تركيا واستراتيجية إجهاض حلم «سوريا الديمقراطية المصغرة»!
طارق حمو
لخصّ هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي، مدى وهول عداء بلاده للإدارة الذاتية في إقليم شمال وشرق سوريا، بعبارة «سندمر ما فوق وما تحت الأرض»، وذلك في تمهيد «دبلوماسي» للهجمات الجوية السجادية المركزة (أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/ كانون الأول 2023، ويناير/كانون الثاني 2024)، والتي أستهدفت تدمير البنية التحتية في الإقليم، وتخريب مصادر المياه والطاقة والمشافي والمنشآت وإخراجها من الخدمة، وتحويل حياة المواطنين إلى جحيم وفوضى، وبالتالي دفعهم للنزوح والهجرة دفعاً. وقبل هذه الاستهدافات، وقعت مئات الهجمات والعمليات العسكرية التركية (المباشرة، أو تلك التي جرت بالوكالة)، والتي طالت مظاهر وجود وسلطة الإدارة الذاتية، وأعملت التخريب والتدمير والتهجير والإحتلال الاستيطاني، وكل ذلك بالإستناد إلى القوة الغاشمة للجيش التركي، وبطش وإرهاب أدواته في ميليشيات المعارضة المسلحة.
التصورات التركية تجاه الحالة السورية، منذ بدايات الاحتجاجات في ربيع عام 2011، ذهبت كلها في ضرورة وجود نظام مركزي متماسك، لا يقبل بمختلف أشكال الإدارات الذاتية وتمظهرات التعددية الأثنية. وبدت أنقرة مصرة على منع أي تغيير في سوريا يوطد خلاف ما تراه هي من «ثوابت» لديها. وتدخلت عسكرياً، وبشكل مباشر، واحتلت مناطق وأسست ميليشيات مسلحة، لفرض رؤيتها، منتهكة سيادة الدولة السورية، ومصادرة بذلك إرادة السوريين الذين خرجوا للشوارع والساحات للمطالبة بالحرية والديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات.
منذ بدء الأزمة في سوريا، أرادت تركيا أن تكون حاضرة ومؤثرة في كل ما يمكن أن يحدث من تطورات ومتغيرات في المشهد السوري. وكانت علاقات أنقرة مع النظام السوري قد تحسنت بعد عقود من التوتر والقطيعة، فتم توقيع اتفاقية أمنية عام 1998، سميت باتفاقية أضنة، جاءت كل بنودها لصالح الدولة التركية. وتوسعت مديات «الانفراجة» في العلاقات مع مرور الوقت، حيث ساندت تركيا النظام السوري أثناء حرب لبنان عام 2006، كما دعمت إنشاء «سد السلام» على نهر العاصي. كما وحدث انفتاح في العلاقات وخاصة في الشق الاقتصادي، حينما أغرقت البضائع التركية الأسواق السورية وقضت على الصناعات الوطنية الخفيفة والمتوسطة الناشئة، وبالتالي ساهمت في إغلاق المشاغل والمصانع المحلية وزيادة نسبة البطالة. وفي عام 2009، توّج التعاون بين الجانبين بتأسيس المجلس الاستراتيجي السوري ـ التركي، وذلك كما قيل لتحقيق التكامل الاقتصادي، لكن في الواقع لم يحدث أي «تكامل اقتصادي»، بل حصلت هيمنة اقتصادية تركية، سعت أنقرة لتحويلها إلى هيمنة سياسية، وتدخل واضح في كل الملفات الداخلية السورية.
وعند انطلاقة الاحتجاجات الشعبية في ربيع 2011، وتصاعد قمع قوات الأمن والجيش السوري للمدنيين المتظاهرين، وضعت الحكومة التركية استراتيجية للتعامل مع التطورات، ضمت أولويات لديها، ومن أهمها: أولاً: منع قيام النظام في دمشق باصلاحات يعترف فيها بالهوية والحقوق الكردية بشكل دستوري وقانوني، أو قبوله بأي صيغة من صيغ الإدارة الذاتية في المناطق ذات الغالبية الكردية. وثانياً: دفع النظام إلى الموافقة على إشراك جماعة الإخوان المسلمين السورية في الحكم، وقبول نوع من «توزيع السلطة» معها. وشهدت الفترة الزمنية ما بين بداية ربيع 2011 ونهاية صيف 2011 زيارات عديدة لوزير الخارجية التركي آنذاك أحمد داود أوغلو إلى دمشق، هدفت كلها إلى تحقيق نوع من «التسوية» بعد تطويق الأزمة وفق التصورات التركية، وذلك عبر دفع النظام السوري إلى إشراك جماعة الإخوان المسلمين في الحكومة، ومنحها حقائب وزارية وصلاحيات، بالاضافة إلى رفض الإصلاحات التي تذهب بالبلاد إلى نظام لامركزي، والتعهد بعدم تغيير شكل وبنية الدولة في وضع دستور يقبل بهوية وحقوق المكون الكردي السوري. لكن رفض النظام في دمشق للمقترحات التركية، واصراره على الحل الأمني/ العسكري في مواجهة الاحتجاجات، وبدء مظاهر التسليح وحدوث إنشقاقات عن الجيش النظامي، وخروج الأمور عن السيطرة، دفع تركيا إلى الوصول لحالة من اليأس في تفاعل النظام السوري معها، فقررت قطع علاقاتها مع النظام وسحب طاقمها الدبلوماسي من البلاد، وأغلقت سفارتها في دمشق في ربيع عام 2012.
وبدا الرهان التركي يتركز ويتمركز على المعارضة السورية، والتي أرد طاقم حزب العدالة والتنمية أن تكون مرهونة بيد جماعة الإخوان المسلمين السورية، فتم تأسيس «المجلس الوطني السوري» في اسطنبول في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، فيما عكفت المخابرات التركية على تشكيل وهندسة الميليشيات المسلحة المعارضة ضمن ما يسمى ب «الجيش السوري الحر»، واضعة هدفاً رئيسياً وهو دفع هذه الميليشيات إلى مهاجمة المناطق الكردية واحتلالها، وقمع كل تمظهرات الهوية الكردية ومساعي بناء الإدارة الذاتية التي ظهرت نواتها في صيف 2012 في كل من مناطق عفرين وكوباني والجزيرة ذات الغالبية الكردية، بعد خروج قوات النظام السوري وسحبه لمظاهر سيطرته من تلك المناطق. وبعد فشل هذه الميليشيات في احتلال المناطق الكردية، واصطدامها مع (وحدات حماية الشعب)، وهي تشكيل مسلح ضم أبناء مكونات مناطق شمال وشرق سوريا لمنع الغرباء والإرهابيين من احتلال هذه المناطق، ولحماية الأمن والسلم الأهلي والمنشآت والمرافق العامة فيها، قررت الدولة التركية الاستعانة بالجهاديين من مختلف الفصائل مثل «أحرار الشام» و«جبهة النصرة» و«داعش»، ودفعها إلى شن حملات كبيرة على المناطق الكردية، لاحتلالها وتخريب البنى الإدارية فيها، وتقتيل وتشريد أهلها. وفي تلك الفترة حدثت عشرات الهجمات التي قام بها الجهاديون على المناطق الكردية، منها التي استخدمت الأراضي التركية في العبور والالتفاف، بإشراف ومتابعة من الاستخبارات التركية. وشكل الهجوم الكبيرة لتنظيم «داعش» على كوباني في سبتمبر/ أيلول 2014 ذروة عمليات الجهاديين ضد الكرد. لكن ما حصل في كوباني كان مقاومة كبيرة مؤثرة، لاقت صدى وتعاطفاً دولياً واسعاً، مما دفع العالم إلى التدخل وتقديم الدعم العسكري ومساندة المقاتلات والمقاتلين الكرد في كوباني، والذين نجحوا، بعد تضحيات كبيرة ومقاومة شرسة، في دفع «داعش» للتراجع ودحره عن المدينة، ومن ثم ملاحقة عناصره في معاقله. وتواصل التقديم مع مرور الأيام والأشهر، وتم تحرير مدينة الرقة، العاصمة المزعومة للتنظيم في يونيو/ حزيران 2017، وأخيراً الإجهاز على التنظيم في آخر معاقله في “الباغوز” في فبراير/ شباط 2019، على أيدي «قوات سوريا الديمقراطية»، وهي تشكيل واسع ضم كل الفصائل المقاومة المحلية وعلى رأسها (وحدات حماية الشعب)، تم تأسيسه عام 2015، عقب الانتصار على «داعش» في كوباني.
