“رسائل” أردوغان لا تصل إلى أهدافها!
محمد نور الدين
من استمع إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطابه أمام “شورى إمام – خطيب” في العاشر من أيلول/سبتمبر الجاري، يدرك مدى “الخيال” السياسي الذي ذهب إليه أردوغان، وفي الوقت نفسه التناقض الذي أوقع نفسه فيه.
قال أردوغان إن إسرائيل تهدف من المجازر في غزة والضفة إلى احتلالهما. وأضاف: “لقد قلت بالأمس إن إسرائيل لن تتوقف في غزة. إذا استمرت إسرائيل على هذا النحو وبعد أن تحتل رام الله، سوف تضع عينها على أماكن أخرى. الدور سيأتي على دول المنطقة الأخرى، سيأتي على لبنان وسوريا، وسيضعون نصب أعينهم أراضينا بين دجلة والفرات. وهم يعلنون ذلك بصراحة من خلال الخرائط التي يظهرونها. أعلن اليوم أنهم لن يكتفوا باحتلال غزة. لذلك نحن نقول إن حماس تقاوم باسم كل المسلمين. ولذلك حماس تدافع ليس فقط عن غزة، بل عن أراضي المسلمين وعن تركيا. إن الوقوف في وجه إرهاب الدولة الإسرائيلي هو بالنسبة لنا واجب إسلامي وواجب ديني ومسألة وطنية، وبالطبع مسألة قومية.”
وأضاف: “لذلك، في هذه المرحلة الحساسة، على الدول الإسلامية أن تستيقظ وتنتبه للخطر، وأن تضاعف من تعاونها. إن خطواتنا الجديدة تجاه مصر وسوريا تهدف إلى تشكيل خط تضامن ضد التهديدات التوسعية المتنامية. يجب على كل الدول الإسلامية أن تتخذ موقفاً مشتركاً ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يعرف أين ينتهي. الخطوة الوحيدة التي ستوقف العصابة الإسرائيلية وإرهاب الدولة الإسرائيلي هي تحالف الدول الإسلامية. يجب أن نقوم بذلك. ما فعلناه مع مصر في المرحلة الجديدة سيكون لصالح غزة وفلسطين. والاتصالات التي نقوم بها مع الدول الجارة ستكون لصالح المنطقة. وسنواصل توسيع صداقاتنا في المنطقة. ونحن مصممون على اتخاذ كل الخطوات لتوسيع مجال المناورة في سياستنا الخارجية.”
ربما يبدو هذا الخطاب مفاجئاً إلى حد كبير، باعتبار أنه يصل افتراضياً إلى الحد الأقصى الذي يسبق الخطوة الأخيرة وهي قطع الروابط السياسية والاقتصادية مع إسرائيل. لكن الأمور لا تبدو كذلك عند النظر إلى العديد من الخطوات التي يمكن اعتبارها إشارات إلى أن كلام أردوغان موجه للاستهلاك العام محلياً وعربياً وإسلامياً.
1-الحديث عن “تحالف إسلامي” لا يتماشى مع كون تركيا أول دولة مسلمة اعترفت بإسرائيل عام 1949 ولا تزال. ولا يتماشى مع عدم اتخاذ تركيا أي خطوة دبلوماسية لقطع أو تخفيض العلاقات مع إسرائيل رفضاً لمجازرها في غزة. ولا يتماشى مع استمرار التصدير التركي بزخم كامل إلى إسرائيل على مدى ثمانية أشهر رغم المجازر. كذلك، لا يتماشى هذا الحديث مع التحايل لتصدير البضائع إلى إسرائيل بطريق غير مباشر منذ أيار الماضي، سواء عبر دول ثالثة أو تحت اسم “دولة فلسطين”، والجميع يعلم أنه بعد إعلان تركيا توقفها عن تصدير المنتجات إلى إسرائيل في أيار/مايو الماضي، ارتفعت صادرات تركيا إلى “دولة فلسطين” عشرات الأضعاف وهي أساساً موجهة إلى إسرائيل وليس فلسطين.
2-ولا يتماشى الحديث عن “تحالف إسلامي” مع واقع أن مواقف الغالبية الساحقة من الدول الإسلامية، ولا سيما الكبيرة والمؤثرة منها، أظهرت تواطؤاً مع إسرائيل في العدوان على غزة. وأردوغان يعرف ذلك جيداً، بل هو رئيس دولة تقيم مع إسرائيل علاقات اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية وأمنية. وما الدعوة إلى تحالف إسلامي لا تريده الدول الإسلامية وغالبيتها تدور في الفلك الأميركي، إلا مجرد ذريعة لتبرير عدم اتخاذ تركيا أي موقف جدي من إسرائيل.
3-ولا يتماشى الحديث عن تحالف إسلامي مع كون تركيا عضواً قديماً في حلف شمال الأطلسي. وعلى الرغم من أن تركيا تخالف الحلف في العديد من القرارات، فإنها لا يمكن أن تتخذ مواقف إسلامية معادية لإسرائيل، وهو ما يتعارض مع استراتيجيات الحلف في الشرق الأوسط.
5-وإذا تجاوزنا الكلام عن تحالف إسلامي عام، فإن حديث أردوغان عن خطوات تجاه “الجيران” والرغبة في تشكيل “خط تضامن” لمواجهة إسرائيل يتناقض مع الدور المحوري لتركيا في المخططات الأميركية تاريخياً، ومنذ انفجار “الربيع العربي” عام 2011. فالكل يعلم الدور التركي في إضعاف سوريا وتفتيتها، ودعمها الكامل للمعارضات وتسليحها وتوظيفها في معارك داخل سوريا، وفي القوقاز وليبيا وغيرها. وقد وصلت تركيا لاحقاً إلى احتلال أجزاء من أراضيها على مدى سنوات في ثلاث عمليات عسكرية كبرى. أكثر من ذلك، إحدى أكبر مشكلات سوريا هي الفوبيا التركية من المكون الكردي في سوريا (وفي كل المنطقة)، واتخاذه ذريعة للتدخل العسكري في شمال وشرق سوريا (كما في إقليم كردستان العراق ومنطقة شنكال/سنجار)، مما ضاعف من فشل أي محاولات للمصالحة الداخلية في سوريا، وبين تركيا وسوريا خارج أي تدخل في الشؤون الداخلية السورية.
لقد أبلغت سوريا تركيا، ودائماً عبر الروس، وأحياناً علناً، أنها مستعدة للتفاوض من دون شرط الانسحاب التركي المسبق من سوريا. ومع ذلك، فهمت تركيا هذا “التراجع” السوري على أنه ضعف، بل رفعت في مواجهة سوريا شرط تطبيق القرار 2254 الذي ترفضه سوريا، كما دعت إلى انتخابات نيابية ودستور جديد وحكومة “شرعية”، وهي كلها تدخلات في الشؤون الداخلية السورية.
وفي يوم الثلاثاء، العاشر من أيلول/سبتمبر الجاري، مضت سوريا في خطوة لإظهار حسن النية، فلم تعارض عودة تركيا للمشاركة كعضو مراقب في اجتماعات جامعة الدول العربية بناءً على دعوة الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط. وتلا ذلك كلمة لوزير خارجية تركيا هاكان فيدان، في نتيجة فورية لزيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى تركيا ولقائه بالرئيس أردوغان، في ما اعتبر تطبيعاً “شبه نهائي” للعلاقات بين البلدين.
ومع أن البعض قال إن هذه التطورات (التخلي عن شرط الانسحاب التركي وعدم الاعتراض على دعوة تركيا للجامعة) تأتي في سياق انفراجات إقليمية ولا سيما بين تركيا وسوريا، فإن ما جرى في إثرها أعطى خلاصات معاكسة. فقد انسحب وزير الخارجية السوري من القاعة فور الإعلان عن إلقاء فيدان كلمته، ومن ثم رفضت سوريا المشاركة في المنتدى الاقتصادي العربي – التركي المقرر عقده في إسطنبول.
كان واضحاً أن تركيا لم تغادر مواقفها السابقة تجاه سوريا، وأن كل هذه الضوضاء الروسية والتركية لم تحمل أنقرة على التعهد بالانسحاب- ولو لاحقاً – وعلى مراحل – من الأراضي السورية المحتلة. وقد أكد المقداد أنه إذا أرادت تركيا اتخاذ خطوات جديدة في التعاون السوري التركي، وأن تعود العلاقات إلى طبيعتها، عليها أن “تنسحب من الأراضي العربية التي احتلتها”.
لذلك، فإن الحديث عن “خط تضامن” أو تعاون تركي مع سوريا والجيران لا محل له من الإعراب في ظل احتلال تركيا لأراضٍ سورية وعراقية، وفي ظل رفض تركيا المصالحة مع سوريا. فكيف يمكن لتركيا أن تقيم خط تضامن مع سوريا وفي مواجهة إسرائيل حتى؟
6-مسألة أخرى تظهر مدى عدم مصداقية أردوغان في سياساته الخارجية وهي مسألة الانضمام إلى مجموعة “بريكس”. فعلى امتداد السنوات الماضية، كان الرئيس التركي يرفع الصوت ضد حلف شمال الأطلسي وضد سياسات العالم الغربي، واتهامهم بدعم الإرهاب وتعزيز قوة منافسي تركيا في المنطقة مثل اليونان وجنوب قبرص. ولكن كانت كل هذه الانتقادات تسقط وتعود تركيا إلى الحضن الأطلسي مقابل بعض الفتات من المكاسب.
الآن، بطلب تركيا الانضمام إلى مجموعة “بريكس”، تدرك أولاً أن مجموعة “بريكس” ليست مجموعة معادية للغرب، ففيها دول غربية الهوى بالكامل مثل السعودية والإمارات والهند ومصر وإثيوبيا. وثانياً، إن أردوغان، وفقاً للعديد من الكتاب الأتراك، يفعل ذلك تكتيكياً وليس استراتيجياً، للضغط على الغرب من أجل الحصول على بعض المكاسب.
يقول الكاتب التركي محمد علي غولر إن “حكومة أردوغان تنظر إلى “بريكس” ومنظمة شنغهاي من منظور تكتيكي وليس استراتيجياً. أي أن أردوغان يريد استخدام “بريكس” و”شنغهاي” كورقة مساومة مع حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي”. وتقول الكاتبة مهدان صاغلام: “إن تركيا تهدف من الانضمام إلى “بريكس” أن تكون منصة اعتراض على السياسات الغربية ضد تركيا، وأن تكون مقياساً لردة فعل الغرب، وأن تختبر تأثير هذه العضوية على بلد عضو في الناتو ومرشح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي”.
تبدو تركيا كعادتها “منعدمة الوزن” فلا هي تعارض الغرب ولا هي تتحالف مع الشرق. وما يهمها أولا وأخيراً تنفيذ أجنداتها الخاصة بالقومية والتوسعية التركية من سوريا والعراق الى القوقاز وشرق المتوسط. لذلك من الطبيعي ألا تصل “رسائل” أردوغان المتعددة إلى أهدافها.