محمد سيد رصاص
في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، جرى التوقيع في أنقرة على مذكرتي تفاهم بين الرئيس التركي رجب أردوغان ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج بشأن تحديد الحدود البحرية بين البلدين والتعاون العسكري – الأمني، بما يتضمن قواعد عسكرية تركية في ليبيا وتزويد حكومة السراج بالأسلحة.
كان أردوغان مسكوناً بهاجس طوال ما يقرب العام، منذ اللقاء الثلاثي في بئر السبع في الشهر الأخير من عام 2018 بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو والرئيس القبرصي ورئيس الوزراء اليوناني، يخص مشروع أعلن عنه في ذلك اللقاء لمد أنبوب غاز تحت البحر من إسرائيل نحو قبرص، ومنها بحراً لجزيرة كريت، ومن هناك بحراً لليونان وبعدها عبر البحر الأدرياتيكي إلى إيطاليا لربطه بشبكة غاز الاتحاد الأوروبي بطاقة أولية تبلغ عشرة مليار متر مكعب بالسنة. وكان يعرف، عندما التقى بالسراج، أن التوقيع على المشروع المسمى «إيست ميد» سيكون خلال أسابيع لاتتجاوز الخمسة. لذلك، رأى أن الاتفاق البحري مع السراج سيقضي عليه قبل أن يرى النور ما دام سيرسم حدوداً بحرية تركية- ليبية تفصل كريت عن قبرص وتفصل الجزر اليونانية في بحر إيجة عن الجزيرة القبرصية وتفصل الشريك الرابع المحتمل للمشروع، وهو مصر، عن اليونان بحرياً.
مقابل ما أعطاه السراج، منحه أردوغان قوات تركية وأسلحة، منها المسيّرة «بيرقدار»، في وقت كانت قوات اللواء خليفة حفتر تقف لسبعة أشهر سابقة على أبواب العاصمة طرابلس الغرب حيث توجد حكومة السراج. وعملياً خلال أشهر ستة، حسمت المساعدة التركية القتال لغير حفتر الذي تقهقرت قواته شرقاً، وكانت الطرق مفتوحة لقوات السراج المدعوم تركياً لولا أن وقف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في 20 يونيو/حزيران 2020 عند الحدود المصرية– الليبية وأعلن أن خط سرت- قاعدة الجفرة «خط أحمر» بالنسبة للقاهرة، وهو ما قاد إلى خطوط استاتيكو عسكرية ما زالت قائمة في ليبيا ليومنا هذا.
ولكن خلال سنوات أربعة لاحقة، تكشّف بأن ما أرسله أردوغان إلى ليبيا لم يقتصر على الأسلحة والجنود الأتراك، بل كان معهم منذ خريف 2019 مرتزقة من السوريين تم تجنيدهم عبر شركات أمنية تركية، مثل «شركة سادات للاستشارات الدفاعية» تحت إشراف الاستخبارات التركية، أتوا من فصائل إسلامية سورية مسلحة تتبع أنقرة، مثل «السلطان مراد» و«سليمان شاه» و«الحمزة». وقدّر موقع قناة «الحرة» في 28 يناير/كانون الثاني 2024 بأن عدد المرتزقة السوريين الذين جلبهم الأتراك إلى ليبيا يصل إلى سبعة آلاف. أيضاً عند نشوب الحرب الأذربيجانية- الأرمنية في خريف عام 2020، كشفت صحيفة «الشرق الأوسط» في عدد الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 2020 إرسال الأتراك مرتزقة سوريين للقتال ضد الأرمن وصل عددهم إلى أكثر من 2500، فيما أفاد موقع «الحرة» في نفس الفترة أن 231 منهم قتلوا هناك. ثم أتت المرحلة الثالثة عندما تكشّف في الشهر الجاري بأن هناك آلاف من المرتزقة السوريين أرسلهم الأتراك إلى النيجر بدءاً من دفعة من ألف مرتزق غادروا مطار غازي عنتاب في الشهر التالي للانقلاب العسكري الذي وقع هناك في يوليو/تموز 2023 من أجل «حماية مشاريع ومصالح تركية فيها بينها مناجم»، بحسب «الشرق الأوسط» في عدد 16 مايو/أيار الجاري. ومنهم من قتل في المعارك ضد التنظيمات الإسلامية التي تناوىء الحكم العسكري الجديد، وهي مفارقة صارخة، إذ أن أولئك الذين توجهوا إلى ليبيا يقاتلون ضد حفتر المدعوم روسياً، بينما أقرانهم في النيجر يحاربون إلى جانب العسكر الذين تدعمهم موسكو، في حين حاربوا في القوقاز الأرمن، حلفاء الكرملين.
يعطي ذلك مؤشرات على أنهم بندقية للإيجار من دون موقف ثابت. ولكن عند تفحص ذلك، فإن مسك معرفي للموضوع سيقود إلى أنهم بحالة انقياد عند مشغِل اسمه أردوغان يذهب بهم إلى حيث يريد وضد من يريد ومع من يريد، وهم أمامه مثل ما يقول الصوفية بأن «المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه مثل الميت بين يدي الغاسل». ولكن ليس صحيحاً ما يقال في تحليلات عديدة بأن الفقر هو السبب في ظاهرة المرتزقة السوريين، بل يجب عزو ذلك إلى أمور أخرى.
هنا، يجب الرجوع إلى عام 2011 مع بدء الأزمة السورية، عندما أظهر الإسلاميون السوريون انقياداً التحاقياً بأردوغان لم يكن فقط ناتجاً عن المصلحة السياسية بل كان يظهر للعيان عبر مؤشرات عديدة بأنه التحاقي- اتباعي ناتج عن إيمان معتقدي أيديولوجي يجعلهم في حالة تبعية لـ«الأخ الكبير»، تماماً مثل حالة خالد بكداش عندما كان يقول عن الشيوعيين السوفييت بأنهم «الرفاق الكبار». رأينا هذا في ممارسات جماعة الإخوان المسلمون في سوريا داخل «المجلس الوطني» و«الائتلاف الوطني» وجرهم لهذين الجسمين السياسيين إلى حالة تبعية لأنقرة. وأيضاً، في تنظيمات إسلامية مسلحة مختلفة عقائدياً مع الإخوان المسلمون مثل «حركة أحرار الشام» بحكم الاتجاه السلفي- الجهادي البعيد عن الاتجاه الأصولي الإخواني، إذ كان لهؤلاء تبعية أيضاً لأردوغان، وكانوا بشكل أو آخر أقرب إلى المخلب التركي ضد فصائل أخرى بعيدة عن الولاء للأتراك.
في فترة تمتد من ربيع 2018 إلى اتفاقية موسكو بين أنقرة وموسكو في مارس/آذار 2020، اكتملت عملية ترحيل المسلحين الإسلاميين من الغوطة وحوران وشمال حمص إلى محافظة إدلب ومناطق شمال حلب، لتكرس تلك الاتفاقية الوضع القائم في منطقة الشمال الغربي السوري. منذ تلك الفترة، بدأ أردوغان في فرض سيطرة مباشرة، برضا صامت من الروس، على المسلحين ومنهم الجولاني. وبدأ الأتراك في إدارة سلطة عسكرية- أمنية لتلك المنطقة مع ترك إدارات كواجهات مثل «حكومة الإنقاذ» في إدلب و«الحكومة المؤقتة» في شمال منطقة حلب. وكل ذلك أقرب لما فعلته إسرائيل في السبعينيات في الضفة الغربية وقطاع غزة، أي احتلال عسكري- أمني مع إدارة مدنية من رؤساء البلديات. طبعاً، يوجد بين هؤلاء الموالي والموالي الأكثر ولاءاً. والفئة الأخيرة يمكن العثور عليها لدى الإسلاميين والسوريين من أصل تركماني ممن ينخرطون في فصائل عسكرية مثل «السلطان مراد» و«سليمان شاه».
يلاحظ هنا أن ظاهرة استعمال أردوغان للمرتزقة السوريين بدأت في تلك الفترة بعد أن وضع الفصائل المسلحة الإسلامية السورية في صندوق مغلق يخضع لسيطرته اسمه منطقة الشمال الغربي. فهو بعد أن وضعهم في ذلك الصندوق المغلق تحت سيطرته في الأراضي السورية الخاضعة له، بدأ يستعملهم كمرتزقة خارج الأراضي السورية في بلدان تنخرط فيها أنقرة في صراعات ضد قوى دولية أو إقليمية متعددة. وليس بإمكان هؤلاء الاعتراض أو هم لا يملكون من أمرهم شيئاً، عدا عن أن الكثير منهم، وفي مقدمتهم قادتهم، يمتلك قناعة أيديولوجية تخص توجيهات وأوامر «الأخ الأكبر» الجالس في القصر الرئاسي التركي.