أنقرة وتل أبيب: العودة لسياسة حافّة الهاوية
شورش درويش
باءت سياسة تحييد الاقتصاد عن الموقف من حرب غزة بفشل ليس كأي فشل، إذ جاء على شكل عقاب انتخابي لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية التركية، وأحد الأسباب الرئيسية لتراجع شعبية الحزب وخسارته لبعض البلديات التي حظي فيها بحضور طاغٍ، وإحجام ناخبين كانوا تقليدياً ضمن الكتلة المصوّتة للحزب الحاكم عن الإدلاء بأصواتهم نتيجة حدّة الاختلاف بين القول والفعل، وافتضاح متانة العلاقة الاقتصادية والتجارية بين أنقرة وتل أبيب وتحوّلها لمادة إعلامية نجحت الأصوات المناوئة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في عرضها بالأرقام للرأي العام.
لطالما حاول أردوغان اتخاذ موقف معادٍ لتل أبيب في الإعلام، فيما كانت التجارة تزدهر أكثر مما كانت عليه قبل الحرب على غزة، مع ضلوع مقرّبين منه شخصياً في التربّح من العقود التجارية وعمليات التصدير لإسرائيل أثناء الحرب. إلا أنه مع افتضاح سياسة اللعب على الحبال هذه، نبّهت الانتخابات البلدية الرئيس التركي وفريقه الحكومي إلى وجوب الخوض في طريق جديد تمثّل بفرض قيود على تصدير 54 منتجاً تركياً إلى إسرائيل لحين إعلان وقف إطلاق النار في قطاع غزة، الأمر الذي استحضر غضباً إسرائيلياً وآخر بات يسمع صداه في واشنطن.
الانتخابات حفّزت وقف التصدير
كانت سياسة أردوغان تجاه حرب غزة من بين الأسباب التي أفضت لخسارته الانتخابات البلدية، وأبرز المحددات لتراجع شعبيته على ما قالته استطلاعات الرأي. لطالما كانت السياسة الخارجية التركية أبرز مصادر «الدخل السياسي» لأردوغان. إلّا أن إخفاقه في إنتاج مقاربة موضوعية في التعامل مع إسرائيل، تسبب في إعطاب ماكينة الدعاية الحكومية، فوق أن أرقام الصادرات التركية لإسرائيل وبلوغها مستويات غير مسبوقة منذ بدء حرب غزة وأسماء الشركات والكيانات المصدّرة المقرّبة من الحكومة، أمست مسائل في متناول المعارضة والإعلام.
يمكن اعتبار القرار الذي أعلنته وزارة الخارجية بفرض القيود على الصادرات بأنه ثمرة للعقاب الانتخابي. وبالتالي، دخل أردوغان في مفاضلة قاسية بين الاقتصاد والشعبيّة. ولئن كانت الانتخابات هي الدينامية التي سرّعت من عملية وجوب الاختيار بين هاتين المسألتين، فإن استدارة أردوغان إنما بنيت أيضاً على توقّعات اقتراب موعد انتهاء الحرب في غزة مع بلوغها الشهر السادس وتراجع التأييد الدولي (الغربي) لإسرائيل، الأمر الذي إن تحقق فإنه سيضاف إلى سلة نجاحات مزعومة للرئيس التركي الذي سيربط توقف الحرب بقرار فرض القيود على الصادرات التركية، وهو ما يحتاجه أردوغان لترميم حالة الصدع التي أصابت صورته خلال الانتخابات البلدية.
لم تساهم مسألة التبادل التجاري الاقتصادي في انصراف الناخبين فحسب، بل في استياء الاتجاهات الإسلاموية من وطأة هذا الملف. فزعيم حزب الرفاه من جديد، محمد فاتح أربكان، وضع شرطاً للتحالف مع حزب العدالة والتنمية متمثلاً بـ«طرد السفير الإسرائيلي والوقف الكامل للتجارة مع إسرائيل». بل إن أصغر الأحزاب الإسلامية في المنطقة الكردية بتركيا، حزب هدى بار، دعا إلى قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل «في أقرب وقت ممكن».
ثمة إلى ذلك قطبة مخفية في سلوك الحكومة التركية الأخير. إذ يضاف إلى عامل الانتخاباتـ، رغبة أردوغان في النفاذ إلى المشهد عبر عقود إعادة إعمار غزّة، وهو ما قد يعوّض على الطبقة المتضررة من تعليق تصدير المنتجات التركية، إلّا أن كل هذه الحسابات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمدّة التي ستستغرقها الحرب في غزة. أي أن المسألة بالنسبة للجانب التركي باتت مسألة صراع مع الزمن. فتوقّف الحرب، التي لا يمكن التكهّن بتطوّراتها ونهايتها، يعني تحقيق أردوغان غايتين: عودة العلاقات التجارية المميزة مع تل أبيب إلى سابق عهدها، وثانياً الفوز بعقود إعادة الإعمار كطرف مقرّب لطرفي الصراع: إسرائيل وحركة حماس.
سؤال الاقتصاد مرة أخرى
من المتوقّع أن تبلغ خسائر تركيا خمسة مليارات دولار جراء قرار التعليق، وهو ما يعني تضرر أنقرة أيضاً، ذلك أن طبيعة هكذا قرارات هي أشبه بطريق ذي اتجاهين. فإسرائيل أيضاً هددت بوضع قائمتها الخاصة لحظر استيراد بعض المواد من تركيا. بمعنى أن قائمة الحظر قد تتجاوز الـ54 منتجاً الذي أعلنت عنهم أنقرة. وبالتالي، قد يتزايد رقم الخسائر التركية جراء التعليق الإسرائيلي للاستيراد.
وفي السنوات العشرين الأخيرة، أي منذ وصول حزب العدالة والتنمية، تطوّرت العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإسرائيل تطوراً ملحوظاً، «ليرتفع حجم التجارة، الذي كان 1.41 مليار دولار قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، إلى 8.91 مليارات دولار في 2022، في ميزان تجاري رجحت فيه كفّة تركيا بفارق كبير، حيث تحتل المركز العاشر في الدول الأكثر تصديراً لإسرائيل مقابل المرتبة 29 إسرائيلياً بالنسبة لتركيا». إلّا أن أحداث 7 أكتوبر 2023 لم تقطع حبال التجارة، بل إن تواصل توريد مواد معيّنة، كتوريد الثياب الداخلية للجيش الإسرائيلي، أثّر بدرجة أكبر على المزاج الشعبي.
لكن ما يزيد من درجة إرباك أنقرة جرّاء قرارها هو ترافقه مع تزايد حاجتها للدعم الإسرائيلي في مجالات الطاقة، لاسيما الحفر والتنقيب عن الغاز، في ظل الحصار الذي تفرضه دول حوض المتوسط على تركيا. ويأتي كل ذلك في ظل أوضاع اقتصادية متردية ولجوئها للاقتراض من البنك الدولي.
مواقف في تل أبيب والأصداء في واشنطن
دفعت نوبات الغضب والتصريحات الإعلامية لأردوغان ودفاعه عن حركة حماس لردات فعل إسرائيلية غاضبة، لولا أن الرابط الاقتصادي بين البلدين حال دون تدهور العلاقات بشكل أسرع. إلّا أن قرار أنقرة الأخير قد يعيد التوتر للعلاقات ويدفع تل أبيب للاستعانة بأدوار واشنطن الرادعة للانزياح التركي نحو المقاطعة شبه الكاملة للعلاقات معها.
إزاء القرار التركي الذي وضع علاقة البلدين على حافّة الهاوية، صرّح وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس بإمكانية تطبيق قيود تجارية على البضائع الواردة من تركيا بعد أن كلّف الدائرة الاقتصادية بالوزارة بإعداد قائمة بالمنتجات الإسرائيلية لوقف تصديرها في المقابل، ذلك أن تركيا، بحسب كاتس، خرقت الاتفاقيات التجارية بشكل أحادي. وقد ينعكس رد الفعل الإسرائيلي على مجمل الشراكات الأخرى، كقطاعات التسليح والحفر والتنقيب عن الغاز. فيما قال وزير الاقتصاد الإسرائيلي نير بركات إن «تركيا أثبتت أنه لا يمكن الوثوق بها، وأنها تعمل مع حماس وقطر وإيران والإخوان المسلمين ضد إسرائيل». ولعل رد فعل فريق بنيامين نتانياهو الحكومي يعكس أبعاداً تتجاوز ما هو اقتصادي إلى ما هو أمنيّ وسياسي. إذ إن إعلان فرض القيود على الصادرات، يتزامن مع استعادة العلاقات بين أنقرة و«حماس» لعافيتها واتخاذها أشكالاً أكثر وضوحاً، وهي مسألة تريح خصوم إسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة، لاسيما إيران.
بيد أن رد الفعل تجاوز تل أبيب إلى واشنطن، إذ قال أعضاء في مجلس الشيوخ إن الولايات المتحدة يجب أن تفكّر في اتخاذ إجراءات انتقامية، بما في ذلك عقوبات محتملة، ضد تركيا رداً على قرارها هذا الأسبوع بفرض قيود تجارية على إسرائيل، فيما طالب أعضاء آخرون بجلسة استماع بشأن هذه القضية. قد تساهم حالة استنفار أصدقاء إسرائيل في واشنطن بإحراج الرئيس التركي خلال زيارته المزمع إجراؤها في مايو/أيار المقبل ووضعه في موقف أقل راحة أمام نظيره الأميركي.