محمد سيد رصاص
في يوليو/تموز 2011، كانت قطر أول دولة عربية تتجه إلى طرح متشدد مع السلطة السورية بعد دعوات من الخارج الدولي- الإقليمي للأخيرة إلى «الإصلاح» في مواجهة التظاهرات التي انطلقت في مدن وبلدات سورية عديدة بدءاً من مدينة درعا. في ذلك الشهر، كانت فرنسا تتوازى مع قطر في ذلك الطرح الجديد، ثم جاء الدور على تركيا بعد فشل زيارة وزير الخارجية أحمد داود أوغلو لدمشق في 9 أغسطس/آب. إلى أن دعا الرئيس الأميركي باراك أوباما في 18 أغسطس/آب الرئيس السوري إلى التنحي.
كان مفاجئاً أن يقود هذا الرباعي: قطر- تركيا – فرنسا نيكولا ساركوزي- واشنطن أوباما المواجهة مع دمشق في صيف 2011 بعد أن كان واجهة الانفتاح على دمشق في فترة 2007- مارس/آذار 2011 عقب «أزمة الحريري». وكان واضحاً أن هذا الانفتاح هدفه إبعاد دمشق عن طهران في ظرف صدام الولايات المتحدة مع إيران ما بعد استئناف الأخيرة برنامج تخصيب اليورانيوم في صيف 2005.
كان لافتاً في تلك الفترة فتح قناة الجزيرة النار على السلطة السورية. ولكن في سبتمبر/أيلول، تبين بأن الجزيرة هي قمة جبل الجليد عندما دعي وفد من هيئة التنسيق الوطنية إلى مفاوضات في الدوحة مع جماعة الإخوان المسلمون في سوريا و«إعلان دمشق» من أجل تشكيل ما سمي في المسودة بـ«الائتلاف الوطني السوري». وعندما أتى وفد الهيئة بالمسودة إلى المكتب التنفيذي في الأسبوع الثاني من ذلك الشهر، كان مفاجئاً أن القطريين كانوا يحملون تفويضاً شفوياً من واشنطن وباريس وأنقرة بإدارة تلك الولادة لذلك الجسم السياسي السوري الجديد، الذي كان مقرراً إعلانه في النصف الثاني من الشهر مع قيادة ثلاثية من الكيانات السياسية المذكورة من خمسة وعشرون شخصاً منهم تسعة خارج سوريا. أيضاً، كان لافتاً الدور الذي لعبه عزمي بشارة خارج غرفة الاجتماع مع وفد الهيئة من أجل الدفع نحو تشكيل الجسم الجديد.
في المكتب التنفيذي للهيئة، وعبر اجتماعين طويلين بينهما استراحة يوم، كان هناك إحساس شمل الغالبية بأن هناك سيناريو ليبي جاهز لسوريا، أي تشكيل جسم سياسي معارض واسع الطيف، مع بدء عمل مسلح معارض من منشقين عن الجيش النظامي ومن خارجه، ثم يأتي الطلب من ذلك المجلس إلى الخارج الدولي– الإقليمي بالتدخل العسكري. وكان هناك قطع في المسودة مع فكرة التسوية الانتقالية مع السلطة التي قامت عليها الهيئة في يونيو/حزيران، ومع غياب لاءات الهيئة الثلاث: لا للتدخل العسكري الخارجي، وللطائفية، وللعنف من أية جهة. في مساء الرابع عشر من ذلك الشهر، قام أمين سر هيئة التنسيق رجاء الناصر بنقل مطالب الهيئة المذكورة إلى رياض الترك في بيته السري بحي الدويلعة، مع طلب خامس حول «الاعتراف بالوجود القومي الكردي في سورية والعمل معاً لإقراره دستوريا»، لكي يتم تضمين تلك المطالب في بيان ولادة الجسم السياسي الجديد. وعندما رفض الإخوان المسلمون و«إعلان دمشق» ذلك، اتجهت الهيئة إلى إصدار بيان توضيحي «حول الائتلاف الوطني السوري»، وإلى عقد مؤتمر حلبون في 17 من الشهر، فيما اتجه الإخوان و«إعلان دمشق» نحو تشكيل «المجلس الوطني» الذي كان لافتاً إعلان نواته في 15 من الشهر، ثم قيامه في الثاني من الشهر التالي في اسطنبول.
في هذا السياق، يجب وضع بعض النقاط على الحروف: كان برهان غليون قطع تذكرة طائرة من باريس من أجل حضور مؤتمر حلبون. ولكن استدعاء من الخارجية الفرنسية جعله يطوي الموضوع (بخلاف سمير العيطة الذي أتى من باريس لدمشق)، ومن ثم استقال من منصب نائب المنسق العام للهيئة بعد أن قال له الفرنسيون بأنه سيكون رئيساً للمجلس الجديد. أيضاً، وقبل ثلاثة أيام من إعلان المجلس في اسطنبول، أتى السفير الأميركي في دمشق روبرت فورد إلى مكتب منسق الهيئة حسن عبد العظيم من أجل إقناعه بدخول الهيئة الجسم الجديد مع وعد بإعطائها ثلث المقاعد، وهو ما رفضه عبدالعظيم، الذي قامت عناصر موالية للنظام باقتحام مكتبه وتكسير بعض محتوياته بحجة استقباله السفير الأميركي.
على الأرجح أن مشروع القرار المقدم، بعد يومين من قيام مجلس اسطنبول، إلى مجلس الأمن الدولي في نيويورك في 4 أكتوبر/تشرين الأول كان اختباراً من ذلك الرباعي للروس لمعرفة إن كانوا سيكررون تجربة مارس/آذار في المجلس عندما تركوا مجلس الأمن يمرر التدخل العسكري ضد نظام معمر القذافي تحت الحجة ذاتها وهي حماية المدنيين والمناطق الآمنة، بعد إنشاء «المجلس الوطني الليبي» بقيادة مصطفى عبد الجليل، وبعد بدء العمل العسكري المعارض ضد القذافي. لم يفعلها الروس ثانية، بل مارسوا حق الفيتو المزدوج يومها مع الصينيين ضد مشروع القرار. وتفسير ذلك هو ما قاله ميخائيل بوغدانوف لاحقاً لأحد المعارضين السوريين، متحدثاً عن «الندم الروسي وعدم تكرار الخطأ الليبي». والأرجح هنا، أن كلام المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمون رياض الشقفة في مؤتمر صحافي باسطنبول في 18 نوفمبر/تشرين الثاني بشأن «طلب عسكري تركي»، يعبر عن فشل السيناريو الليبي في سوريا بعد الفيتو الروسي وبعد إرسال قطع من أسطول البحر الأسود الروسي لميناء طرطوس. كما يعبر عن محاولة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الضغط على واشنطن للقيام بعمل منفرد في سوريا، وهو على ما يبدو ما منعه أوباما خوفاً من المجابهة مع الروس، بعد أن كان الرئيس الأميركي، وفق كثير من المؤشرات، يهيء أردوغان ليلعب في سوريا دور ساركوزي في الحملة الأطلسية- الليبية المستندة لقرار مجلس الأمن لو صدر قرار مماثل من الأخير تجاه سوريا.
من أجل اكمال الصورة، فوجىء مجلس اسطنبول، بعد إقرار المبادرة العربية من مجلس وزراء الجامعة العربية في نوفمبر/تشرين الثاني والتي كتب مسودتها الاولى أعضاء من هيئة التنسيق بعد إفطار رمضاني في منزل أمين عام الجامعة العربية نبيل العربي، بأنه مدعو مع هيئة التنسيق لمفاوضات «في مقر الجامعة العربية.. للاتفاق على رؤية موحدة للمرحلة الانتقالية المقبلة في سورية، على أن ينظر المجلس الوزاري العربي في النتائج ويقرر ما يراه مناسباً بشأن الاعتراف بالمعارضة السورية» (صحيفة الشرق الأوسط في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2011). وهو رغم عدم إصداره أي بيان تأييد للمبادرة العربية التي تحدثت عن «مرحلة انتقالية تبدأ مع تشكيل حكومة وحدة وطنية ائتلافية برئاسة رئيس حكومة يكون مقبولاً من قوى المعارضة المنخرطة في الحوار وتعمل مع الرئيس وتتحدد مهمته في اجراء انتخابات نيابية شفافة تعددية حزبياً وفردياً»، أجبر أو رأى أن لا مناص من أن يدخل مع هيئة التنسيق في مفاوضات بالقاهرة بين 24 نوفمبر/تشرين الثاني و30 ديسمبر/كانون الأول. الامر الذي أنتج ورقة وقعها في ذلك اليوم برهان غليون، رئيس المجلس، وهيثم مناع، نائب المنسق العام للهيئة، في العاصمة المصرية. وكانت تلك الورقة من أجل عقد مؤتمر سوري عام يضم السلطة والمعارضة في مقر الجامعة العربية، على أن يسبقه مؤتمر للمعارضة كان مقرراً عقده في 7 الشهر التالي. كانت تلك الورقة لتكون مشروع ورقته من أجل توحيد المعارضة في جسم له صفة تمثيلية. تلك الورقة الموقعة في القاهرة التي رفضها في اليوم التالي المكتب التنفيذي للمجلس الذي قال في بيان علني إن «الاتفاق أجراه رئيس المجلس دون الرجوع إلى بقية أعضاء المكتب التنفيذي أو إلى الأمانة العامة»، بحسب موقع «syrianrevolution» في 31 ديسمبر/كانون الأول 2011.
هنا، أريد القول أن كل ما سبق هو من أجل مجابهة ما بدأ نشره مؤخراً في العاصمة القطرية على موقع «syrianmemory.org» عن «الذاكرة السورية»، مع شهادتين من برهان غليون وسمير نشار الذي كان مندوباً لـ«إعلان دمشق» في المكتب التنفيذي للمجلس، والذي قال على قناة الجزيرة، وأوردت ما قاله من السؤال والجواب التالي صحيفة «الحياة» في 4 أكتوبر/تشرين الأول 2011: «ماذا كان سيحل بمدينة بنغازي لو لم يتحرك حلف الأطلسي؟.. على الأمم المتحدة أن تحدد الوسائل والأدوات التي توقف عمليات القتل، سواء كان ذلك في شكل مالي أو حتى عسكري، إذا تطلب الأمر».
واليوم، يدرك من يطلع على تلك الشهادتين في «الذاكرة السورية» الصادرة في العاصمة القطرية مقدار محاولة تبرئة وتنظيف الأفعال والأقوال وحرفها وطمسها من الشخصين المذكورين. يشرف على موقع «الذاكرة السورية» الذي يقول إنه يريد أن يقدم رواية ما جرى سورياً منذ عام 2011 مركز عزمي بشارة في الدوحة، أي دولة قطر التي كانت إحدى دول الرباعي: الولايات المتحدة- فرنسا- تركيا- قطر، الذي أراد تمرير مشروع سيناريو ليبي في سوريا في صيف – خريف 2011 وفشل بسبب الجدار الروسي. وهو في سياق هذا التمرير، أفشل كل مشاريع التسوية الانتقالية التي طرحتها الجامعة العربية، ودفع جمهوراً واسعاً من السوريين إلى المراهنة على التدخل العسكري الخارجي والعنف المعارض من أجل إسقاط النظام، من دون إدراك أن سوريا ليست ليبيا القذافي أو حتى يمن علي عبد الله صالح. وهو ما قاد إلى نزيف دماء مئات آلاف السوريين وتشريد أكثر من نصف السوريين بين نازح ولاجىء وتدمير معظم البنية التحتية السورية. وبعد أن فشل تكرار السيناريو الليبي في سوريا، اندفعت تركيا وقطر إلى دعم الإسلاميين السلفيين- الجهاديين مع غض نظر أميركي- أوروبي غربي على الأقل حتى ظهور خطر تنظيم داعش في صيف 2014. ثم كانت أنقرة والدوحة وراء «الائتلاف» في رفض بيان جنيف 1 لعام 2012 الذي يدعو إلى هيئة حكم انتقالي، ووراء إفشال رياض حجاب مؤتمر جنيف 3 في 2016 الذي سعى إلى تنفيذ القرار 2254. واليوم، يراد عبر «الذاكرة السورية» حرف الأنظار عن هذه التجربة المأساوية من خلال تقديم رواية مادتها الرئيسية هي الكذب والتلفيق بطريقة هي أقرب إلى ما يسمى بالحذاقة عند بعض التجار السوريين الفاشلين. وتعريف الحذاقة هو بيع بضاعة رديئة عبر الكلام الحلو.
السؤال الآن: هل ينطلي «حديث الإفك»، الذي يديره بشارة عن سوريا ما بعد درعا مارس/آذار 2011، على الكثير من السوريين كما مرت عليهم أوهام زرعها فيهم رباعي واشنطن- باريس- أنقرة- الدوحة، ولم يحصدوا منها سوى الآلام والخيبات والفشل والهزائم؟