وجدت الدولة التركية نفسها في مأزق عقب فشل سياساتها في سوريا، وخروج الأمورعن سيطرتها، مع تشكل معالم الإدارة الذاتية وضمها مناطق جديدة محررة من «داعش»، وفشل رهان أنقرة على ميليشيات المعارضة والجهاديين، الذين قاتلوا بالوكالة عنها، والهزيمة التي ألحقت بتنظيم «داعش» في كوباني في ربيع 2015، هذا بالاضافة إلى تطورات أخرى مهمة مثل بقاء النظام السوري في الحكم، والتدخل العسكري الروسي في سبتمبر/ أيلول 2015، وتزايد الحضور الإيراني، الذي شكل رديفاً قوياً لقوات النظام في محاربة المسلحين المدعومين من تركيا، واستعادة السيطرة على مدينة حلب بداية عام 2016. وقبل ذلك، لا يمكن اغفال التطورات الداخلية في تركيا، مع خسارة الحزب الحاكم للأغلبية في الانتخابات البرلمانية في يونيو/ حزيران 2015، ولجوءه إلى إلغاء نتائجها، وإجراء انتخابات أخرى في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، في جو من إرهاب الدولة المنظم وتفجير المظاهرات وقتل المدنيين الكرد، بالاضافة إلى التزوير والبلطجة، ومع ذلك خرج الحزب منها نصف منتصر، ليتحالف مع حزب الحركة القومية الفاشي، الذي أشترط عليه التدخل العسكري المباشرواحتلال الجيش التركي لمناطق واسعة من سوريا، وهنا بدأت معالم مرحلة جديدة بالتشكل، وهي مرحلة الاحتلال العسكري التركي المباشر للأراضي السورية. وكنتيجة للسياسة الجديدة والتحالف مع حزب الحركة القومية الفاشي، أنطلقت حملات الاحتلال العسكري الثلاثة: الحملة الأولى (أغسطس/ آب 2016 ــ مارس/ آذار 2017): حملت اسم «درع الفرات»، وأسفرت عن احتلال مناطق جرابلس وإعزاز والباب في ريف حلب الشمالي. الحملة الثانية (يناير/ كانون الثاني 2018 ــ مارس/ آذار 2018): حملت اسم «غصن الزيتون»، وأسفرت عن احتلال منطقة عفرين. الحملة الثالثة (أكتوبر/ تشرين الأول 2019 ــ نوفمبر/ تشرين الثاني 2019): حملت اسم «نبع السلام»، وأسفرت عن احتلال منطقتي رأس العين/ سري كانيه وتل أبيض/ كري سبي.
ومارست تركيا في المناطق التي احتلتها سياسة تطهير عرقي وتغيير ديموغرافي بحق المكون الكردي في عفرين ورأس العين خاصة، بالاضافة إلى استيطان ممنهج لسوريين استجلبوا من الداخل، وأفراد عائلات المسلحين المرتزقة المحليين والأجانب، وكل ذلك بهدف تهجير وإزالة الكرد من تلك المناطق وتغيير معالمها السكانية. واعتبرت هذه السياسات جرائم بحق الإنسانية، انتقدتها جهات دولية في تقارير رصينة موثقة (منها مؤخراً: توصيات البرلمان الأوروبي وتقرير منظمة هيومان رايتس ووتش في فبراير/ شباط 2014، وتقرير لجنة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن سوريا في مارس/ آذار 2024 ). وفضلاً عن منهجية تهجير الكرد وإحداث التغيير الديموغرافي، وإزالة الأسماء والرموز والمظاهر الكردية، فهناك منهجية أخرى، تعمد إليها تركيا وهي التتريك وربط المناطق المحتلة إدارياً بالمناطق التركية المحاذية. ومن ذلك قرار الحكومة التركية في أغسطس/ آب 2023 توحيد إدارة المناطق الخاضعة لسيطرة قواتها وميليشيات «الجيش الوطني السوري» وهي مناطق تضم 13 مجلساً محلياً، عبر تعيين حاكم واحد يتولى سلطات إدارة تلك المناطق بدلاً من 7 ولاة كانت قد عينتهم للتنسيق هناك. وكانت تركيا، وفي إطار سياسة التتريك الممنهج، قد عمدت إلى تغيير السجل المدني للسكان الأصليين في المناطق المحتلة، وسحبت البطاقة الشخصية والعائلية السورية من الأهالي القاطنين، واستبدلت بها أخرى تركية. كما تم تغيير أسماء غالبية الشوارع والأحياء في تلك المناطق، إلى أخرى تركية، وفرض التعامل باللغة والليرة التركيتين، بشكل خاص في مدن الباب وعفرين وجرابلس وأعزاز وأخترين ومارع ورأس العين وتل أبيض. كما وأصبحت خدمات الصحة والتعليم والبريد والصرافة والكهرباء والمياه والهاتف، وغيرها من مستلزمات الحياة اليومية تدار بواسطة موظفين وإداريين أتراك، وتم استبدال مناهج الدراسة السورية بمناهج تركية، كما أفتتحت فروع لبعض الجامعات التركية مثل جامعة «حران» الموجودة في مدينة أورفة. كذلك رفع العلم التركي وصور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فوق المدارس والمستشفيات وجميع المراكز والمؤسسات والساحات العامة (تقرير: تركيا تخطط لتوحيد إدارة مناطق سيطرتها شمال سوريا بتعيين حاكم واحد، صحيفة الشرق الأوسط السعودية، عدد 22 أغسطس/آب 2023).
