«قواعد إيرانية» لشرق أوسط جديد!

حسين جمو 
تحاول الولايات المتحدة، بكل ما أوتيت من منصات التأثير في الرأي العام، تصوير هجوم إيران الكبير على إسرائيل بمئات الصواريخ والمسيرات على أنه انتصار لأنظمة الدفاع الإسرائيلية وحلفائها، وذلك بتفريغ هذا الهجوم فاعليته التدميرية. وهذا صحيح إذا كان الغرض الإيراني من الهجوم إلحاق الضرر المادي بإسرائيل. لكن أجندة الرئيس الأميركي جو بايدن في منع إسرائيل من الرد لم تصمد طويلاً على الرغم من تصدير واشنطن رواية «انتصار إسرائيل» في أول هجوم إيراني مباشر عليها! فقد ردت تل أبيب فجر 19 أبريل/ نيسان بهجوم صاوخي وعبر المسيّرات على مواقع تابعة للحرس الثوري الإيراني في أصفهان.
كتب ديفيد إغناشيوس في صحيفة «واشنطن بوست» تحت عنوان: «النصر المذهل يمنح إسرائيل فرصة» إنه بعد ستة أشهر محبطة في غزة، حققت إسرائيل أخيراً نصراً حاسماً ضد خصومها من خلال صد الهجوم الصاروخي الإيراني الشامل بعرض مذهل للبراعة العسكرية عالية التقنية. واعتبر أن النجاح المذهل الذي حققته إسرائيل في صد الرد الإيراني على ذلك الهجوم قد يشكل نقطة تحول نفسية في صدمة حرب غزة.
أيضاً صرح بريت ماكغورك، مسؤول شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي: «هجوم إيران كان السيناريو الأسوأ، لكنه كان أفضل السيناريوهات من حيث النتيجة بالنسبة لإسرائيل».
وتسابق مسؤولون في إدارة بايدن إلى «تسريب» آرائهم للإعلام، من قبيل أن ما يقرب من 50% من الصواريخ الباليستية التي أطلقتها إيران فشلت في الانطلاق أو تحطمت قبل الوصول إلى هدفها، فيما تم اعتراض نصفها بنجاح. وسخر مسؤول أميركي آخر من القدرة الصاروخية الإيرانية.
في السياق، يرى فرانك ماكنزي، الجنرال المتقاعد الذي قاد القيادة المركزية الأميركية عندما نفذت الغارة التي قتلت الجنرال قاسم سليماني، إن إيران عانت من انتكاسة عسكرية بفشلها في إلحاق الضرر بإسرائيل بهجومها بالطائرات بدون طيار والصواريخ، وهذا ما دفعه إلى القول إن الإيرانيين «أضعف اليوم مما كانوا عليه بالأمس، ومهما كان ما يقولونه، فالجميع يعلم أن هذا الهجوم فشل. وهذه أخبار جيدة لإسرائيل».
إن نماذج الآراء السابقة تسعى إلى إقناع إسرائيل بعدم الرد على الهجوم الإيراني. فبالنسبة لإدارة بايدن، سيكون تصميم إسرائيل على الرد مخيباً للآمال، حيث يأمل المسؤولون في أن يكون تحييد الهجوم الصاروخي الإيراني بمثابة استعراض كاف للقوة، وأن يتبع ذلك فترة من التهدئة في الصراع الأوسع في غزة. ونصح بايدن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بعد الهجوم الإيراني: «تمهّل بعد هذا الانتصار، وفكر ملياً».
«لا يجب لإسرائيل أن ترضى بهذا النصر»، تحت هذا العنوان كتب لولتر راسل ميد في صحيفة «وول ستريت جورنال» قائلاً: «أصبح بايدن أكثر ذكاءً فيما يتعلق بالشرق الأوسط اليوم مما كان عليه في يناير 2021.. اليوم يدرك الرئيس أنه لا يستطيع مصافحة إيران ببساطة والابتعاد عن الشرق الأوسط، وأن على الولايات المتحدة العمل على تعزيز تحالف قادر على كبح مساعي إيران المتشددة التي لا هوادة فيها لتحقيق الهيمنة، إذا كانت الولايات المتحدة تأمل في التراجع عن دورها في الخطوط الأمامية في المنطقة».

لكن، كيف يمكن بناء هذا التحالف؟

لقد ركزت الولايات المتحدة على التعاون الأقل رسمية في مجال الدفاع الجوي على مستوى المنطقة بدلاً من إقامة نسخة شرق أوسطية من حلف الناتو لإضعاف ترسانة طهران المتنامية من الطائرات بدون طيار والصواريخ، وهي الأسلحة نفسها التي هددت إسرائيل. تعود الجهود المبذولة لبناء نظام دفاع جوي متكامل للمنطقة إلى عقود مضت. واكتسبت المبادرة زخماً بعد اتفاقيات إبراهيم لعام 2020 التي توسطت فيها إدارة دونالد ترامب، والتي أنشأت علاقات رسمية بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين. وبعد ذلك بعامين، نقل «البنتاغون» إسرائيل من قيادتها الأوروبية إلى القيادة المركزية التي تشمل بقية دول الشرق الأوسط، وهي خطوة مكّنت من تحقيق تعاون عسكري أكبر مع الحكومات العربية تحت رعاية الولايات المتحدة. إن انتقال إسرائيل إلى القيادة المركزية كان بمثابة تغيير في قواعد اللعبة، ما سهّل تبادل المعلومات الاستخبارية وتوفير الإنذار المبكر عبر البلدان، وفق دانا سترول، التي كانت حتى ديسمبر/كانون الأول أكبر مسؤول مدني في «البنتاغون» مسؤولاً عن الشرق الأوسط.
لكن التعاون العربي الإسرائيلي ما زال هشاً، وتتفادى الدول العربية المندرجة في هذا التحالف الهش التصريح عن مساهماتها الإيجابية ضد الهجوم الإيراني، وهي تجد حرجاً كبيراً في أن تختار أحد الجانبين، وفق تحليل نشرته «وورل ستريت جورنال». ويرى برنارد هدسون، وهو من قدامى ضباط وكالة الاستخبارات المركزية والرئيس السابق لمكافحة الإرهاب بالوكالة، إنه بعد جمود دام أشهراً بين واشنطن والحوثيين في اليمن، أظهر هجوم السبت الماضي أن إيران تقترب من التكافؤ الأمني مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأن الرد الأميركي يهدد الفشل في تقليص القدرة العسكرية الإيرانية بشكل كبير. وقال: «لن يضيع هذا التفسير عن حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين الذين سيتعين عليهم بشكل متزايد اتخاذ ترتيباتهم الأمنية الخاصة مع استمرار تقلص المظلة الأميركية الواقية».
إذا لم ترد إسرائيل وآثرت الأخذ بنصائح واشنطن، سيعزز ذلك نهج إيران في رسم حدود جديدة للنفوذ تتضمن لأول مرة «خط أحمر إيراني».
تدرك إسرائيل أن إيران اتخذت هذا الإجراء الضخم لوضع قواعد جديدة من خلال قصف إسرائيل مباشرة كردٍ على هجومها في الأول من أبريل/نيسان ومقتل قادة إيرانيين في دمشق. وإذا لم تفعل إسرائيل شيئاً وآثرت الأخذ بنصائح واشنطن، سيعزز ذلك نهج إيران في رسم حدود جديدة للنفوذ تتضمن لأول مرة «خط أحمر إيراني واضح». وسيكون على إسرائيل في المرات القادمة التي تشن فيها هجمات على المصالح الإيرانية أن تفكر ملياً. وأبلغ وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت الأميركيين أن إسرائيل تحتاج إلى ردع قوي للغاية لكي تتمكن من البقاء في الشرق الأوسط، وأن الدفاع ليس بالضرورة كافياً لردع إيران.
القراءات الأميركية العكسية للهجوم الإيراني لم تقنع قادة إسرائيل، لكنها أثرت بشدة على خيارات تل أبيب رغم ذلك. فقد تراجعت إسرائيل عن شن ضربة مضادة لإيران مرتين على الأقل منذ الهجوم الإيراني. ولا يمكن تفسير ذلك إلا بالضغوط الأميركية غير العادية لإيقاف هذا المسار التصاعدي الإقليمي وحصر المواجهات داخل إسرائيل وغزة، لأن «حدود الحرب» التي ترسمها واشنطن لإسرائيل تتيح لها الاستمرار في خططها بالانسحاب من الشرق الأوسط لاحقاً.
لسنوات، جادل المسؤولون الإسرائيليون، في العلن وفي السر، بأنه كلما تعرضت إيران لضربة أقوى كلما أصبحت أكثر حذراً بشأن الرد. وأدى الهجوم الإيراني إلى قلب هذا المنطق. وتقر المحللة الأمنية سيما شاين، الرئيسة السابقة للأبحاث في الموساد، لصحيفة «نيويورك تايمز»: «أعتقد أننا أخطأنا في الحسابات. إن الخبرة المتراكمة لدى إسرائيل هي أن إيران لا تملك وسائل جيدة للانتقام. كان هناك شعور قوي بأنهم لا يريدون المشاركة في الحرب. لكن المفاجأة أنه بدلاً من ذلك، خلقت إيران نموذجاً جديداً تماماً».
ومع ذلك، فإن الضربات الإيرانية تحوّل حرب الوكالة التي دامت سنوات بين إسرائيل وإيران إلى مواجهة مباشرة. وأثبتت طهران أن لديها قوة نيران كبيرة لا يمكن صدها إلا بدعم مكثف من حلفاء إسرائيل، مثل الولايات المتحدة، ما يسلط الضوء على حجم الضرر الذي يمكن أن تلحقه دون هذه الحماية.
كان قرار طهران بالرد هذه المرة مدفوعاً إلى حد كبير بالغضب في بعض دوائر المجتمع الإيراني من السلبية السابقة، وفقاً لما ذكره المحلل الإيراني علي فايز لـ«نيويورك تايمز».
يرى آرون ديفيد ميلر، المحلل في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، وهي مجموعة بحثية مقرها واشنطن، أن «إسرائيل ارتكبت خطأين استراتيجيين كبيرين في أقل من عام: قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان المسؤولون الإسرائيليون ارتكبوا خطأ فادحاً وخلصوا إلى أن حركة حماس تم ردعها عن مهاجمة إسرائيل. ثم شنت الحركة الهجوم الأكثر دموية في تاريخ إسرائيل. لذلك، عندما يتعلق الأمر بتقييم المخاطر، فإن إسرائيل خسرت 0 مقابل 2. لقد فشلوا في قراءة قدرة «حماس» ودوافعها بشكل صحيح في 7 أكتوبر/تشرين الأول، ومن الواضح أنهم أخطأوا في تقدير كيفية رد إيران على ضربة الأول من أبريل/نيسان».

تحالف متخيّل

تسعى إسرائيل إلى بناء تحالف إقليمي علني ضد رسم إيران قواعد أمنية واستراتيجية جديدة في المنطقة. وتحدث وزيران إسرائيليان عن هذا المسعى بعد ساعات من الهجوم الإيراني. وقال الوزير المنتمي لتيار الوسط بيني غانتس قبل اجتماع مجلس وزراء الحرب في إسرائيل: «سنشكل تحالفاً إقليمياً وسنجعل إيران تدفع الثمن بالطريقة والتوقيت المناسبين لنا».
وبالمثل، قال وزير الدفاع يوآف غالانت أيضاً إن لدى إسرائيل فرصة لتشكيل تحالف استراتيجي ضد «هذا التهديد الخطير من قبل إيران».
قد تضطر الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في كافة خططها طويلة الأمد في إخلاء الشرق الأوسط، بما في ذلك إعادة تعريف وجودها في شمال شرق سوريا
لكن العامل الحاسم في بناء هذا التحالف هو ما إذا كان سيبنى على الوجود الأميركي في المنطقة أم بدونه. وتشير المعطيات إلى الآن، قبل الرد الإسرائيلي على هجوم إيران، إلى أن مساعي الولايات المتحدة نقل ثقلها الاستراتيجي إلى منطقة المحيط الهادئ تواجه عقبات كبرى جراء المخاطر المحدقة بإسرائيل. وقد تضطر الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في كافة خططها طويلة الأمد في إخلاء الشرق الأوسط، بما في ذلك إعادة تعريف وجودها في شمال شرق سوريا ليصيح في إطار استراتيجي شامل وليس محصوراً فقط بمحاربة تنظيم داعش. ومثل هذا التغيير ليس سهلاً من الناحية التشريعية في الولايات المتحدة، ويتطلب تجديد التفويض من الكونغرس لتصبح منطقة شمال وشرق سوريا (الإدارة الذاتية) ضمن الأصول الاستراتيجية للاستقرار إلى جانب الحلفاء – الدول للولايات المتحدة، مثل دول الخليج والأردن.
إن ضبط معالم الفوضى في الشرق الأوسط يتوقف على اعتراف الولايات المتحدة أولاً بالواقع الجديد، وهو واقع خلقته إيران وليس الولايات المتحدة. فخطوط الردع الأميركية التي أعلنتها منذ بداية الحرب بين إسرائيل وحركة حماس وتحديدها خطاً أحمراً وهو عدم السماح بتعرض إسرائيل لعدوان خارجي وعدم السماح بتوسع الصراع، قد فشل. ولن يصلح هذا الفشل قول بايدن لنتانياهو «لقد انتصرتم». وتحتاج الولايات المتحدة إلى تجديد أساليب وأدوات ضبط الصراعات في الشرق الأوسط. وهذا لن ينجح طالما أن الدبلوماسية الأميركية تعتمد على أدوات قديمة في واقع جديد كلياً، ومنها اعتمادها على قواعد مطلع التسعينيات بعد نهاية الحرب الباردة، مثل اعتبار تركيا عنصر توازن أمام إيران، وهذا افتراض ساذج، لأن حدود التنافس والصراع بين إيران وتركيا صلبة وواضحة وغير قابلة لتوتر استثنائي مثلما ثبت ذلك خلال سنوات الحرب في سوريا.
إن ضبط معالم الفوضى في الشرق الأوسط يتوقف على اعتراف الولايات المتحدة أولاً بالواقع الجديد، وهو واقع خلقته إيران وليس الولايات المتحدة.
إن الأدوات المتقادمة رجحت كفة إيران في الصراع على المنطقة حتى الآن. والواقع أن مساعي واشنطن في التحول إلى ما تعتبره «العصر الجديد للمنافسة الاستراتيجية مع الصين» تتعثر في التحرر من الشرق الأوسط.
قبل ثمانية أيام من هجوم حركة حماس، قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان وهو يصف الأشياء الإيجابية التي تحدث في الشرق الأوسط والتي سمحت للولايات المتحدة بتحويل اهتمامها إلى أماكن أخرى، مثل المنافسة مع الصين، إن «منطقة الشرق الأوسط تشهد أعظم استقرار منذ عقود».
وللمفارقة، بعد هجوم «حماس»، قام مكتب سوليفان بإرسال نسخة جديدة من مقاله المرسل إلى إدارة التحرير في فصلية «فورين أفيرز» (عدد نوفمبر/ديسمبر، تشرين الثاني/كانون الأول). في النسخة الجديدة، اختفت عبارة إن «منطقة الشرق الأوسط تشهد أعظم استقرار منذ عقود». لكن ما يزال سوليفان مصراً على عدم تغيير جوهر الاستراتيجية الأميركية بترك المنطقة، وكتب: «الأزمة في الشرق الأوسط لا تغير حقيقة أن الولايات المتحدة في حاجة إلى الاستعداد لعصر جديد من المنافسة الاستراتيجية، لا سيما من خلال الردع والرد على عدوان القوى العظمى».
لكن يبقى أنه كتب هذه الكلمات قبل الهجوم الإيراني المباشر على إسرائيل. وربما من الملائم طرح تساؤل بوتوماك ووتش في «وول ستريت جورنال» لدى التفكير في الخيارات الأميركية: «ماذا سيحدث إذا جاء الهجوم التالي على إسرائيل دفعة واحدة من حزب الله في لبنان وسوريا وكذلك إيران؟».

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد