الانتخابات البلدية في تركيا: هل بدأت نهاية إردوغان؟
د.محمد نور الدين
دخلت تركيا مرحلة جديدة من تاريخها السياسي بعد “الهزيمة التاريخية” التي تلقاها حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب إردوغان في الانتخابات البلدية التي جرت في 31 آذار2024 والتي سيبنى على نتائجها كامل أجندة السلطة الحاكمة كما أحزاب المعارضة على مدى السنوات الأربع المقبلة.
عادة ما تكون الاتجاهات الأساسية في الانتخابات البلدية (المحلية) في أي دولة، تتمحور حول قضايا إنمائية وخدماتية ومعيشية نظرا للصلة الوثيقة بين الناخب والمرشح. لكن الانتخابات البلدية تكتسب أيضاً ملامح سياسية قوية عندما يكون الصراع الداخلي عميقا وعاموديا بين التيارات السياسية والاجتماعية. ولا تستثنى تركيا من هذه القاعدة مع فارق أن العامل السياسي يمتاز بجرعة أكبر بكثير.
جاءت الانتخابات التي تقام مرة كل خمس سنوات بعد عشرة أشهر من آخر انتخابات نيابية ورئاسية. وهي الانتخابات التي فاز بها رجب طيب إردوغان برئاسة الجمهورية للمرة الثالثة وإن بنسبة ضئيلة قاربت الأربعين بالمائة. كذلك فاز “تحالف الجمهور” الذي يتشكل من أحزاب العدالة والتنمية الحاكم والحركة القومية ومعه أحزاب صغيرة منها “حزب الرفاه من جديد” الذي يتزعمه فاتح ابن الزعيم التاريخي للحركة الاسلامية نجم الدين إربكان، في الانتخابات البرلمانية بالغالبية المطلقة لكنه لم يصل تعداد نوابه إلى الثلاثة أخماس او الثلثين وهما نسبتان ضروريتان لتعديل الدستور سواء في البرلمان او عبر استفتاء شعبي. في المقابل كانت المعارضة تخسر معركة الرئاسة والنيابة.
لذلك أتت الانتخابات البلدية الآن أول امتحان لأحزاب المعارضة في مواجهة تحالف العدالة والتنمية والحركة القومية بعدما انسحب “الرفاه من جديد” منه.
المفارقة الكبرى أن المعارضة دخلت الانتخابات البلدية مفككة من كل الزوايا وخاض كل حزب الانتخابات بلوائح مستقلة عن أي تحالف مهما كان صغيرا، وهو الأمر الذي لم يكن يعطي المعارضة الكثير من الأمل في أن تحقق نتائج ايجابية. بل إن البعض تحدث عن إمكانية أن يخسر حزب الشعب الجمهوري المعارض “قلعته التاريخية” وهي رئاسة بلدية إزمير.
بطبيعة الحال لم تكن الانتخابات البلدية، كماالانتخابات النيابية والرئاسية، متكافئة. فالسلطة وضعت ثقلها إلى جانب مرشحيها في كل المناطق. كذلك فإن الحكومة سخّرت كل مقدرات الدولة من أجل دعم مرشحيها ولا سيما في مدينة اسطنبول حيث تناوب عدد كبير من الوزراء ومنهم وزير الخارجية هاكان فيدان للحث على التصويت لمرشح العدالة والتنمية في اسطنبول مراد كوروم. أيضا فإن توزيع المساعدات الاجتماعية وحتى المساعدات النقدية كان شائعا.
اما التدخل الأكبر فهو أن رئيس الجمهورية نفسه كان هو المتحدث الرئيسي في كل مهرجانات السلطة في معظم المدن. كان مرشحو السلطة (العدالة والتنمية – الحركة القومية) مجرد أقنعة لوجه واحد هو رجب طيب إردوغان.
دخلت السلطة الانتخابات بتحالف هو الوحيد الذي شهدته الانتخابات وكان بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية. وكان بذلك يعكس غالبية كتلة “التيار الديني – القومي” في تركيا، وهو التحالف الذي اتاح لإردوغان أن يتجاوز العديد من الصعوبات في محطات انتخابية مهمة ولولاه لما كان لإردوغان ـن يستمر في السلطة منذ العام 2014 بل قبل ذلك وخصوصا في العام 2007 عندما وفّر حزب الحركة القومية نصاب الثلثين في البرلمان ليتاح انتخاب عبدالله غول رئيسا.
بالمقارنة مع انتخابات أيار 2023 يمكن القول إن الانتخابات البلدية كانت مناسبة لكي تستعيد المعارضة بعض معنوياتها التي فقدتها في الربيع الماضي. وكانت الانتخابات فرصة ايضا للسلطة لكي ترسخ انتصارها الرئاسي والنيابي بانتصار في البلديات.
على الرغم من أهمية الانتخابات على مساحة تركيا فإن الأنظار كانت تتجه إلى مدينتين رئيسيتين هما أنقرة واسطنبول، وهما المدينتان اللتان كانتا بيد حزب العدالة والتنمية منذ العام 1994 بل من اسطنبول كانت انطلاقة إردوغان إلى الشهرة والسياسة والزعامة. وقد خسرت السلطة هاتين المدينتين في انتخابات العام 2019.وكانت حينها مفاجأة كبرى.
بالطبع كان إحساس إردوغان بالهزيمة مرّا فهو الذي كان يقول إن من يحكم اسطنبول يحكم تركيا. لذلك لم يهضم إردوغان خسارة مرشحه وكان بن علي يلديريم وكان أبرز شخصية حينها بعد إردوغان فرفض نتائج الفرز وطلب من اللجنة العليا للانتخابات اعادة الانتخابات وكان له ما أراد فأعيدت الانتخابات في اسطنبول فقط بعد شهرين في 24 حزيران 2019 وكانت النتيجة مدوية حيث رفع مرشح حزب الشعب الجمهوري والمعارضة أكرم إمام أوغلو الفارق من 11 ألفا في المرة الأولى إلى 800 ألف في دورة الإعادة. كذلك فاز منصور ياواش برئاسة بلدية أنقرة منتزعا إياها من العدالة والتنمية.
ما كان يشجع إردوغان أكثر على التفاؤل بفوز مرشحه مراد كوروم وهو وزير البيئة السابق، أن المعارضة دخلت الانتخابات مفككة واستطلاعات الرأي كانت تعطي نتائج متقاربة بين المرشحين أكرم إمام اوغلو ومراد كوروم.
أهمية اسطنبول لم تكن بالنسبة لإردوغان تحمل بعدا “عاطفيا” فقط بل هي كما يقال”مربط الفرس” بالنسبة للصراع السياسي في تركيا. فإمام اوغلو كان سيكون منافسا قويا لإردوغان في انتخابات الرئاسة التي جرت في 14 أيارومن ثم في 28 أيار 2023.وكانت الاستطلاعات تعطي إمام أوغلو حظا في الفوز. لكن إردوغان مارس ضغوطا على القضاء حيث فتحت اللجنة العليا في خريف 2022 تحقيقا قضائيا ضد إمام اوغلو بتهمة “تحقير” اللجنة عام … 2019. وعلى هذا اختار إمام اوغلو عدم الترشح وترك الأمر لزعيم الحزب كمال كليجدارأوغلو. وكانت النتيجة خسارة الأخير.
لذلك فإن معركة اسطنبول كانت في غاية الأهمية لجهة أنه في حال فوز إمام أوغلو فسوف يكون المرشح الأوفر حظا والأقوى من الآن لمواجهة مرشح العدالة والتنمية للرئاسة عام 2028 وستكون حظوظ فوزه كبيرة جدا. ولكن في حال خسارته سيكون السيناريو أن إردوغان سيتشجع ويجد في نفسه القوة الكافية مبدئيا لتعديل الدستور إما في البرلمان او عبر استفتاء شعبي من أجل السماح للرئيس الحالي (أي هو نفسه) بالترشح مرة ثالثة (عمليا هي الرابعة منذ العام 2014). بمعنى أن انتخابات اسطنبول ستكون في أساسها “معركة رئاسة الجمهورية” للعام 2028.
انتهت الانتخابات في هذه النقطة بفوز كبير جدا لإمام اوغلو بنسبة تقارب الـ 52 في المئة مقابل اقل من 40 لمراد كوروم وبفارق قارب المليون صوت. وبذلك يكون إمام أوغلو قد زاد من فارق نجاحه عام 2019 ومنع إردوغان من “استعادة” المدينة.
أما في العاصمة أنقرة فكانت الهزيمة على إردوغان أكبر لجهة الفارق حيث اكتسح منصور يافاش منافسه تورغوت ألتين أوك بالضعف حيث فاز بنسبة 60 في المئة مقابل 31 في المئة وبمليوني صوت مقابل مليون صوت. وإذا كان الفوز متوقعا لكن الفارق لم يكن متوقعا على هذا النحو.
وما كان يراهن عليه إردوغان هو ـن “يسرق” مدينة إزمير من يد حزب الشعب الجمهوري ولا سيما بعد معركة كبيرها خاضها مرشح العدالة والتنمية حمزة داغ. لكن جميل توغاي مرشح الشعب الجمهوري لم يكتف بالفوز بل كان الفارق كبيرا وصل إلى 11 نقطة بنسبة 49 مقابل 37 في المئة وبما يقارب 300 ألف صوت.
وتميز الصراع بين حزبي العدالة والتنمية (ومعه الحركة القومية) والشعب الجمهوري بأن الأخير انتزع للمرة الأولى إحدى اهم المدن الكبرى والصناعية وهي بورصة من يد خصومه، منذ العام 1977 وبفارق يقارب الـ 8 نقاط.
كذلك فاز مرشحو حزب الشعب الجمهوري ببلديات كبرى مثل أضنة وأنطاليا ومرسين وإسكي شهر وبما مجموعه 14 بلدية كبرى من أصل 30 وذهبت 11 منها للعدالة والتنمية وثلاثة لحزب الديموقراطية والمساواة للشعوب (الكردي) وهي ديار بكر وماردين وفان وواحدة لحزب الرفاه من جديد وهي شانلي أورفه. أما البلديات الكبيرة غير المصنفة “كبرى” فقد فاز الشعب الجمهوري بـ 20 بلدية من أصل 51 والعدالة والتنمية بـ 13 بلدية والحركة القومية بـ 8 بلديات وحزب الديموقراطية والمساواة للشعوب بـ 7 بلديات والرفاه من جديد بلدية واحدة هي يوزغات والحزب الجيد واحدة هي نيف شهر وحزب الاتحاد الكبير واحدة هي سيواس.
ما هو ملفت في هذه الانتخابات هو ـن حزب الشعب الجمهوري احتل للمرة الأولى منذ العام 1977 المرتبة الأولى متقدما على حزب العدالة والتنمية بنسبة 37.74 مقابل 35.49 في المئة،أي 17.345 مليونا مقابل 16.313 مليونا.وهذا سيعطي الحزب دفعة هائلة لتزخيم حركته السياسية الداخلية.
لا شك ـن حزب الرفاه من جديد الذي يترأسه فاتح إربكان كان مفاجأة الانتخابات بنيله نسبة بلغت 6.19 في المئة ليكون بذلك الحزب الثالث في الترتيب ولينتزع من حزب العدالة والتنمية إحدى البلديات الكبرى المهمة وهي أورفا كما فاز برئاسة بلدية يوزغات. ومع ـن مسيرة الحزب السياسية قصيرة لكنه برز في الانتخابات الرئاسية والنيابية الأخيرتين بالتحالف مع حزب العدالة والتنمية وكان احد أسباب فوز إردوغان بالرئاسة وحصل على خمسة نواب من بينهم ثلاثة في اسطنبول ومنهم فاتح إربكان ورابع في كوجاعلي وخامس في كونيا.
وفي الواقع أن إردوغان عمل جاهدا على التحالف مع إربكان في الانتخابات البلدية غير أن إربكان اشترط عليه حصة أكبر من البلديات كما تغيير موقف السلطة من التجارة مع اسرائيل احتجاجا على مجازر اسرائيل في غزة. وبذلك ربما يكون اربكان استقطب الأصوات الاسلامية المعترضة على موقف إردوغان من غزة وبات يشكل هو وليس حزب السعادة مركز استقطاب الفئات المتدينة المختلفة مع مواقف حزب العدالة والتنمية.
ويمكن القول إن مجموع أصوات التيار الديني – القومي الذي يمثله حزب العدالة والتنمية قد نال بحدود 41 في المئة فيما نالت الأحزاب المعارضة 59 في المئة من الأصوات.
ويفترض هذا التغيير :
1- أن تعود الروح إلى حركة المعارضة من أجل أن تستجمع من جديد صفوفها في انتظار “المعركة الكبرى” التي ستكون عام 2028 وربما قبل ذلك إذا ضغطت الظروف لإجراء انتخابات جديدة مبكرة نيابية ورئاسية.
2- ربما تحول هذه النتيجة الكبيرة دون مضي إردوغان بتعديل الدستور للترشح من جديد.
3- ستفرض هذه النتيجة تغييرات كبيرة في بنية حزب العدالة والتنمية لمنح زخم جديد لخط الحزب إذا كان ذلك ممكنا بعدما اختزل إردوغان الحزب بشخصه وأقصى كل من يراه منافسا محتملا له داخل الحزب.
4- إن واحدا من أسباب تراجع قوة حزب العدالة والتنمية هو تردي الوضع الاقتصادي وانهيار سعر صرف الليرة التي فقدت من عشرة ـشهر أكثر من 60 في المئة من قيمتها ما دفع جانبا مهما من الجمهور، ولا سيما المتقاعدين وهم الأكثر تضررا، للتصويت ضد سياسات اردوغان التفقيرية والريعية. وستفترض هذه النتيجة تغييرا حتميا في الفريق الذي يدير الملف الاقتصادي وفي رأسه وزير المالية محمد شيمشيك أملا في تحسين الوضع الاقتصادي.
5- إن جزءا من الأصوات التي خسرها إردغوان جاءت من فئات متدينة معترضة على موقف إردوغان المتفرج من المجازر الاسرائيلية في غزة. وهذا يفترض ان يغير إردوغان موقفه من الحرب على غزة ومن مجازر اسرائيل هناك.علما ان هذا قد يسبب لإردوغان متاعب في غنى عنها من جانب الولايات المتحدة.
في جميع الأحوال فإن الخريطة السياسية في تركيا ستكون أمام تعديل جدي وحراك مختلف يفترض بالمعارضة او المعارضات العمل منذ الآن لتضييق الخناق على السلطة والعمل على اسقاطها في اول استحقاق انتخابي. كما يفرض على المعارضات العمل على عقد اجتماعي جديد يكفل العدالة والمساواة للجميع وفي رأسها حل المشكلة الكردية بشكل عادل وإخراج البلاد من مغامرات السلطة الحالية في الخارج ولا سيما في شمال أفريقيا وسوريا والعراق ومن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.