المركز الكردي للدراسات
قبل سنوات، كان المسؤولون الأتراك يطلقون تصريحات تتصل حتى بإدارة الحج في الأراضي المقدسة بالمملكة العربية السعودية. وبلغت في العام 2015 ذروة الهجوم التركي على الأنظمة العربية عبر ميليشيات الإخوان المسلمين والتنظيمات السلفية الجهادية، وتعمقت القطيعة بين تركيا ومصر على خلفية الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي وإنهاء حكم الإخوان في مصر.
قبل أي تحليل في نتائج ودلالات أول زيارة للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى أنقرة ولقائه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من المفيد تحديد نقاط التحول الرئيسية في السياسة التركية العربية، وهما حدثان مرتبطان بالاحتكاك مع روسيا.
في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، أسقطت الدفاعات التركية طائرة «سوخوي» روسية في سوريا على مقربة من الحدود التركية، وحدث بعدها انهيار في العلاقات مع روسيا بلغ مستوى غير مسبوق في تاريخ علاقات البلدين، وفاق حتى توترات الحرب الباردة المتقطعة بسبب قواعد حلف الناتو في تركيا على مقربة من الاتحاد السوفييتي.
حدث ما لم تكن تركيا تتوقعه يوماً بعد إسقاطها الطائرة الروسية؛ إذ تهرب حلفاؤها في حلف الناتو، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، من إعلان تضامنهم مع حليفتهم المتعرضة لضغط غير متناسب من جانب الروس. وشعر الأتراك بخيبة أمل قلّما اختبروها في تاريخهم، وهو أنهم تركوا لوحدهم في مواجهة روسيا. إن لحظة الإدراك التركي لخطر بقائها وحيدة في المواجهة مع روسيا أسس أعادت بناء كامل دبلوماسيتها عقب ذلك. فخرجت من كونها «دولة ناتو» إلى أن تصبح «ساحة تلاقي سلمي بين الناتو وروسيا»، وهو ما لم تنجح فيه رغم محاولاتها العديدة التوسط بشأن الحرب الروسية في أوكرانيا.
لقد أحدث هذا التغيير إنعطافة في سياسات تركيا تجاه القوى العظمى، خاصة أن المحاولة الانقلابية انضمت إلى «إسقاط الطائرة» في قناعة تركيا أن الغرب لم يتخل عنها فقط أمام روسيا، بل تآمر عليها بالمحاولة الانقلابية!
بناء على ذلك، أصبح الاحتلال التركي لسوريا منسقاً مع الجانب الروسي في عمليتي الاحتلال في شمال حلب عام 2016 وعفرين عام 2018. رغم ذلك، لم يتحول الانفتاح التركي «الاستسلامي» أمام روسيا في السياسات الدولية إلى انفتاح على النظام السوري.
بقي الخطاب التركي حاداً ضد دمشق إلى أن حدث التحول الثاني الذي سقطت معه السياسة التركية تجاه النظام، وهو مقتل 35 من جنودها في ضربة على قافلة تركية خلال معارك كبرى بين قوات النظام المدعومة بقوات روسية وإيرانية وبين القوات التركية وميليشيات المعارضة السورية من جهة ثانية. وبعد أيام من التهديدات التركية المتصاعدة، التي وصلت إلى حد منح الرئيس التركي مهلة للجيش السوري بالانسحاب من المناطق التي استعادتها من المجموعات المسلّحة في الحملة الأخيرة، ظهرت لهجة مغايرة من وزير الدفاع خلوصي أكار حيث تحدث عن إرسال تعزيزات إضافية إلى إدلب، لكن ليس بهدف إعادة احتلال المناطق المحررة بل لـ«إرساء وقف إطلاق النار»، من دون أن يذكر المطالب التركية السابقة بأن وقف إطلاق النار يجب أن يتم ضمن الحدود التي تنتشر فيها نقاط المراقبة التركية.
أسفرت حرب إدلب إلى سقوط الرؤية التركية لـ«اتفاقية سوتشي» التي تقضي بفتح الطريق السريع بين حلب واللاذقية وطرد المجموعات المسلحة من على جانبي الطريق. لكن مجدداً وقفت تركيا أمام «لحظة دبلوماسية جديدة» وهي أنها لا تستطيع المضي قدماً في هذا الطريق. ومنذ ذلك الحين، تبنت أنقرة – وبصمت في البداية – مسار التطبيع مع النظام السوري وكسب ما يمكنها كسبه من النظام، وتحديداً جعل معركة شمال وشرق سوريا ضد الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية معركة للنظام أيضاً بعد أن نجحت قبل ذلك في جعل المعركة ضد الإدارة الذاتية معركة تشكيلات المعارضة بكافة تنويعاتها الموالية لتركيا.
بعد معارك إدلب التي توقفت بشكل مستدام مع تفشي وباء كورونا في مارس/آذار 2020، لم يبق لتركيا أي أهداف أو برامج في سوريا سوى الحرب على الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية. وأصبحت كافة خيوط ميراثها واستثمارها في الحرب الأهلية السورية في خدمة هذا الهدف فقط، بينما اختفى من الأجندة النظام السوري، بل تم توجيه البيئة النفسية للمعارضة لتتقاطع مع الرؤية التركية عبر جعل الحرب على الإدارة الذاتية – والكرد في العموم بشكل أدق – أولوية للمعارضة السورية الموالية لتركيا. وتراجع النظام السوري حتى من أهداف هذه الفصائل استعداداً للمرحلة الحالية، وهي التطبيع التركي مع العرب، قبل الوصول إلى الخطوة التالية، وهو المصالحة مع النظام السوري. بدأ كل هذا المسار التدريجي من لحظة إسقاط الطائرة الروسية في 2015 واكتمل بمقتل 35 جندياً تركيا في معارك إدلب في 27 فبراير/شباط 2020. وهذا المسار الآن يختبر الأجواء في محطته العربية الجديدة، مع مصر، بعد نجاح التطبيع التركي مع دول الخليج.
قبل الحديث عن المكاسب المصرية من التخلي التركي عن مشروع نظام الإسلام السياسي في الدول العربية، من اللافت القول إن النظام السوري في مرحلة حرجة من العلاقات العربية التركية. فعلى عكس ما يتم تسويقه سياسياً من منافع كبيرة تنتظر دمشق في حال قبولها صفقة التصالح مع أنقرة برعاية النظام السياسي العربي، فإن واقع الحال يشير – على النقيض – إلى هامشية الحضور السوري في هذه المصالحة، لصالح طغيان مصالح الدول القيادية العربية. ويسعى العرب فعلياً إلى إجبار سوريا على المصالحة، عبر ضغوط متعددة المستويات، ومنعه من وضع شروط متطرفة على أنقرة، حتى على مستوى تمثيل تركيا في اجتماع جامعة الدول العربية وعدم قدرة وزير الخارجية السوري على فعل شيء سوى مقاطعة كلام هاكان فيدان. لأن هذا السياق يتوافق مع فرضية أن العرب يهدفون إلى إزالة عبء سوريا من طريق العلاقات العربية التركية. وليست سوريا محور أي جزء من هذا التقارب سوى ما هو ضروري لتسريع انطلاق العلاقات العربية مع تركيا عبر الالتفاف على المطالب السورية الأساسية، وهو الانسحاب التركي من الأراضي السورية المحتلة.
إقليم بلا حقوق إنسان
عناوين زيارة السيسي إلى تركيا لم تحمل مفاجآت في الملفات التي أفصح عنها الجانبان، وفق بيانات الطرفين. إذ ناقش الرئيس التركي مع نظيره المصري ملفات منها الحرب في قطاع غزة وسبل إصلاح العلاقات بين البلدين خلال محادثات في أنقرة في أول زيارة يقوم بها السيسي إلى تركيا منذ توليه الرئاسة بمصر.
يعود تدهور العلاقات بين أنقرة والقاهرة إلى عام 2013 بعدما أعلن السيسي، قائد الجيش المصري آنذاك، عزل الرئيس مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين إثر احتجاجات شعبية على حكمه الذي استمر عاماً واحداً. وكان مرسي حليفاً لتركيا، ويوصف بأنه أول رئيس مصري منتخب ديمقراطياً. وزار مرسي تركيا حين كان رئيسا في 2012.
وبدأت العلاقات بين البلدين في التحسن في 2020 عندما أطلقت أنقرة حملة دبلوماسية لتخفيف التوتر مع قوى بالمنطقة، بما شمل الإمارات والسعودية ومصر. وإذا تتبعنا تاريخ الحملة التركية لتحسين العلاقات، نجد أنها أتت بعد شهور قليلة من الضربة الروسية السورية للقوات التركية في إدلب.
في العام الماضي، تبادلت تركيا ومصر تعيين السفراء. وأعلنت أنقرة أنها ستزود القاهرة بطائرات مسيرة مسلحة. وتأتي زيارة السيسي لتركيا بعد زيارة أردوغان إلى القاهرة في فبراير/شباط الماضي، وهي أول زيارة له إلى مصر منذ 2012، متخذاً خطوة كبيرة نحو إعادة بناء العلاقات التي توترت بشدة على مدى عقد من الزمن.
وقال أردوغان وقتها وهو في القاهرة إن البلدين يريدان تعزيز التجارة من 10 مليارات دولار إلى 15 مليار دولار في الأمد القريب.
حرص أردوغان على تصوير الأمر وكأنها صفقات مربحة للطرفين، وهي كذلك فعلاً لو أن ليس لتركيا ما تخفيه من أهداف تصغر أمامها كل الأرباح والنقود، وهو أمنها القومي الذي من الصعب على المراقب الخارجي أو الدبلوماسي الأجنبي استيعاب الذعر الذي يسببه هاجس هذا الأمن القومي للدبلوماسية التركية داخلياً وخارجياً.
وقال أردوغان عن زيارة السيسي: «بطريقة تفكير مربحة للطرفين، سندفع بعلاقاتنا متعددة الأبعاد إلى الأمام»، مضيفاً أن أنقرة تريد على وجه الخصوص تعزيز العلاقات مع مصر في مجالي الغاز الطبيعي والطاقة النووية.
ووقع وزراء من البلدين 18 مذكرة تفاهم بشأن التعاون في مجالات شتى منها الطاقة والدفاع والسياحة والصحة والزراعة والتمويل والثقافة والتعليم والنقل. وقال إن أنقرة والقاهرة لديهما «موقف مشترك» من القضية الفلسطينية، فيما قال السيسي إنهما يدعوان لوقف إطلاق النار في قطاع غزة وإنهاء العنف في الضفة الغربية.
في كل الأحوال، ليست هناك أجندة لـ«حقوق الإنسان» في السياسة الخارجية لكافة دول الشرق الأوسط. وهي في هذه النقطة تعد فرصة لتركيا التي تريد صمت الدبلوماسية العربية الخفية التي كانت تثير مثل هذه القضايا ضد أنقرة عن طريق أذرع إعلامية أو حقوقية بشكل غير مباشر، مثل إثارة منصات ووسائل إعلام غربية جوانب حقوقية سلبية ضد تركيا. فضلاً عن أن أنقرة ستواصل سياساتها الحربية على ممثلي القضية الكردية داخل البلاد وخارجها بأريحية تامة، وفق سياسة «الصندوق المغلق» الذي أعلنه وزير الداخلية العثماني طلعت باشا تجاه كردستان وأرمينيا قبل نهاية الحرب العالمية الأولى. والفائدة الأخرى أن المنافع التي ستجنيها الدول العربية من العلاقات مع تركيا ستجعلها تساهم في إسكات احتجاجات دمشق تجاه تركيا، لكي لا تصبح سوريا عبئاً على الفوائد المشتركة بين تركيا والعرب. ولا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أن الانفتاح العربي على تركيا يخدم سوريا، لا النظام ولا المعارضة ولا الإدارة الذاتية، إنما قد يصبح محطة في مساعي تركيا إنهاء القضية السورية برمتها.