«النفاق» التركي نموذجاً: ليس لأردوغان من يبزّه
محمد نورالدين
لو قُدّر لغابرييل غارسيا ماركز، الكاتب الكولومبي الراحل وحائز جائزة نوبل للآداب عام 1982، أن يعود من غفوته الأبدية لكانت له أمنية وحيدة: أن يكتب رواية واحدة ومن ثم يغادر إلى حيث أتى.
كاتب رواية «ليس للجنرال من يراسله» (وقبلها «مئة عام من العزلة») لن يحاول بذل الكثير من الجهد ولن يحك رأسه كثيراً بل سيقتبس عنوان روايته الشهيرة مع تغيير طفيف: «ليس للمنافق من يبزّه».
والمنافق، أو النفاق هنا، قد تبدو مفردة «زقاقية» يحاول الكثير ألا يستخدمها إلا في مناسبات محددة ودقيقة. لكنها أيضاً مفردة قرآنية استخدمت للتعبير بقساوة عمن ينكث بوعوده وعمن يمارس خلاف ما يعلنه. هي في مكان معين «تقية» لا يمارسها إلا المنافقون. أما فعل بزّ فيعني أن صاحبه يتفوق على الآخرين، هنا في عمل النفاق.
ولو حاولنا تطبيق مثال المنافق على أرض الواقع، فلم يكن ماركيز نفسه يعارض أن يكون عنوان روايته «ليس لأردوغان من يبزّه». نعم ليس هناك أكثر من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من ينطبق عليه وصف المنافق كما في القضايا الداخلية كذلك في القضايا الخارجية، مع رجاء من القارئ ألا يعتبر هذا التوصيف كلاماً غير لائق بمطلقه أو ليس في محله من هكذا مقاربة أو تحليل.
ولو اكتفينا بقضيتين اثنتين لوفينا الرجل حقه من هذه الصفة: القضية الكردية والمسألة الفلسطينية.
القضية الكردية في تركيا
لن نعود القهقرى بعيداً إلى الوراء، بل نشير إلى أن «الرجل الضال» اعترف في أغسطس/آب 2005 بعد ثلاث سنوات من وصوله على رأس حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بوجود قضية كردية في تركيا. وكان بذلك يكرر تقليداً تركياً سبقه إليه رئيس حزب الطريق القويم سليمان ديميريل عام 1991 عندما قال إن الوجود الكردي في تركيا «حقيقة» ورئيس حزب الوطن الأم مسعود يلماز ورئيسة حزب الطريق القويم طانسو تشيللر اللذان قالا في التسعينيات إن طريق تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يمر من ديار بكر.
وعود أردوغان للكرد كما للعلويين وكل الأقليات الأخرى، كما لكل القوى المنادية بديمقراطية حقيقية وحريات كاملة، ذهبت سدى مع الريح ومع الرصاص وفي الزنازين. نسوق هنا بعض الأمثلة:
مثال أول، في فبراير/شباط عام 2015 توصل وفد من حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) مع آخر من حزب العدالة والتنمية إلى خريطة طريق لحل المشكلة الكردية في ما عرف باسم «اتفاق دولمه باهتشه».
كان أردوغان يأمل أن يساعد الاتفاق على زيادة التأييد لحزب العدالة والتنمية في الوسط الكردي في الانتخابات النيابية التي كانت ستجري بعد ذلك بأقل من اربعة أشهر في 7 يونيو/حزيران.
غير أن استطلاعات الرأي كانت تشير إلى عكس ذلك خصوصاً أن حزب الشعوب الديمقراطي قرر أن يخوض الانتخابات للمرة الأولى كحزب منفرد وليس بمرشحين مستقلين. وكان ذلك يعني، في ما لو فاز الحزب الكردي، إنجازاً واختراقاً كبيراً في الحياة السياسية.
يحتاج أي حزب، ليتمثل في البرلمان كحزب، أن ينال عشرة في المئة من أصوات الناخبين على مستوى تركيا. وفي حال فشل في ذلك، كانت أصواته توزع على الأحزاب الفائزة التي تسرق مجاناً أصواتاً ليست لها. وهذا ما كان يجنبه حزب العدالة والتنمية، بغياب ترشح حزب كردي، حيث ينال نسبة كبيرة من أصوات كردية ليست له فيتضاعف عدد نوابه. وأتاح هذا النظام الانتخابي العجيب لحزب العدالة والتنمية أن يحوز عام 2002 على 65 في المئة من المقاعد النيابية فيما نال فقط 34 في المئة من الأصوات.
كانت استطلاعات الرأي عشية انتخابات 7 يونيو/حزيران 2015 ترجح تخطي الحزب الكردي لحاجز عشرة في المئة. وأدرك أردوغان الحقيقة متأخراً. فقد فاز حزب الشعوب الديمقراطي بـ13.6 في المئة و82 نائباً، واحتل المركز الربع على صعيد البلاد. والأهم، أن حزب العدالة والتنمية فقد للمرة الأولى الغالبية المطلقة في البرلمان حيث نال 258 نائباً (مجموع البرلمان 550 نائباً) فيما كان المطلوب أن ينال النصف زائد واحد أو 276 زائد واحد.
انقلب أردوغان على نتائج الانتخابات ورفض الاعتراف بها وضغط على رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو لحل البرلمان والعمل على انتخابات مبكرة في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه. وتمكن حزب العدالة والتنمية من استعادة الغالبية المطلقة ونال 317 نائباً. ومع أن الحزب الكردي تراجعت أصواته تحت الضغوط الأمنية، لكنه تمكن من جديد من تجاوز حاجز عشرة في المئة ونال 10.76 في المئة و59 نائباً ليكون الحزب الثالث في البرلمان.
غير أن انقلاب أردوغان الأساسي كان في التخلي عن العمل وفق «اتفاق دولمه باهتشه» وبالتالي عن الشروع بحل سياسي للقضية الكردية، وشن على الكرد حملات عسكرية وقضائية داخل تركيا ودمر الجيش التركي أحياء بكاملها في العديد من المدن الكردية وقتل المئات من الكرد وفرض أحكاماً عرفية في غالبية هذه المناطق في سياق حملة ترويع للناخب الكردي هي الأكبر حتى ذلك الحين.
مثال ثان، في الانتخابات البلدية في 31 مارس/آذار عام 2019، تمكنت المعارضة من انتزاع بلديات كبرى للمرة الأولى من حزب العدالة والتنمية، ومنها اسطنبول وأنقرة، إضافة الى استمرار سيطرتها على مدن كبرى مثل إزمير وديار بكر. وأظهرت الانتخابات سيطرة حزب الشعوب الديمقراطي على معظم البلديات في المناطق الكردية.
ومع أن حزب العدالة والتنمية بقي في المركز الأول، لكنه خسر بلديات كبرى أساسية لصالح حزبي الشعب الجمهوري والحزب الكردي. ومع ذلك، فإن حكومة أردوغان شنت حملة واسعة ومنظمة لتغيير موازين القوى ليس عبر الانتخابات الشعبية بل من خلال تطبيق سياسة الإقالات لرؤساء بلديات منتخبين وتعيين المحافظين في كل منطقة رؤساء بالوكالة لها، وهو ما يسمى بالتركية «kayyum» أو «قيّم». وشملت هذه السياسة إقالة العشرات من رؤساء البلديات الكبرى للكرد، ومنها ديار بكر و وان وماردين. وقصد الحزب الحاكم من ذلك منع المسؤولين الكرد من تقديم خدماتهم للمواطنين وتجيير هذه الخدمات للقيّمين الجدد من حزب العدالة والتنمية لتغيير موقف الناخبين المعارض لحزب العدالة والتنمية واستمالة الناخبين الكرد.
مثال ثالث، في 31 مارس/آذار 2024، أي قبل شهرين فقط من الآن، جرت انتخابات بلدية على مستوى تركيا، وأسفرت عن سابقة تحدث للمرة الأولى وهي خسارة حزب العدالة والتنمية المرتبة الأولى وتراجعه للمرتبة الثانية بـ35 قي المئة من الأصوات، فيما تقدم حزب الشعب الجمهوري للمرة الأولى منذ العام 1979 إلى المركز الأول بـ37 في المئة. بل خسر حزب العدالة والتنمية مجدداً اسطنبول وأنقرة، فضلاً عن مدينة بورصة إضافة إلى مدن إزمير وديار بكر وأنتاليا. كذلك، تراجعت أصوات الحزب في المناطق الكردية، حيث سيطر حزب المساواة والديمقراطية للشعوب (DEM) على عشر محافظات كردية.
ومن جديد، ظهرت حادثة غريبة وهي أن اللجنة المحلية للانتخابات قررت عدم إعطاء شهادة الفوز لمرشح الحزب الكردي الذي فاز في انتخابات مدينة وان، وهو عبدالله زيدان، وإعطاءها إلى مرشح حزب العدالة والتنمية الخاسر عبدالله أرفاس، علماً أن زيدان تقدم على أرواس بنسبة 55 في المئة مقابل 27 في المئة.
وفي ظل حالة الانقلاب التي حصلت وتداعي قوى المعارضة بمختلف أطيافها، اضطرت اللجنة العليا للانتخابات إلى إعادة اعتبار زيدان فائزاً لتفشل أول محاولة انقلابية على نتائج الانتخابات بعد ساعات قليلة فقط على ظهورها.
مثال رابع، وبعد حوالي الشهر جرى في الثاني من مايو/أيار أول لقاء بين الرئيس التركي وزعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل في ما اعتبر بداية مسار مصالحة بين السلطة وقوى المعارضة. وإذ قوبل اللقاء بارتياح عام باعتبار أنه ربما يكون بداية لمراجعة السلطة سياساتها القمعية والإقصائية، غير أنه لم يكن هناك ما يشير أولاً إلى جدية هذا المسار وثانياً إلى شموله قوى معارضة اخرى أساسية وفي مقدمتها حزب المساواة والديمقراطية للشعوب. بل أكثر من ذلك، أصدر القضاء التركي في 16 مايو/أيار أحكاما بحبس زعماء أكراد منهم رئيس الحزب السابق صلاح ديميرطاش أربعين عاماً، علماً أنه معتقل منذ العام 2017، ولسنوات طويلة على قادة آخرين.
ومن هذه الأحكام، يتبين أن رغبة أردوغان في المصالحة تناقضها سلوكيات السلطة تجاه الحركة الكردية التي يجب أن تكون جزءاً من عملية الحوار وأن تقابل السلطة مطالبها بمسؤولية وعدالة من أجل أن يحدث سلام اجتماعي داخلي
مثال خامس، في الثالث من يونيو/حزيران الجاري، قرر وزير الداخلية علي يرلي قايا إقالة رئيس بلدية هكاري في أقصى الجنوب الشرقي، محمد صديق آقيش، من منصبه بل اعتقاله في اليوم نفسه، وكان موجوداً في مدينة وان. وتم تعيين علي تشيليك، محافظ هكاري، بدلاً منه. وكان آقيش فاز برئاسة البلدية بنسبة 49 في المئة مقابل 46 في المئة لمرشح حزب العدالة والتنمية الخاسر عصمت أولمز. وكان تبرير إقالة واعتقال آقيش أنه ملاحق منذ العام 2014 في قضية التعامل مع حزب العمال الكردستاني. وبطبيعة الحال، تمثلت ردة الفعل الكردية والمعارضة في طرح تساؤلات عن إمكانية السماح لشخص بالترشح لانتخابات بلدية وهو في الأصل ملاحق بتهم دعم «الإرهاب». وكان واضحاً أن أردوغان يريد الانقلاب على نتائج الانتخابات البلدية من خلال محاولة أولى في بلدية وان وكرر المحاولة مع بلدية هكاري.
وهكذا خلال شهرين فقط، عمل حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان على المبادرة أربع مرات لكسر يد الحركة الكردية: واحدة في بلدية فان وثانية باستبعاد الحزب الكردي من المصالحة وثالثة بإصدار أحكام قضائية ضد زعماء أكراد ورابعة بإقالة واعتقال رئيس بلدية هكاري.
وهذا يؤكد مسألة وحيدة وهي أن الرئيس التركي وحليفه دولت باهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية، يعملان على إقصاء الحركة الكردية من الحياة السياسية والخدماتية والاجتماعية، وأن خسارة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات لم تدفع أردوغان إلى عمل مراجعة ذاتية بل زادته رغبة في الانتقام من خسارته من الكرد تحديداً. بل إن باهتشلي قال بعد اعتقال آقيش إنه «واثق من أنه سيتم اعتقال جميع من يسمون رؤساء بلديات ونواب من ياقاتهم» وكذلك «لا نريد رؤساء بلديات ونواباً إرهابيين».
وإن دل ذلك على شيء، فإنه يدل على أن الرهان على أردوغان لمرحلة جديدة من الاستقرار في الداخل التركي ليست في محلها. بل إن الحديث على إعداد دستور جديد يعزز الحريات والديموقراطية ليس سوى محاولة خادعة لذر الرماد في العيون وكسب تأييد بعض المعارضة من اجل إدامة سلطة أردوغان إلى ما بعد انتهاء ولايته عام 2028 .
مع ذلك، ننوّه إلى أن كرة مواجهة حملة السلطة لتصفية الحركة الكردية في تركيا لا توجد فقط في الملعب الكردي والقوى اليسارية بل أيضاً في حزب المعارضة الرئيسي الشعب الجمهوري، الذي يتوجب عليه أن يظهر عزيمة أكبر لمواجهة أردوغان وعدم الوقوع في أفخاخ وعوده والكلام الفارغ عن «مصالحات». ولم يكن زعيم حزب الشعب الجمهوري السابق كمال كيليتشدار أوغلو بعيداً عن الصواب عندما قال بعد لقاء المصالحة بين أردوغان وأوزيل قبل شهر: «الوضع يتطلب مواجهة أردوغان لا لقاءه».
القضية الفلسطينية
دائماً، وليس غالباً، ما كانت المواقف التركية من القضية الفلسطينية منذ ظهورها نموذجاً لسياسة «نفاق» تركية لدى كل أحزابها العلمانية والقومية والاسلامية.
فتركيا، منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، كانت أول دولة مسلمة تعترف في العام التالي بالدولة العبرية وتنسج معها على مدار العقود اللاحقة علاقات قوية أمنية وعسكرية وسياسية واقتصادية. وكانت بالتالي شريكاً ضمنياً لإسرائيل في كل حروبها على العالم العربي.
وجاءت عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 والحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وما ارتكب هناك لتعرّي الموقف التركي. وفضلاً عن عدم اللجوء إلى أي خطوة عملية لقطع أو خفض العلاقات الدبلوماسية، واصلت تركيا تجارتها، وبأقصى زخمها، مع إسرائيل حيث كانت ترسو كل يوم في الموانيء الإسرائيلية ما معدله ثماني سفن تركية محملة بكل أنواع المنتجات التي تحتاجها إسرائيل اقتصادياً وعسكرياً. وتحت ضغط الاحتجاجات، بدّل أردوغان لهجته الخطابية بعض الشيء من خلال التنديد بممارسات إسرائيل، لكنه بقي ضمن الحدود النظرية لذلك. وتحت ضغط هزيمة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية في نهاية مارس/آذار الماضي، اتخذت تركيا قرارات تدريجية منذ مطلع أبريل/نيسان الماضي بتقليص التجارة مع إسرائيل ومن ثم قطعها كلياً. ولكن لا تزال هذه التجارة قائمة بأسماء أخرى وعبر دول ثالثة. لكن السؤال الذي يُطرح ولا يزال ولم يجب عليه أردوغان وحزبه: لماذا استمرت تركيا في التجارة بشكل كامل مع إسرائيل لمدة سبعة شهور رغم أن الحرب وما ارتكب هناك كانت قائمة على قدم وساق وأمام مرأى الجميع؟ لماذا لم يبادر أردوغان إلى قطع هذه التجارة قبل ذلك، علماً أن كل الشركات التي تتعامل مع إسرائيل تابعة أو مقربة من حزب العدالة والتنمية؟
إن الموقف التركي من إسرائيل رغم حرب غزة هو نموذج تطبيقي حي على «نفاق» المواقف التي تقول الشيء وتعمل عكسه.
قد لا يعود ماركيز من مرقده لكن بالتأكيد فإن عنوان الرواية التي كان سيكتبها «ليس لأردوغان من يبزّه».