عصمت إينونو على طاولة معاهدة لوزان: أنا كردي من بدليس!
حسين جمو
واجهت النخبة التركية الطورانية المستجدة، مبكراً، المخاطر المحتملة للتجمعات الشركسية في الجيش والإدارة. ففي ظل وجود شخصيات تركية مرتابة بطبعها، مثل الطبيب والوزير في حكومة أنقرة رضا نور، واجه الشركس المخلصون للدولة والجمهورية وصمة التشكيك بسبب أصولهم غير التركية. قضى ضباط الجمهورية مبكراً على القيادة الشركسية متمثلة بأدهم باشا الشركسي في بدايات حرب الاستقلال وقبل معاهدة لوزان. وأدى القضاء على أدهم إلى تعزيز معارضة المسلحين الشركس لمصطفى كمال، وتالياً تقربهم من حكومة السلطان.
في كل الأحوال، بقي العديد من القادة الشركس موالون لمصطفى كمال، مثل بكر سامي، الذي قاد المفاوضات بين أنقرة وموسكو عام 1921 قبل استبداله، وأيضاً الشخصية المعروفة حسين رؤوف أورباي، أول رئيس وزراء لتركيا عقب الإطاحة بالسلطنة في 11 أغسطس/آب 1922.
كان من المقرر أن يكون رؤوف أورباي رئيس وفد الجمعية الوطنية (حكومة أنقرة) بمحادثات معاهدة لوزان خريف 1922. كالعادة، ظهر صقور الطورانية الذين تملأهم الريبة من كل شيء غير تركي، فاعترض رضا نور على هذا التعيين لدى مصطفى كمال، واحتج أن أورباي ذو أصل أباظي (شركسي) وليس تركياً. استجاب كمال للريبة الطورانية. والأرجح أن مصطفى كمال هو من رتب الإطاحة بأورباي من وفد لوزان واستعان برضا نور لتحقيق ذلك.
وقع الاختيار على عصمت إينونو رئيساً للوفد ورضا نور مساعداً. لكن في لوزان يتلقى رضا نور «صدمة» على حد تعبيره لأنه اكتشف أن إينونو ليس تركياً إنما كردي من بدليس. يكرر نور هذا الزعم مرتين في مذكراته. وبنزعته العنصرية المعلنة، يعتبر اعتراف إينونو له بأنه كردي نقيصة ويحط من شأنه. ذلك أن رضا نور كان من الشخصيات النادرة في تلك المرحلة التي لا شكوك على أصولها. فحتى مصطفى كمال لم يعتبر تركياً نقياً في ذلك الوقت، قبل ترتيب كتابة جديدة لأصوله وحياته تحت إشراف عصمت إينونو.
إن صيغة كشف إينونو أصله الكردي المزعوم لرضا نور تفتح الباب أمام الاجتهاد في أن إينونو أراد استفزازه، ولم يكن جاداً في أي مرحلة من حياته، قبل الجمهورية وبعدها وحتى وفاته، في التصريح بشيء مثل هذا، أي أن يعترف أنه كردي. وهو ما يرجح أن إينونو – الذي يعرف رضا نور جيداً – أراد إغاظة زميله في الوفد المفاوض في لوزان نظراً لكراهية رضا نور لكل من هو غير تركي، خاصة أن الإطاحة برؤوف أورباي الشركسي من رئاسة الوفد تمت بفضل جهود نور. وبالتالي، سيكون صادماً بالنسبة له أن يبرهن له إينونو أن إنجاز رضا نور في تتريك الوفد قد تحطّم. كتب رضا نور:
«ذات يوم ونحن في لوزان، قال لي عصمت إنه كردي من بدليس. وسألني: هل في بدليس أتراك؟! تجمدت من هول هذا الكلام!» ص 358
والواقع أن عائلة إينونو تدعى «كوروم أوغلو» (KÜRÜMOĞLUK). وأخذت العائلة اسمها من قرية في هكاري استوطنت فيها قبل قرون، ثم انتقلت إلى بدليس. وقد يكون قسم من العائلة تبنى الهوية الكردية، لكن أصل العائلة ملتبس بحسب متتبعي نسبه. وهناك رأي بين الأرمن أن إينونو من عائلة «نسطورية مسيحية كردية» تحولت إلى الإسلام في فترة حياة والد إينونو. عموماً، تعيش في المنطقة التي تتحدر منها عائلة إينونو شعوب قديمة، الكرد والأرمن والنساطرة وشعوب أخرى معتنقة للمسيحية. فليس من السهل الادعاء بالأصول الكردية لإينونو بناء على الدلالة القومية للمكان، أي بدليس.
في كل الأحوال، أجداد إينونو من بدليس، لكن أباه ولد في ملاطية. لذلك، يزعم إينونو أنه من ملاطية، بينما ولد إينونو نفسه في إزمير. إن شخصاً بهذه التنقلات القاسية في فترة زمنية قليلة مقارنة بتاريخ العائلات قد يتبنى أي هوية تتقاطع مع ميوله، وهو اختار التركية طيلة حياته بدون أي تردد. فحتى لو كان كردياً في الأصل أو نسطورياً – وهو غير مرجح – فإنه نشأ في بيئة تركية تماماً.
كان من المقرر أن يحضر لوزان وفدان من الدولة العثمانية المنهارة وفد الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة ووفد حكومة السلطان في إسطنبول. ولتفادي ذلك، يقترح رضا نور على مصطفى كمال استغلال عدم وجود البرلمان في إسطنبول بل في أنقرة. وبالتالي، فإن التصويت على إلغاء السلطنة سيُسقِط تلقائياً حق تمثيل حكومة إسطنبول في لوزان. وبالفعل، تم إلغاء السلطنة العثمانية من قبل الجمعية الوطنية الكبرى في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1922، وهدد مصطفى كمال النواب المعترضين بالقتل. وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1922 في مؤتمر لوزان، تم الاعتراف بسيادة الجمعية الوطنية الكبرى على تركيا.