المخطط التركي، عبر السنوات الماضية وراهناً، يقوم على ترسيخ وشرعنة مظاهر الاحتلال، وتثبيت إجراءات التغيير الديموغرافي، بالاعتماد على الاستيطان والإحلال، لإزالة المواطنين الكرد وإخراجهم من الحيز الجغرافي تماماً، ومصادرة دورهم ومزارعهم ومنحها للغرباء القادمين. كما يقوم المخطط، في أحد أوجهه، على مواصلة نقل اللاجئين السوريين من تركيا إلى بقية المناطق (سواء كانت ذات غالبية كردية أو عربية)، بغية توطينهم هناك في مستوطنات وقرى نموذجية، تقام بأموال تركية وأخرى مرسلة من جماعات الإسلام السياسي ومنظمات سلفية في بعض دول الخليج العربي، وباشراف ومتابعة من المخابرات التركية والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين. كذلك توطد أنقرة سياسة التتريك الممنج، بهدف خلق جيل جديد يكون ولاؤه لتركيا فقط، وكذلك توسيع الاعتماد على العنصر التركماني، الذي بات أفراد منه يتصدرون قيادة أطر المعارضة في تشكيلات «الإئتلاف» و«الحكومة المؤقتة»، بالاضافة إلى قيادة المجموعات المسلحة الأكثر تنظيمياً وتسليحاً ضمن «الجيش الوطني السوري». هذا بالاضافة إلى عشرات السياسات والإجراءات والتمظهرات الأخرى التي تذهب كلها في خلق وتشكيل واقع جديد على الأرض، يخدم ويسهل في النهاية سياسة تركيا في قضم وإلحاق المناطق المحتلة بالدولة التركية، ويكون الرهان في ذلك على «السكان المحليين» الجدد مستقبلاً في التصويت في «استفتاء شعبي» يقام لصالح الانضمام إلى تركيا.
وهكذا، في المحصلة العامة للسياسة التركية المتبعة تجاه سوريا منذ عام 2011، تكون حكومة تحالف حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية الفاشي، قد نجحت في تحويل حلم السوريين بالحرية والعدالة والديمقراطية إلى كابوس طويل قاتم، واحبطت مساعيهم في تحويل بلدهم إلى دولة حريات ومؤسسات، عبر سلسلة من السياسيات العدائية، بدأتها بالتعاون والتشاور مع النظام في دمشق لعقد صفقة معه لا علاقة لها بمطالب السوريين، بل همها توطيد مصالح أنقرة ومنحها حضوراً وامتيازات، ومن ثم مرت بتسليح المعارضة وتغليب اللون الطائفي المتعصب فيها، واستقطاب وتدريب الجهاديين ودفعهم لمحاربة الإدارة الذاتية والشعب الكردي، وانتهت بالاحتلال العسكري المباشر وارتكاب جرائم التطهير العرقي وفظائع التهجير والاستيطان والتتريك. وراهناً، تأتي عمليات تدمير البنية التحتية وتخريب المدن وحصار السكان في مدن وقرى إقليم شمال وشرق سوريا، لتمنع وجود منطقة آمنة ومستقرة في الوطن السوري، وتحول دون ظهور أي بارقة أمل لدى السوريين بالعيش الآمن الحر فيها دون مساءلة أوملاحقة بسبب قوميتهم أو دينهم أو مذهبهم أو توجههم الفكري والسياسي، كما هو الحال في مناطق سيطرة الإحتلال التركي. الآن وراهناً، وبعد كل هذه السنوات، تمضي تركيا في تخريب الوطن السوري وتدميره، بعد أن احتلت أجزاء من هذا الوطن تعمل فيه التغيير والتتريك، وبعد أن سلمت أجزاء أخرى للجهاديين (إمارة أدلب الظلامية)، وبعد أن نجحت، إلى حدا بعيد، في تقديم السوري المعارض الثائر، بصورة قاتمة ومخجلة: أما سياسي يصر على أن «تركيا أولاً »، أو « مسلحاُ مأجوراً مرتزقاً» يقاتل لصالح تحقيق مشاريع أنقرة الامبراطورية المتخيلة في جبهات ليبيا وأذربيجان!.