مسلسل تركي طويل.. وقديم!

د.محمد نور الدين

في 28 يوليو/تموز الماضي، أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان موقفا غير مسبوق تجاه إسرائيل. ففي مؤتمر لفرع حزب العدالة والتنمية في مدينة ريزي، مسقط رأسه، قال أردوغان بالحرف: «كما دخلنا قره باغ وكما دخلنا ليبيا، سنقوم بالشيء نفسه ضدهم (الإسرائيليين). وليس من أي شيء يمنعنا أن نفعل ذلك. فقط يجب أن نكون أقوياء لكي نقوم بذلك». ودفع هذا الموقف إلى التساؤل عما إذا كان أردوغان فعلاً في وارد «دخول» إسرائيل أم أن هذا الموقف ليس سوى تغطية على اهداف أخرى داخلية وخارجية.
لكن قبل ذلك، نتوقف عند بضع ملاحظات حول هذا النص الذي يختزن على صغره كماً هائلاً من الدلالات والملاحظات:
1- يستخدم أردوغان مصطلح «يمكن أن ندخل فجأة ذات ليلة» للتعبير عن عمل عسكري بري أو جوي ضد سوريا والعراق تحديداً، خاصةً ضد قوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا وحزب العمال الكردستاني في المناطق الحدودية بين تركيا وإقليم كردستان العراق. وهو أحياناً ينفذ تهديداته وأحياناً أخرى لا. واستخدم أردوغان مرة واحدة هذا المصطلح ضد بلد ثالث هو اليونان في سبتمبر/أيلول 2023 رداً على اعتراض مقاتلات يونانية أخرى تركية فوق بحر إيجه. وأثار حينها تصريح أردوغان ردود فعل يونانية غاضبة ووصف الاتحاد الأوروبي التصريحات بـ«العدائية». الآن، يوسع أردوغان دائرة الدول المستهدفة بهذا التهديد لتشمل إسرائيل أيضاً.
2- إن مصطلح «سندخل» يعني بالنسبة لتركيا الهجوم العسكري تحديداً وليس أي شيء آخر على الدولة التي يشير إليها. وتهديده الآن لإسرائيل يحمل هذا المعنى العسكري وليس الدبلوماسي أو التجاري أو ما شابه.
3- إن كلام أردوغان لم يشر إلى الدولتين اللتين كان يخصهما سابقاً بهذا المصطلح وهما سوريا والعراق. وربما يكون ذلك مراعاة لحركة الوسطاء التي نشطت مؤخراً بين أنقرة ودمشق بوساطة عراقية، وبالتالي عدم استفزاز سوريا والعراق.
4- سمّى أردوغان تحديداً قره باغ وليبيا في تهديده. يمكن أن نبدأ بليبيا باعتبار أن تركيا تدخلت عسكرياً في ليبيا بموافقة حكومة فايز السراج وتمكنت من السيطرة على نصف البلاد وصولاً الى مدينة سرت حيث توقفت بعدما اعتبرت القاهرة تجاوز سرت خطاً أحمر.
5- أما ذكر قره باغ فكان من حيث المبدأ مفاجئاً. ذلك أن المتداول علناً أن تركيا ساعدت الجيش الأذربيجاني في حربه على أرمينيا بالمسيرات والأسلحة والخبراء والمستشارين. ولكن لم تعلن الحكومة أن تركيا شاركت بجنودها وجنرالاتها مباشرة بالحرب. يعطي كلام أردوغان هذا الانطباع الذي لا يمكن أن يكون زلة لسان بل ربما كشف عما هو غير معلن. المعروف أصلاً أن تركيا شاركت فعلاً بجنودها في الحرب ضد الأرمن، خاصةً في قره باغ. ويرتّب هذا «الاعتراف» على تركيا تبعات قانونية دولية لجهة المشاركة في حرب ضد دولة أخرى لم تعتد عليها (على تركيا). ولعل أردوغان أفصح عن ذلك الآن لأنه بحاجة إلى الظهور بمظهر البطل القومي في لحظة العجز عن التدخل في فلسطين ورد الهجوم الإسرائيلي على غزة. لكن ربما يرتد اعتراف أردوغان بالمشاركة بحرب قره باغ عليه وعلى العلاقات مع أذربيجان. إذ يقلل بهذا الكلام من «الدور الحصري» للجيش الأذربيجاني في السيطرة على الأراضي التي كانت بحوزة أرمينيا. وهذا يقلل من المكانة التي يريد أن يظهر فيها الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف من أنه «البطل الوطني» غير المنازع في أذربيجان لسنوات طويلة مقبلة.
6- إن مثل هذا الاعتراف بالمشاركة في حرب أذربيجان على أرمينيا يجعل تركيا (وهذا لم يكن خافياً) شريكة مع أذربيجان في حرب كان فيها شريك ثالث فيها هو إسرائيل بكل تكنولوجيتها العسكرية وعناصرها البشرية وخبرائها وأسلحتها في مساندة الجيش الأذربيجاني. وهذا يجعل من الاحتفال بـ«النصر» ثلاثياً: أذربيجان وتركيا وإسرائيل. أما «العدو – الضحية» فليس سوى أرمينيا. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان قرر اللجوء إلى واشنطن والغرب وحلف الناتو لمواجهة المثلث الأذربيجاني- التركي- الإسرائيلي. فكيف يلجأ باشينيان لمواجهة الأعداء الذين هم في النهاية جزء بنيوي من التحالفات الأطلسية– الغربية؟!
بالعودة إلى تهديد أردوغان بالهجوم على إسرائيل يمكن تسجيل ما يلي:
1- إنها المرة الأولى التي يهدد فيها أردوغان إسرائيل بالتدخل العسكري المباشر رداً على استمرار الحرب في غزة. وهو لم يستخدم هذه اللغة سابقاً حتى بعد أن هاجمت إسرائيل سفينة «مافي مرمرة» في مايو/أيار 2010 وسقط خلال الهجوم تسعة قتلى من المواطنين الأتراك. وحلت المشكلة بعد سنوات باعتذار إسرائيل وتعويض القتلى الأتراك. ولم يستخدم أردوغان هذه اللغة في أي مناسبة ضد إسرائيل.
2- هناك سابقة بعد بداية الحرب في غزة عندما دعا دولت باهجلي، زعيم حزب الحركة القومية وشريك أردوغان في السلطة، في 21 أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى تدخل تركيا في غزة. وقال باهجلي: «إذا لم يتم الاتفاق على وقف لإطلاق النار في غزة خلال 24 ساعة ووقف العدوان على المظلومين، فأنا أعلنها بوضوح لشعبنا أنه يجب على تركيا التدخل فوراً والقيام بكل ما يلزم وفقا لمسؤوليتها التاريخية والإنسانية والدينية. فمهمة حماية غزة هي ميراث أجدادنا». ولكنه سرعان ما تراجع في اليوم التالي وقال إنه قصد التدخل لدى الدول للضغط على إسرائيل وليس إرسال قوات تركية إلى هناك.
الآن، لا يختلف تهديد أردوغان عن موقف باهجلي ذاك، مع فارق أن الأخير تراجع عن موقفه فوراً، فيما لم يطلق أردوغان أي تصريح ينفي تصريحه الأول بالتدخل. وكذلك، فإن أردوغان لم يكرر تصريحه عن «الدخول» فيما بدا كما لو أنه تراجع عنه.
2- يحتمل موقف أردوغان بنسبة تكاد تصل الى مئة في المئة أنه غير جاد البتة في هذا التهديد، لأكثر من سبب:
أ- لم يتخذ أردوغان أي موقف منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول يحتوي على ضغط عملي على إسرائيل. فهو وقف في البداية على الحياد بين حركة حماس والدولة العبرية قبل أن يبدأ، بعد عشرين يوماً، بانتقاد إسرائيل، ولا سيما رئيس وزرائها بنيامين نتانياهو.
ب- استمرت التجارة التركية مع إسرائيل على مدى سبعة أشهر كاملة بزخم كامل وبمعدل ثماني سفن يومية كانت تصل مباشرة من موانئ تركيا الى موانئ إسرائيل.
ج- فقط بعد هزيمته في الانتخابات البلدية في نهاية مارس/آذار، ومن بين أسباب الهزيمة موقفه غير الداعم لغزة، حاول أردوغان تدارك الأمر وأوقف التجارة مع إسرائيل من دون أن يتمكن من الإجابة على السؤال المركزي: لماذا لم يوقف التجارة مع إسرائيل طوال هذه المدة في وقت كانت استهداف المدنيين في غزة بدأ منذ اليوم التالي لهجوم حركة حماس؟ وهنا يثبت بالبيانات التجارية وحركة الملاحة البحرية أن صادرات تركيا إلى إسرائيل لم تتوقف حتى الآن. وهي ترسل أحياناً مباشرة وأحياناً عبر دول ثالثة مثل اليونان وغيرها.
