصرالله وعلي خامنئي.

موازين القوى المتغيرة قادم، وتأثير ذلك على الشرق الأوسط مضطرب وغامض عدا شيء واحد وهو ان إسرائيل تقود “النظام الجديد”، وهو أيضاً اسم العملية التي اغتالت حسن نصرالله، وربما اختيار العنوان مدروس كما كل شيء لدى نتانياهو.

القوى المتضررة تستعد لهذا التغير، ومعظمها متأخر للغاية لكي تلحق حجز مكان لها في قيادة هذا التغير والتغيير. هناك النظام السوري، وهو أن لم يكن أكثر المتضررين فهو أسرع المتضررين وأقربهم، فالفوضى القادمة في بنية حزب الله، وتهشيم “مجتمع المقاومة” الذي جعل شيعة لبنان رقماً مرجعياً في البلد، سيترك دمشق بلا سند في حال اندلعت حرب داخلية مجدداً، واستأنفت قوى المعارضة الهجمات على النظام السوري وهو في أضعف حالاته. سيسعى النظام عاجلاً إلى تحصين نفسه وسط تداعي وتفكك محور الممانعة بشكله الحالي، وليس أمامه – إلى أن يعاد بناء محور المقاومة- سوى التفكير في خيارين: الأول هو التوافق الداخلي السياسي على قاعدة السلام الاجتماعي للجميع، ومدخل هذا التوافق هو تشاركية سياسية تشمل دمشق والقامشلي، وفي مرحلة لاحقة إدلب، وهو ما من شأنه المساهمة في تخفيف الضغوط الأميركية على النظام، وربما فتح أبواب أمام النظام للتطبيع مع العرب ودول الجوار من موقع قوة. والخيار الثاني هو الاستسلام أمام تركيا وتوكيلها بترتيب تسوية مع المعارضة المسلحة على شكل مصالحات، وهذا الخيار سيضع النظام تحت الضغوط التركية من أجل الإبقاء على هوية الدولة السورية هوية أحادية، أي اغتيال أي انفتاح داخلي ضروري كفيل بإنقاذ الدولة والمجتمع، وسيكون على دمشق فقط الانفتاح على “الإرهاب التاريخي” الذي يتلبس فصائل المعارضة الموالية لتركيا.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد