دير الزور بين مشروع الإدارة الذاتية وفوضى أمراء الحرب
د.طارق حمو
شهدت الأيام الأولى من شهر مايو/أيار الجاري لقاءات موسّعة أجراها القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي مع عدد من شيوخ ووجهاء القبائل العربية في المناطق الأربعة في مقاطعة دير الزور. وبحسب بيان شامل ومفصل نشره المركز الإعلامي في قوات سوريا الديمقراطية، تمحور اللقاء حول تسريع تنفيذ نتائج ومقررات «مؤتمر تعزيز الأمن والاستقرار» الذي كانت الإدارة الذاتية في إقليم شمال وشرق سوريا نظمته في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وخرج بجملة من القرارات هدفت كلها لتنمية مقاطعة دير الزور ورعايتها بالمشاريع الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، بالاضافة إلى زيادة إشراك أهلها في عملية الإدارة وصنع القرار.
سبق اللقاء مع قائد قوات سوريا الديمقراطية لقاءات عديدة موسّعة عقدتها كل من قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية (شارك في بعضها ممثلون عن التحالف الدولي ضد تنظيم داعش) مع الفعاليات الأهلية والاجتماعية والثقافية في مقاطعة دير الزور. وكانت كلها بغرض تطوير المقاطعة وانعاشها اقتصادياً وتفعيل دور المجالس المحلية وإشراك الشباب والمرأة وممارسة مزيد من الشفافية والحوكمة الصحيحة وتعويض العوائل المتضررة من المواجهات التي وقعت بين مسلحين خارجين عن القانون وقوات سوريا الديمقراطية. وكانت قوات سوريا الديمقراطية عقدت في 27 أبريل/نيسان الماضي اجتماعاً موسّعاً مع شيوخ ووجهاء قبيلة العقيدات في إقليم الجزيرة، تناولت فيه الأحداث التي شهدتها مقاطعة دير الزور ومحاولات بث الفتنة بين مكونات المنطقة تحت مسمّيات مختلفة. ورفض المجتمعون تدخل القوى الخارجية في شؤون المقاطعة، مجددين تمسكهم بمشروع الإدارة الذاتية وبقوات سوريا الديمقراطية التي ينخرط أبناؤهم في صفوفها مدافعين عن مناطقهم وأمن أهلهم ضد هجمات تنظيم داعش المتكررة، وضد محاولات النظامين السوري والإيراني التمدد عبر استغلالهما شخصيات عشائرية تورطت في الفتنة وحمل السلاح، قبل أن تنهزم وينفض عنها الناس، لتفر إلى مناطق النظام ويتم احتضانها واستخدامها ضد مشروع الإدارة الذاتية وضرب حالة التعايش المشترك. وقبل ذلك، وفي 18 أبريل/نيسان الماضي، اجتمع كل من المجلس العسكري لدير الزور وممثلين من قوات التحالف الدولي مع شيوخ ووجهاء وأعيان مقاطعة دير الزور. وركزّ الإجتماع على تلبية مطالب الأهالي الخدمية وتسوية أوضاع المسلحين والمعتقلين الذين لم تلوث أياديهم بدماء الأبرياء، وضرورة مواصلة الأهالي دورهم في دعم قوات سوريا الديمقراطية ومحاربة وجود ومظاهر تنظيم داعش والميليشيات التابعة للنظام السوري وتلك المرتبطة بإيران.
وبالعودة إلى اللقاء الأخير للوفد العشائري والأهلي من مقاطعة دير الزور مع قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، يمكن القول بأنه كان التتويج الحقيقي لسلسلة اللقاءات والندوات والمؤتمرات السابقة حول دير الزور، والتي جاءت كلها بهدف توطيد الأمن والاستقرار بعد الأحداث التي شهدتها المقاطعة عقب الحملة العسكرية والأمنية التي أطلقتها قوات سوريا الديمقراطية في 27 أغسطس/آب 2023 تحت عنوان «تعزيز الأمن«»، واستغلال النظامين السوري والإيراني للأحداث عبر دعمهما شخصيات محددة ودفعها لحمل السلاح وتأليب الأهالي، بهدف ضرب الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، وما ترتب عن كل ذلك من مراجعة وتقييم لكل سياسات وإجراءات المرحلة السابقة. حضر اللقاء شيوخ ووجهاء من قبيلتي العكيدات والبكارة العربيتين، وهما من كبرى قبائل مقاطعة دير الزور، ويشكل أبنائهما معظم مقاتلي مجلس دير الزور العسكري التابع لقوات سوريا الديمقراطية. وبحسب بيان المركز الإعلامي في قوات سوريا الديمقراطية، أشاد «القائد مظلوم عبدي بدور العشائر الآن وسابقاً في محاربة داعش وحماية مكتسبات المنطقة التي حققها الأهالي بدماء أبنائهم، ونوَّه أن لهم الفضل الأكبر في تحرير المنطقة من الإرهاب، وهم الضمانة لحمايتها من كل التهديدات التي تتعرض لها». وأكدّت الفعاليات العشائرية والأهلية دعمها قوات سوريا الديمقراطية ومشروع الإدارة الذاتية، ورفضهم التام تدخل النظام السوري والميليشيات الإيرانية في شؤونهم وتحريض أبنائهم على التمرد وتحويلهم لجزء من مشاريع غير وطنية، يُستخدمون فيها لصالح دول ومحاور إقليمية. ونتج عن اللقاء مخرجات ستكون بمثابة خطة عمل وإنماء متكاملة المعالم لمناطق المقاطعة الأربعة، بمشاركة واضحة للمجالس الأهلية ودور أكثر فعالية للشيوخ والوجهاء والشخصيات الاجتماعية والثقافية والكوادر العاملة في المجالين الإداري والأمني. وهذه المخرجات هي:
أولاً: تسريع تنفيذ نتائج ومقررات «مؤتمر تعزيز الأمن والاستقرار»، واستكمال تنفيذ باقي القرارات الصادرة عنه، والتي تهدف إلى تحسين الواقع الخدمي والأمني والإداري في المقاطعة.
ثانياً: الإسراع في سير أعمال مجلس العدالة في المنطقة ومتابعة ملف المعتقلين وإعادة النظر في قضايا المعتقلين الذين لم تتلطَّخ أياديهم بدماء أهالي المقاطعة.
ثالثا: سَرَيان مفعول العفو الذي أصدرته قوات سوريا الديمقراطية في وقت سابق للأشخاص الذين غُرِرَ بهم ودخلوا مناطق سيطرة النظام السوري. ويكون العفو بكفالة شيوخ ووجهاء المقاطعة.
رابعاً: تسريع عمل لجنة التعويضات واكتمال تقييمها وفحصها المنازل والمحال التجارية التي تعرضت للضرر والتخريب في الأحداث التي شهدتها المنطقة العام الماضي، خاصةً في المناطق الموجودة على ضفاف نهر الفرات، وإعادة إعمار المرافق العامة، وبحث سبل دعم الزراعة في المقاطعة وكيفية تقديم التسهيلات للمزارعين.
خامساً: النظر في الشكاوى التي تتعلق بالجوانب الإدارية والخدمية والتوصية بمتابعتها من قبل الجهات المختصة.
سادساً: إبعاد الفاسدين والمرتشين عن جميع المؤسسات ومحاسبتهم وإعادة هيكلة المؤسسات الإدارية والخدمية في المنطقة، بناءً على قرار «مؤتمر تعزيز الأمن والاستقرار».
سابعاً: إعادة تفعيل المعابر الإنسانية التي تم توقيف العمل فيها نتيجة الأحداث الأمنية التي شهدتها المقاطعة.
ثامناً: دعوة جميع رؤساء وشيوخ ووجهاء العشائر في المقاطعة للمشاركة في ملتقى العشائر الذي سيُعقد في وقت قريب.
تاسعاً: التحقيق مع كل فرد من القوات العسكرية أو الأمنية ممن ارتكب خطأ أو تجاوزاً أثناء عمليات ملاحقة عناصر تنظيم داعش، بحيث ينال من تثبت أدانته بأي تجاوز على القانون جزائه العادل.
عاشراً: إخراج دفعة أولى من أهالي دير الزور من المتواجدين في مخيّم الهول في الثّامن من شهر مايو/أيار الجاري، بكفالة شيوخ ووجهاء العشائر، ليتم دمجهم بالمجتمع، على أن تعقبها دفعات أخرى سيتم إخراجها من المخيم.
وتأتي هذه المتابعة المستمرة والمباشرة من قبل قيادة قوات سوريا الديمقراطية، وشخصياً من قبل قائدها مظلوم عبدي، لتبين أهمية الموضوع والجديّة الكاملة في احتواء الأحداث والتطورات، ورد المظالم لأصحابها، وترجمة مخرجات مؤتمرات واجتماعات الوجهاء والأهالي مع الإدارة الذاتية، والتي تصب كلها في تطوير مقاطعة دير الزور وإعادة بناء ما تهدم، والإشراف على وضع هيكيلية جديدة للمؤسسات والدوائر والمجالس المحلية، الإدارية منها والأمنية، والعفو عن من تورط في حمل السلاح دون أن يسفك دماً، وإعادة مئات العائلات الموجودة في مخيم الهول إلى مناطقها. ومن المهم متابعة كل تفاصيل ما جرى في دير الزور وإجراء تقييم شامل للمرحلة التي سبقت وأعقبت عملية «تعزيز الأمن» في نهاية أغسطس/آب 2023 التي جرت بهدف ضرب خلايا تنظيم داعش واعتقال المطلوبين من تجار ومروجي المخدرات والخارجين عن القانون من الذين امتهنوا التعدي على أرزاق وأموال المواطنين. وأسفرت العملية كذلك عن توقيف قوات سوريا الديمقراطية أحمد الخبيل، القائد السابق لـ«مجلس دير الزور العسكري» بعد استكمال نتائج التحقيقات في التهم الموجهة إليه بالفساد والمتاجرة بالمخدرات (الكبتاغون خاصة) وإهانته لرموز اجتماعية وعشائرية في المنطقة واستغلاله نفوذه ومكانته في ابتزاز وترويع المدنيين. وما تلا ذلك من تصعيد عملياتي وإعلامي مهول من قبل النظام السوري والمعارضة التابعة لتركيا والتحريض الكبير عبر مئات المواقع والمنصات الإلكترونية والفضائيات والمساحات المرئية التابعة للنظام والمعارضة في حملة متوازية بدت موجهة ومنسقة لتسعير خطاب الكراهية والتحريض، بهدف دفع أهالي مناطق شرق دير الزور إلى مقاتلة قوات سوريا الديمقراطية، التي يشكل الشباب المحلي في تلك المناطق عمادها الرئيسي. وأصدر الطرفان معاً خطاباً موحداً في التأليب والفتنة تمحور حول «هبة العشائر العربية» ضد قوات سوريا الديمقراطية التي وصفوها بـ«الكردية» لخلق المزيد من الشحن العنصري واستنهاض الحميّة العشائرية وتحوير القضية ووضعها في قالب الصراع القومي.
لقد سارت ماكينة إعلام النظام والمعارضة التابعة لتركيا جنباً بجنب، مقتبسة مصطلحات التحريض والشحن من بعضها البعض، مع وجود بعض التحوير والتغيير في الخطاب. فأصبح الخارجون عن القانون ممن حملوا السلاح ضد قوات سوريا الديمقراطية في عرف النظام وآلته الإعلامية «العشائر التي تريد تحرير المنطقة لتسلمها إلى الدولة»، وفي عرف المعارضة التابعة لتركيا: «العشائر التي تريد تحرير المنطقة لتسلمها إلى الثورة». وسبق لمظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، أن أشار إلى التخادم القائم بين النظام والمعارضة، في حديث لمجلة «المجلة» السعودية في 23 سبتمبر/أيلول 2023 عندما قال إن هناك تنسيقاً تركياً ـ سورياً ـ إيرانياً ضد قوات سوريا الديمقراطية. وأشار إلى أنهم رصدوا تعاوناً وتشاوراً بين الأطراف الثلاثة في دعم المسلحين وتدريبهم وإرسالهم للهجوم على مواقع قوات سوريا الديمقراطية، خاصة في مناطق ريف دير الزور الشرقي.
ومع بقاء الهدف واحداً في ضرب الأهالي بقوات سوريا الديقراطية وإشاعة الفوضى والتخريب، تتضح حقيقة تقول إن النظام السوري والميليشيات الإيرانية كانا المحرك والمؤثر الأقوى على الأرض، وهما من سارعا إلى احتضان الشرذمة التي حملت السلاح وخرجت عن القانون ووضعا مسمى رسمي لها هو «جيش العشائر»، ليصطف إلى جانب الميليشيات الكثيرة التي أسساها في دير الزور، مثل ميليشيا «لواء الباقر» و«الدفاع الوطني» و«المقاومة الشعبية» و«فوج العشائر الهاشمية». وعلى مدار حوالي أسبوعين تقريباً وبدعم وإشراف كاملين من قوات النظام والميليشيات الإيرانية، عاث الخارجون عن القانون فساداً في المناطق التي شهدت اضطرابات، والتي قررت قوات سوريا الديمقراطية بادئ الأمر الانسحاب منها، تفادياً للمواجهة وسفك الدماء. وبعد اتضاح الصورة وتشكل معالم المشهد، شنت قوات سوريا الديمقراطية عمليات خاطفة ودقيقة أسفرت عن طرد المسلحين وتحرير القرى والمزارع منهم، ليتضح بعد ذلك آثار النهب الممنهج الذي قامت به المجموعات المسلحة لمرافق المنطقة ومبانيها، حيث تعرضت مؤسسات ومحطات المياه والآليات العامة ومولدات الكهرباء وأجهزة الخدمة في المستوصفات والوحدات الزراعية للنهب والتخريب من قبل المسلحين. حتى أن «مزار 700» من شهداء عشيرة الشعيطات العكيدية من الذين قتلهم تنظيم داعش عام 2014، والكائن في منطقة هجين، لم يسلم من أيدي المسلحين اللصوص الذين دنسوا النصب وفككوا النوافذ والأبواب وألواح الطاقة الشمسية وأجهزة المكيفات والسجاد وسرقوها.
والآن، يزيد كل من النظام السوري والحرس الثوري الإيراني تحركاتهما في دير الزور. وهي موجهة بالدرجة الأولى ضد قوات سوريا الديمقراطية والهياكل الإدارية والعسكرية في مناطق ريف دير الزور الشرقي. وكانت إيران أعادت التموضع والانتشار عقب عملية حركة حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 والمواجهات وعمليات القصف المبتادلة بينها وبين الولايات المتحدة، والتي شملت مناطق مقاطعة دير الزور، بالإضافة إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط. ولا يزال النظام السوري وشريكه الإيراني يراهنان على بعض الشخصيات، التي تورطت في حمل السلاح والخروج على قوات سوريا الديمقراطية، في تجنيد الشباب المحلي وتشكيل الميليشيات المحلية لاستخدامها ضد الإدارة الذاتية وتمظهراتها العسكرية والأمنية. كذلك، يواصل النظام المضي قدماً في تفعيل «لجنة المصالحة» التي تضم معارضين سابقين حملوا السلاح وتورطوا في قتل جنود الجيش النظامي، بالإضافة إلى أشخاص كانوا يحتلون مناصب مؤثرة وقيادية ضمن تنظيم داعش، لاستخدامهم في الحرب ضد قوات سوريا الديمقراطية (منهم على سبيل المثال لا الحصر: غانم السليمان، المسؤول السابق في مكتب العشائر التابع لداعش). ومن هنا، تأتي أهمية المتابعة الدقيقة لأوضاع مقاطعة دير الزور، لا سيما أن النظام وحليفه الإيراني يرون فيها الخاصرة الرخوة للإدارة الذاتية، مستندين على تشكيلة من الشخصيات الأهلية (أمراء حرب) من الذين أغدقوا عليهم الامتيازات والمناصب وشكلوا تحت إمرتهم ميليشيات باتوا يتحكمون من خلالها في مناطق واسعة يفعلون بأهلها ما يشاءون.
تبدو المتابعة المباشرة من قبل قوات سوريا الديمقرطية، والحضور الرمزي والمعنوي لقائدها مظلوم عبدي، في الإشراف على تطبيق بنود المؤتمرات والاجتماعات مع الفعاليات الأهلية والعشائرية في دير الزور أمراً مهماً للغاية لافشال خطط النظام السوري وحليفه الإيراني، وبموازاتهما المعارضة التابعة لتركيا، في تأليب المواطنين على الإدارة الذاتية ومؤسساتها الإدارية والأمنية. ومن الجلي أيضاً أن الإشراف على تنفيذ كل البنود والإجراءات، من حيث بناء ما خرّبه المسلحون وتعويض الأهالي ومتابعة سير عملية العفو ونقل العائلات من مخيم الهول إلى بلداتها وقراها وتطبيع الأوضاع وإعادة الهيكلة ومحاسبة كل من تجاوز وتعدى، يعتبر خير سلاح لإحباط حملات النظام وأدواته في التخريب واشاعة الفوضى والفتنة. إن المساعي السياسية واللقاءات الاجتماعية والشخصية الحميمة، بالإضافة إلى تنفيذ كل بنود الاتفاقات السابقة، وإجراءات التطبيع وإشراك الكفاءات في عملية البناء والتنمية إجراء وقائي وعلاجي في نفس الوقت، قادر على بناء ما تهدم وإصلاح ما فسد وتثبيت حوكمة صحيحة وعدالة اجتماعية حقيقية وتوطيد نظام إداري وخدمي من الأسفل للأعلى. سيقدم كل ذلك نموذجاً مشجعاً لأهالي بقية المناطق وحافزاً أكبر لسكان مقاطعة دير الزور للتمسك بمكتسباتهم داخل صيغة الإدارة الذاتية واعتبارها منجزاً لهم يضمن حقوقهم ويميّزهم عن بقية المناطق التي تئن تحت واقع الفوضى والفساد وجرائم الميليشيات الخارجة عن القانون وطغيان أمراء الحرب.