محمد سيد رصاص
لم يستطع انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 الذي قام به العسكر العلمانيون الأتراك ضد حكومة رئيس الوزراء الإسلامي نجم الدين أرباكان من وقف المد الإسلامي في الحياة السياسية التركية، رغم الإجراءات اللاحقة من قبيل حظر حزب الرفاه ومنع زعيمه نجم الدين أربكان من العمل السياسي. فتلاميذ أربكان، من أمثال رجب طيب أردوغان وعبدالله غول، عندما أنشأوا حزب العدالة والتنمية في الشهر الثامن من عام 2001 وشاركوا في الانتخابات البرلمانية عام 2002 وفازوا بأغلبية المقاعد، كانوا في تدشين لحالة مد سياسي إسلامي تركي جعلت هذا الحزب يفوز بالغالبية حتى عام 2023 في كل الانتخابات البرلمانية والمحلية (أو يحتل المركز الأول بين الأحزاب المتنافسة) ويفوز مرشحه أردوغان بعدة انتخابات رئاسية. كما كانوا يحصلون على الأغلبية في كل استفتاء يطرحوه.
في 31 مارس/آذار 2024، انتهى كل ذلك مع حصول حزب الشعب الجمهوري على المركز الأول في الانتخابات المحلية التي شملت الولايات الـ81، بما فيها بلديات مدن كبرى (35) و21 ألف مجلس بلدي و1282 مجلس إقليمي ولائي. جاء حزب العدالة والتنمية ثانياً بحصوله على 35.49 في المئة من الأصوات، بينما نال حزب الشعب الجمهوري 37.74 في المئة. كما خسر أردوغان سبعة في المئة من أصواته التي حصل عليها في 2019 مقابل ظفر حزب الشعب الجمهوري بثمانية في المئة أصوات جديدة. واحتفظ الحزب المعارض ببليدات أنقرة واسطنبول وأزمير، وكسب بلديات جديدة كانت لحزب أردوغان مثل بورصة وكوتاهيا ومانيسا وأديامان وأماسيا ودنيزيلي، في حين نال أربعة عشر من بلديات المدن الكبرى الثلاثون وخمس وثلاثون من بلديات عاصمات الولايات الواحدة والثمانون
في الجغرافيا التركية، لم يعد لحزب أردوغان ولايات يسيطر عليها في البحر المتوسط سوى في هاتاي (لواء الاسكندرون)، ولا شيء لحزبه في بحري إيجة ومرمرة، ولا ولاية في منطقة تراقيا (القسم الأوروبي من تركيا)، فيما ظل مسيطراً على أغلب ولايات البحر الأسود ما عدا سينوب وزونغولداك وأرتفين. ومازال محتفظاً بنفوذه التقليدي في منطقة الأناضول في الرباعي ملاطية – قيصرية – أكساراي- قونية، وجنوب هذا الرباعي في مرعش وعنتاب وكيليس وشماله وشماله الشرقي في سيواس وإرضروم، مع غالبية في القسم الآسيوي من اسطنبول. يمكن لهذه المؤشرات أن تكون دالة على انحلال قوة سياسية، كما كان وضع حزب الشعب الجمهوري أمام الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس، منذ انتخابات 1950 ومن ثم في انتخابات برلماني 1954و1957،حيث كان صعود مندريس، الذي جمع الإسلاموية مع الليبرالية الاقتصادية وموالاة حلف الناتو، مؤشراً على انحلال قوة جزب أتاتورك. ولم ينفع انقلاب 1960، الذي قام به ضباط صغار علمانيون أتاتوركيون، حيث أعدموا مندريس على إثره، في الدفع بمد علماني أتاتوركي جديد كما كان الوضع بين عامي 1923-1950، رغم أن حزب الشعب الجمهوري ظل يتناوب المركز الأول في الانتخابات مع حزب العدالة بزعامة سليمان ديميريل في الستينيات والسبعينيات. وكانت آخر انتخابات فاز فيها بالمركز الأول تلك التي أتت ببرلمان 1977. فحكم العسكر الأتاتوركيون، من وراء الستارة الحزبية المدنية منذ عام 1963، كان لا يعبّر عن مد سياسي جديد للعلمانية الأتاتوركية بل عن قوة الدبابة المدعومة أميركياً في ظرف كانت تركيا جزءاً رئيسياً من استراتيجية حلف الناتو في مواجهة السوفيات زمن الحرب الباردة، وهو ما دفع واشنطن لغض النظر عن انقلابين عسكريين قام العسكر بهما في أنقرة عامي 1971 و1980 لمواجهة المد اليساري. وهنا يلاحظ أن انتهاء اعتماد واشنطن على العسكر التركي تزامن مع مرحلة ما بعد الانهيار السوفياتي وفقدان تركيا وظيفتها الأطلسية ضد موسكو. كما أن صعود الأردوغانية كان بالتوازي مع تفكير أميركي بدأ بعد هحمات 11 سبتمبر وتمثّل باستخدام تلامذة حسن البنا ضد أسامة بن لادن. كما أن صدام واشنطن مع أردوغان جاء مع تخليها عن الإسلاميين الأصوليين منذ 2013، وهو ما بدأ بسقوط حكمهم في القاهرة. ولم يحم أردوغان من السقوط سوى الاقتصاد القوي ثم التحالف مع بوتين منذ عام 2016.
ومنذ عام 2019، بدأت الأزمة الاقتصادية التركية التي حملت معها توقعات بأن تترجم مفاعيلها على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية العام الماضي ضد أردوغان وحزبه. ولكن لم يحصل هذا الأمر آنذاك على الأرجح بسبب القيادة الضعيفة للزعيم السابق لحزب الشعب الجمهوري كمال كيليجدار أوغلو. كان فقدان اسطنبول وأنقرة في الانتخابات المحلية عام 2019 مؤشراً على بداية سقوط ما للقوة الأردوغانية. ولكن كيليجدار أوغلو لم يكن مؤهلاً لاستكمال الضربة لأردوغان التي جرت ضده قبل أربع سنوات، عدا عن انقسام المعارضة كذلك. ولكن انتخاب زعيم جديد للحزب، هو أوزكار أوزيل، يوحي بأن الذي تحقق عام 2024 كان يمكن حصوله في 2023 في انتخابات الرئاسة والبرلمان.
ولكن رغم هذا كله، يجب عدم التسرع في الاستنتاج بأن الأتاتوركية العلمانية في مد سياسي جديد من خلال صعود حزب أتاتورك في انتخابات الأحد الماضي. فالإسلاميون ما زالوا أقوياء، بحوالى 42 في المئة من مجموع المقترعين، وفق المؤشرات، إذ نال حزب الرفاه الجديد، وهو حزب نجل أربكان، 6.19 في المئة. ومازال حليف الإسلاميين، أي حزب الحركة القومية ذي الاتجاه الطوراني، يحتفظ بشيء من قوته. كما أن الحزب الجديد، أي حزب مساواة الشعوب والديمقراطية، وهو وريث حزب الشعوب الديمقراطي، لم يطمئن بعد بأن الأتاتوركيين تخلوا عن شوفينيتهم القومية ضد الكرد. وهو حزب لا تدل نسبة أصواته في الانتخابات الأخيرة، أي 5.68 في المئة، على قوته. وتدل انتخابات مدن دياربكر وفان وباتمان وماردين وموس وسيرت وأغري وهاكاري وإجدير أن فوز هذا الحزب هناك سيجعله في أي انتخابات برلمانية مقبلة في المركز الثالث بين الأحزاب التركية، وسيكون صانع الملوك في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
كتكثيف، لن يكون ابن أربكان في مكان أبيه في انتخابات برلمان عام 1995ولا في مكان أردوغان وحزبه عام 2002. ولكن من المؤكد أن تركيا ستشهد هبوطاً في قوة الإسلاميين. ولن يكون الاقتصاد القوة الدافعة فيها فحسب، بل مشهد اجتماعي لا تستطيع من خلاله أن تُحكم تركيا من قاعدة اجتماعية أساساً أناضولية، ولو كان منها رجال أعمال، كما كان عيب الأتاتوركية الأساسي الاستناد الاجتماعي إلى نخبة هي أشبه بطائفة تضم عسكر وبيروقراطيين وأكاديميين ومثقفين ورجال أعمال تقتصر على الأحياء الغنية في القسم الأوروبي من اسطنبول وفي أنقرة وإزمير. وكما كانت فترة 1950-2002 فترة هبوط لقوة الأتاتوركية، فإن عام 2024 أعطى إشارات كافية على بدء غروب شمس الإسلاميين الأتراك. وفوز الأتاتوركيين بالمركز الأول لا يدل على أكثر من هذا الغروب، وليس على شروق جديد لشمس الأتاتوركية.