د- أيضاً، هدد أردوغان بعد شهر من هجوم حركة حماس أنه سيشهّر بإسرائيل وقادتها أمام العالم على أنهم مجرمي حرب. ولكن عندما جاء الاستحقاق، كانت جنوب أفريقيا وليس تركيا هي من تقدم بشكوى إلى المحكمة الدولية. أكثر من ذلك، فإن تركيا حتى الآن لم تتقدم بطلب المرافعة في المحكمة ولم تقم بالمرافعة. والسؤال: لماذا لم تبادر تركيا إلى تقديم شكوى بحق إسرائيل بدلاً من ترك الأمر لـ«دولة مسيحية»؟ ولماذا لم تتقدم حتى الآن بمرافعتها أمام المحكمة؟
ه- تقيم تركيا علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل. وعلى الرغم مما فعلته إسرائيل، لم تحاول تركيا قطع العلاقات أو خفضها. فإن لم تبادر تركيا بأي خطوة احتجاجية دبلوماسية أو قانونية ضد إسرائيل، فهل يمكن لها ذلك عسكرياً؟ لذلك، فإن تهديد أردوغان بالهجوم على إسرائيل يبدو غير جدي.
ومن خلال طرح بعض الأسئلة الاستكمالية، يمكن أن تتضح عدم جدية أردوغان أكثر:
1- عندما هدد الرئيس التركي بدخول إسرائيل كما دخل قره باغ وليبيا، استدرك بالقول مباشرة «لا شيء يمنعنا من ذلك. فقط يجب أن نكون أقوياء لتحقيق ذلك». من خلال هذا التعبير، يقول أردوغان بصورة غير مباشرة إما أنه لا يمتلك القوة لتحقيق ذلك أو لا يريد استخدام القوة أصلاً. وفي الحالتين، لا معنى أن يهدد أردوغان إسرائيل، وقد يكون لتهديده غايات أخرى.
2- هل يمكن لتركيا كدولة أطلسية أن تملك الجرأة لمهاجمة دولة تعتبر تاج المنظومة الغربية–الأطلسية؟ بالتأكيد لا. لقد هدد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بتدمير الاقتصاد التركي، ووصف أردوغان بـ«الأحمق» عندما علم أنه قرر احتلال منطقة أخرى في سوريا في أكتوبر/تشرين الأول 2019. حينها، لم يجرؤ الرئيس التركي حتى أن يرد على رسالة ترامب التهديدية والتحقيرية. فهل يمكن أن يتخذ خطوة أكبر بما لا يقاس، رغماً عن الإدارة الأميركية؟
3- واستتباعاً، هل يمكن للرئيس التركي أن يتخذ خطوة ضد إسرائيل تثير غضب الاتحاد الأوروبي، الذي يستحوذ على نصف تجارة تركيا مع الخارج، وقد تحدث تالياً توترات مع جواره الأوروبي من اليونان الى قبرص؟
4- هل يمكن أن يبادر أردوغان إلى خطوة لا تؤيدها دول طبّع معها العلاقات في السنوات الأخيرة مثل مصر والسعودية والإمارات والأردن فيما هو كان ولا يزال بأمس الحاجة لأموال بعض هذه الدول؟
إن الخلاصة التي يمكن ان ننتهي إليها هي أن الرئيس التركي إنما بادر إلى هذا التهديد:
أولاً، من أجل الاستهلاك الداخلي وتعويم وضعه الشعبي بعدما أظهرت استطلاعات الرأي المتعددة أن شعبية حزبه تتجه إلى المزيد من التقلص. وهو يحاول أن يدغدغ مجدداً عواطف الفئات المتدينة بالتحريض على إسرائيل ليس إلا، دون أي خطوة ملموسة. وهذا يعني أنه يوظف القضية الفلسطينية لمصالحه الشخصية بما يسيء إساءة كبيرة للقضية الفلسطينية.
ثانياً، أن الرئيس التركي يريد من التلويح بتهديد إسرائيل الضغط على الولايات المتحدة من أجل التسريع من تعهدها بيعه طائرات «إف- 16» من جهة، ومن أجل أن يحصل على بعض التنازلات فيما يتعلق بالقضية الكردية في شرق الفرات.
في جميع الأحوال، إن البرلمان التركي، بحسب المادة 92 من الدستور، هو مصدر قرار السلم والحرب. ودخل البرلمان منذ الأول من أغسطس/آب في إجازته الصيفية ليحيل الدستور في البند الثاني من المادة المذكورة هذه الصلاحية إلى رئيس الجمهورية منفرداً، ولتكون الكرة بالكامل في ملعب أردوغان وليكتشف المتابع أكثر وأكثر أنه أمام مسلسل تركي طويل نهايته معروفة قبل أن يبدأ عرضه حتى.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد