المركز الكردي يناقش مسألة الهوية الوطنية في سوريا

نظّم المركز الكردي للدراسات في العاشر من شهر أغسطس/آب الجاري جلسة حوارية بعنوان «أي هوية وطنية لأي سوريا؟». واستضاف البرنامج، الذي قدمه الزميل شورش درويش، كل من مدير مركز المواطنة المتساوية المحامي والناشط الحقوقي فائق حويجة، والباحث في قضايا الحوكمة والهوية د. زيدون الزعبي.
وبدأت الجلسة بالنقاش بالسؤال عن مفهوم الهوية الوطنية اصطلاحاً. وقال المحامي والناشط الحقوقي فائق حويجة إن هذه المسألة يتم طرحها في العديد من الدول، خاصة تلك التي تعاني من الصراع والتشظّي الاجتماعي والجغرافي والديمغرافي لإعادة بناء ما يمكن بناؤه. وأشار إلى أن هذا المفهوم ليس قديماً حيث كان التركيز على مفاهيم الدولة والأمة وهل يجب أن يكون لكل أمة دولة؟ وما إلى ذلك من التساؤلات. وأوضح أن الهوية الوطنية تعبير عن مجتمعٍ ما له تاريخ مشترك وثقافة مشتركة أو متقاربة ومصالح مشتركة، وليس بالضرورة أن يمتلك الجميع لغة مشتركة، بل أن توجد لغة يتفاهمون بها ضمن بقعة جغرافية معينة يطمح بها الجميع إلى تشكيل أمة.
ومن جهته، قال الباحث في قضايا الحوكمة والهوية د. زيدون الزعبي إن الهوية الوطنية هي هوية مصطنعة «أي قابلة للصنع» وفق الحاجة لها، مثل الهوية الأميركية التي تم صنعها لتشكيل الأمة الأميركية. حيث أن وجود الهوية الوطنية حاجة ضرورة لبقاء المجتمع متماسكاً ضمن الدولة، مضيفاً أنه يمكن تشبيهها بـ«الملاط» الذي يحمي بنية الدولة من الزعزعة. ولفت إلى أن بناء الهوية الوطنية السورية يعتبر ضرورة من ضرورات حل الأزمة الحالية، حيث أن جميع السوريين على اختلاف توجهاتهم: العروبية، الإسلامية، وغيرها، غير مقتنعين بالحدود السورية الحالية ويطالبون في أدبياتهم ببناء سوريا لا تشبه سوريا الحالية. وقال الزعبي إنه عندما استلم حزب البعث السلطة فرض على جميع السوريين هوية عربية صرفة، حيث بقي الصراع دفيناً وانفجر مع بداية عام 2011.
وبمتابعة حديثه عن مفهوم الهوية الوطنية، أشار المحامي والناشط الحقوقي فائق حويجة إلى أن بناء الأمة، والذي يعادل بناء الهوية الوطنية، كان نتيجة صعود طبقة ما بحاجة إلى توحيد سوق اقتصادي يلبي حاجة المكونات المختلفة، كما بُنيت الأمة الفرنسية والهولندية والإيطالية. وأوضح أن سوريا في التاريخ الحديث لم تكن دولة واحدة بل دويلات متحالفة أحياناً ومتحاربة أحياناً أخرى، ولم يكن لديها سوق اقتصادي واحد ليُنتج على إثره أمة واحدة بشكل تلقائي. وأضاف أن سوريا الحالية التي نشأت عام 1920 نتيجة معاهدة سايكس بيكو لم تكن يوماً تعبّر عن إرادة الشعب السوري واحتياجاته ككل. وكان يلزم بناء هوية وطنية من الداخل. ولكن على العكس من ذلك، تم فرض الهوية التي تريدها الدولة بحسب علاقاتها وصراعاتها مع الخارج، فيما بقيت عوامل الاندماج الداخلي كما كانت في فترة الدويلات السورية. وبمجرد ما اهتزت الدولة، اهتزت البنية المجتمعية ككل وأصبح المجتمع السوري منقسم هوياتياً. ولفت حويجة إلى عامل آخر أثّر في إنتاج حالة الانقسام وهو المظلومية التاريخية التي عاشها الشعب الكردي في شمال سوريا. وقال إنه لا يمكن بناء هوية وطنية سورية إلا في إطار لامركزي يسمح للجميع بإنتاج الحياة التي يرغبون بها.
وبالسؤال عن أهمية التحقيب في المحطات التاريخية التي مرّت بها الدولة السورية والتي كانت السبب في مراكمة أسس الأزمة التي تعاني منها سوريا حالياً، خاصة بعدما تم إلحاق كلمة «العربية» بإسم الجمهورية السورية على يد الحكومة الانفصالية التي تلَت الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، قال الزعبي إن النخب السورية التي أسست سوريا كانت سبباً في تعذّر بناء هوية وطنية جامعة للسوريين. وأردف أنه عندما كانت سوريا عبارة عن ولايات في العشرينات، كان سكان ولاية حلب وولاية دمشق يعتقدون بوجود «الأمة السورية». وذكر أنه مع نشوء الحركات الشعبوية بدأوا يتحدثون عن أن سوريا هي عبارة عن «قطر» من الوطن العربي، مشيراً إلى أنه على الرغم من ذلك لم يؤمن أحدٌ يوماً أن سوريا هي وطن نهائي. ونوه الزعبي إلى أن الحرب الأهلية في سوريا نتجت عن عدم إيمان الشعب السوري بوجود «أمة سورية»، كما هو في مصر على سبيل المثال. وأوضح أن المصريون يعتقدون بوجود «أمة مصرية» تشكل الهوية الوطنية المصرية الناجزة التي تعزز البعد التعددي وتنوع المجتمع. وأشار إلى أنه من الضروري الإقرار بأن سوريا وطن نهائي لكل السوريين وأن سوريا وطن متعدّد الهويات لتكون أساساً لبناء الهوية الوطنية السورية التي ستحمي من شرور الحروب الأهلية.
وبالحديث عن مخاطر إعلاء شأن الهوية الوطنية السورية على حساب الهويات الفرعية، قال حويجة إنه عند استقلال سوريا، الذي ترافق مع نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت ثلاث تيارات عالمية في سوريا: التيار القومي، التيار الاشتراكي، والتيار الإسلامي. وهذه التيارات هي التي كانت تحاول جاهدة أن تبني الهوية الوطنية السورية بما يتناغم مع إيديولوجياتها، وبالتالي لم يكن أحدٌ منها معنيّ ببناء هوية سورية جامعة. أي أن الهويات الفرعية أو الأقليات لم تكن مرئية من قبل النخب السورية، حتى أنها لم تكن تطالب بأن تكون مرئية إلا عن طريق بعض الأحزاب. وأشار حويجة إلى أن المطالبة الحقيقية بحقّ الهويات الفرعية في سوريا بدأت عندما أراد التيار القومي سوريا بإطار عربي وأصبحت الهوية العربية مُغلّبة على الهوية الوطنية في ظل محاربة كل شيء غير عربي. وأنتجت هذه التفصيلة معها مظلومية محقّة للأقليات وعلى رأسها الكرد. وقال حويجة إن بناء الهوية الوطنية السورية لا يمكن أن يتم إلا بإطار دولة مركزية واحدة تقود نظام لامركزي تعيد خلق هوية وطنية بالدستور السوري تعطي كامل الحق للجماعات الموجودة على الأرض بالعيش بثقافتها ولغتها بكامل حرية.
وفي نفس السياق، قال الباحث في قضايا الحوكمة زيدون الزعبي إن المشكلة الأساسية في سوريا هي عدم القدرة على اختيار حلّ مرن لبناء الهوية الوطنية، فإما فرض الهوية العربية الإسلامية أو جعلها تتشتت بين الهويات الفرعية، رغم أن الجميع يعلم أن المواطنة لا تكتمل بدون حقوق الجماعات. وضرب الزعبي جنوب إفريقيا كمثال على احترام الهويات الفرعية حيث يوجد فيها إحدى عشرة لغة رسمية في دستور البلاد، كما أن دستور المغرب أيضاً يعترف بالأمازيغ واليهود كمكونات أساسية وما زال محافظاً على الطابع الإسلامي والعربي ويعيش تحولاً ديمقراطياً بطيئاً. وأكّد الزعبي أنه هناك ضرورة حتمية بأن تمرّ سوريا بالتحول الديمقراطي، فمثلاً الاعتراف بالقومية الكردية كمكوّن أساسي من مكونات المجتمع السوري لا ينتقص أبداً من عروبة سوريا. ولفت الانتباه إلى أن العرب انفصلوا عن السلطنة العثمانية لأنها لم تعترف بهويتهم الفرعية. وذكر أن الهوية الوطنية السورية لها أبعاد واضحة وهي البعد العربي، البعد الإسلامي، وكذلك بُعد التنوع الذي سيحمي سوريا من التقسيم.
وفي مسألة تحديد تعريف مفهوم الهوية الفرعية، نوّه الزعبي إلى أن الهوية الفرعية هي الهوية المحلية، أما الهوية القومية فهي جزء من الهوية الأصلية. وأردف أنه لا يمكن القول بأن الهوية الكردية في سوريا هوية فرعية من الهوية العربية السورية «المركزية»، إنما يجب الإقرار بالتنوع كبعد أساسي في الهوية الوطنية الجامعة. ومن جهته، قال حويجة إنه إذا بنيت الهوية الوطنية السورية ستكون الهوية العربية والهوية الكردية وكل الهويات القومية الأخرى هويات فرعية على حدّ سواء وجزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية.
وفي ختام الجلسة، ولدى السؤال فيما إذا يمكن أن يلعب بناء الهوية الوطنية السورية أي دور فعال في إيقاف آلة الحرب الأهلية السورية، قال حويجة إن الهوية الوطنية في سوريا هوية غير ناجزة دخلت بمختبر الحرب والتدخلات الإقليمية والدولية التي قسّمت البلاد، وإن الوصفة الأقرب للتطبيق هي العمل على استعادة الدولة السورية التي تقوم على تشارك الجميع في إعادة إنتاج هوية وطنية تعطي لكافة الجماعات والأفراد حقوقهم اللغوية والثقافية وغيرها من الحقوق المشروعة بشكل دستوري. وأضاف أنه دون ذلك لا يمكن الحديث عن دولة سورية واحدة. من جهته، قال الزعبي إن حلّ الأزمة السورية أعقد بكثير من مسألة بناء الهوية الوطنية السورية، إنما يمكن أن تكون أحد المسارات الأساسية والحيوية لتتويج الاتفاق السياسي بين النخب السياسية الفاعلة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد