تركيا توقظ أطياف الماضي في العراق

شورش درويش

في مكان ما تشبه تركيا تمثال جانوس الذي يجسّد إله البوابات والممرات في الميثولوجيا الرومانيّة، حيث رجل برأسين ملتصقتين يلتفت الأول للأمام فيما الآخر ينظر للخلف. بهذا المعنى الرمزي، يمكن النظر إلى السياسة التركية على أنها ذات رأسين، أحدهما يرنو للمستقبل فيما الآخر يراقب الماضي، مع جسد مرهق بحمل هذين الرأسين. ولعل الاستغراق التركي في النوستالجيا وإعادة تصنيع الوعي الإمبراطوري والتوق للخروج على خريطة تركيا الراهنة، بات الاشتغال الأهم الذي طبع سياسة حكومة حزب العدالة والتنمية منذ عام 2016 فصاعداً.
وفق هذا المنظور، أغرقت تركيا سوريا بما أسمته «الأحزمة الأمنية» وبثقل تواجدها العسكري والاستخباراتي وبالاعتماد على جيش من المرتزقة السوريين وسواهم. وكل ذلك ضمن مسعى توسّعي سبق أن حدد ملامحه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ أعوام، حين أشار إلى قرنٍ فائت تجسدت فيها الخسارات الكبرى للدولة العثمانية في طرابلس الليبية وحلب والموصل.
سوى أن تموضع تركيا في العراق يختلف عمّا هو عليه في سوريا، لجهة طبيعة التغلغل العسكري غير المشفوع بوجود منطقة كاملة تخضع لسيطرتها الإدارية والسياسية والاقتصادية، إذ يمكن أن تكون صيغة الآنشلوس «الضم» الألماني إبان الحرب العالمية الثانية هي الأقرب لوصف تموضعها السوري، فيما تشير مشروعات مراكمة الجنود والقواعد العسكرية والاستخباراتية في كردستان العراق دون وجود منطقة أمنية أو «عازلة» أو حزام أمني، إلى شكل من أشكال السعي لتصبح حالة آنشلوس جديدة تلبّي التطلعات التركية في سلخ أجزاء من العراق واستعادة شيء من ولاية الموصل التي خسرتها بشكل نهائي عام 1925.
كانت مسألة استعادة الموصل تدور في اللحظات التأسيسية للجمهورية التركية (رغم إبرام معاهدة لوزان 1923 ثم الرضوخ لتحكيم عصبة الأمم القاضي بإتباعها للعراق البريطاني) حول إمكانية التخلّص من أطياف معاهدة سيفر الموقعة في 10 أغسطس/آب 1920 وتبديد آمال الوطنيين الكرد بالحكم الذاتي في ولاية الموصل. إذ شغل الكرد في كامل الولاية نحو ثلثي سكانها على ما قاله تقرير الضابط البريطاني ليجمن إبان تأسيس العراق الانتدابي، هذا فضلاً عن معارضة الكرد لخطط وضعهم تحت حكم عربيّ يحل محلّ التركي، مع ورود تفضيل إيزيديّ آخر يلتمس من الإنكليز عدم إخضاع قضاء سنجار (شنكال) للوالي العربي في دير الزور المعيّن من قبل الهاشميين.
ورغم خسارة الموصل، التي لا تنساها تركيا المعاصرة وكأنها حدثت البارحة ويتردد صداها في خُطب أردوغان، فإن احتفاء الاستخبارات التركية باضطلاع مغامرين أتراك كانوا يعملون خلف خطوط الإنكليز ونجاحهم في تأليب بعض العناصر القبلية الكردية ضد القوات البريطانيّة وتمكّن القوات التركية غير النظامية من احتلال رواندوز المؤقّت في 1922 رغم خروج قوّاتها من سنجق السليمانية عام 1918 وبسط الإنكليز سلطتهم على كامل ولاية الموصل، تمثّل جزءاً من دعاية توسّعية جديدة ملهمة لأبناء الجهازين العسكري والاستخباراتيّ ولطبقة شعبية متطرّفة تؤمن بـ«ضيق مساحة تركيا» وإمكانية استعادة الموصل.
تاريخياً أيضاً، نجحت أنقرة، مدفوعة بدعم بريطاني، في تطويع العراق الهاشمي لأن يصبح جزءاً من تحالفها في المنطقة ابتداءً باتفاقية سعد آباد عام 1937، ومعاهدة حلف بغداد عام 1955. إلّا أن إطاحة عبدالكريم قاسم بالحكم الملكي تسبب في انهيار شبكة الأحلاف تلك وما نجم عنها من تفاهمات أمنية كان أحد مرتكزاتها تعقّب التطلّعات الكردية. ولمّا تلمّست أنقرة خروج بغداد على الأحلاف المشتركة وبحثها عن مشتركات وحلول سياسية للقضية الكردية، سعت إلى تنفيذ أوسع مشروع اجتياح في العام 1958 بذريعة التحوّط لاحتمال تحوّل العراق للفلك السوفياتي، لولا أن موقف موسكو وقتذاك عطّل العملية التركية التي حددت لنفسها إطاراً جغرافياً يبدأ في كركوك ويمرّ بالموصل وينتهي بحلب.
والحال أنه ثمة رغبة في استعادة أجزاء من هذا الماضي المركّب عبر اعتماد أنقرة على متعاونين جدد يعينونها في حربها على حزب العمال الكردستاني، وعبر احتلالها لأجزاء كردستانية بمسمّى القواعد والنقاط العسكرية، فيما خطر قضم أجزاء من كردستان، كما حصل في سوريا، بات أكثر اتصالاً بتجارب التعاون الأمني بين بغداد وأنقرة ونجاح الأخيرة في استدراج بغداد للموافقة على إنشاء مركز عمليات مشتركة قد تفضي إلى إنشاء «منطقة عازلة» تأتي على أجزاء من كردستان لا سيما معابرها الواصلة بين العراق وتركيا. أي أن المنطقة العازلة قد تشكّل منطلقاً لعزل كردستان وتخفيض أهميتها كمعبر يغذّي العراق بالبضائع التركية وممرّ لتصدير النفط. بل إن الأدهى من ذلك كان انتزاع الاعتراف، الذي يعكس قصر نظر الطبقة السياسية العراقية، فيما خص اعتبار حزب العمال الكردستاني منظمة محظورة و«إرهابية»، الأمر الذي يبيح لتركيا مواصلة الانتهاكات لسيادة العراق نتيجة الخطأ الحسابي لسياسيي بغداد غير المجرّبين، أو لنقل أولئك الذين يفتقرون لقراءة استراتيجية دقيقة. إذ إن من شأن إقرار العراق هذا أن يحول دون تقديمه الشكاوى للهيئات الأممية، فوق أنها خطوة مرتجلة لا تركن لضمانات فعلية تساهم في نيل العراق حصّته المائية التي تحتجزها تركيا أو حلحلة عُقد القضايا الخلافية الأخرى.
وفي الأثناء، يبرز حديث تركي عن «صيف ساخن» وعملية عسكرية برية موسّعة للقوات التركية قد تشمل منطقة شنكال (سنجار) الاستراتيجية المحاذية للحدود السورية، واحتمالية مطالبة الفريق الأمني والدبلوماسي التركي الذي يكثّف زيارته لبغداد بنوع من الشراكة العسكرية لأجل بسط السيطرة على هذه المناطق القريبة من الموصل. وهو أمر يشقّ على الجيش العراقي تنفيذه في المنطقة الإيزيديّة دون انخراط الحشد الشعبي في هذه المغامرة غير معروفة النتائج، والتي يمكن لها أن تتحوّل لمعارك استنزاف في مواجهة القوات المحلية. كما ستعيد مثل هكذا عملية للذاكرة الإيزيدية أطياف الماضي المتمثّل بعمليات الإبادة و«الفرمانات» العثمانية وإرهاب تنظيم داعش القريب، فضلاً عن وضع الشيعة في موقف حرج لجهة تفضيل الإيزيديين تواجد مليشياتهم على احتمال تواجد تموضع سني تقوده تركيا في تلك المناطق.
والحال أن تجريب تركيا الانخراط في حرب موسعة قد يوقظ أطياف الماضي العراقية المقابلة، لاسيما في كردستان وشنكال والموصل. وقد يؤدي استعجال أنقرة في فرض تصوّرات صارمة للتحالف الأمني والعسكري مع بغداد إلى حالة نفور داخل البيت الشيعي والطبقة السياسية العراقية من شراكة مكلفة ومتطلّبة، فوق أنها شراكة لا تراعي مصالح إيران على الحدود السورية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد