تركيا تغري العراق بـ”طريق التنمية”.. ما هو موقع الكرد في “صفقات الصيف”؟
د.محمد نورالدين
لا تغمض أنقرة عينها عن الحدود الجنوبية لتركيا. “العثمانية الجديدة” التي أُطلقت شرارتها الفعلية مع حزب العدالة والتنمية، والتي كانت لاحت في عهد الرئيس التركي الراحل طورغوت أوزال، لم يتراجع زخمها. ولقد حاول حزب العدالة والتنمية بقيادة ثلاثيه رجب طيب إردوغان وعبدالله غول وأحمد داود اوغلو، أن يعمموا النفوذ العثماني حيثما أمكن لهم ذلك منذ انفجار ما سمّي بالربيع العربي. فصالوا في مصر وليبيا والسودان وتونس والمغرب. لكن الجغرافيا دائما ما تكون لها الغلبة عندما يحين موعد حسم القرارات. وعلى امتداد أكثر من عشر سنوات صوبت تركيا على منطقتين حيويتين لها: القوقاز الجنوبي وكل من سوريا والعراق. كان البعد “التركي” المتصل بالانتهاء من “الشوكة الأرمنية” في صلب التحالف مع أذربيجان. فأنهوا أولا مع حرب 2020 الوجود الأرمني من المناطق التي كانت سيطرت عليها يريفان مطلع تسعينيات القرن الماضي، من أراضٍ تعتبر “في القانون الدولي” تابعة لأذربيجان. ومن ثم كانت عملية اقتلاع الأرمن، في أيلول الماضي، من منطقة قره باغ التي كان الأرمن أعلنوها “جمهورية آرتساخ” التي خلت، في أيلول/ سبتمبر 2023، بصورة دراماتيكية من الـ 120 ألف أرمني ممن كانوا يسكنونها منذ مئات السنين.
وكما “تخلّص” الأتراك من الأرمن في القوقاز الجنوبي وباتت أرمينيا مجرد كيان عاجز ومحاصر، فإن أنقرة تريد أن تتخلص بدورها مما تعتبره “الشوكة الكردية” في داخلها وفي خارجها على حد سواء.
بات معروفاً كيف تعاملت تركيا مع ذلك الجزء من الشعب الكردي الذي كان، بعد الحرب العالمية الأولى، من “حصة” تركيا في جنوب شرق الأناضول. وإذا كانت اسرائيل نظرت، بعد عملية “طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول، أكتوبر 2023، إلى الفلسطينيين على أنهم “حيوانات بشرية”، فإن انقرة سبقت تل أبيب في طبيعة النظرة إلى “الآخر” واعتبار الكرد مجرد “عبيد” للسيد التركي” في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. وكانت طريقة تعامل الأتراك مع الثورات والانتفاضات الكردية من الشيخ سعيد إلى آغري وديرسيم، دليلاً موثقاً على ذلك، وصولاً إلى انتفاضة حزب العمال الكردستاني في منتصف الثمانينيات المستمرة حتى الآن.
أنكرت النخب التركية، بعلمانييها وإسلامييها على حد سواء، وجود الكرد، ولم تعترف بهويتهم ولغتهم وحقهم في الحياة الإنسانية، وهم الذين لا يقل عددهم في تركيا فقط عن 12 مليوناً في أسوأ التقديرات، وتعرضوا منذ مئة عام وحتى الآن إلى “إبادة متدرجة”. يعتقل ممثلوهم ويُقال رؤساء بلدياتهم وعند الضرورة، تدمر أحياؤهم. إبادة متنوعة بشرية ومكانية واجتماعية وثقافية.
قبل أيام، في 4 آذار/ مارس، خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من اجتماع الحكومة ليصرح قائلا: “إننا نواصل الحرب ضد الإرهاب بتصميم بغض النظر عن العقبات التي نواجهها داخل حدودنا وخارجها. ونحن على وشك استكمال الدائرة التي ستؤمن حدودنا العراقية بشكل دائم ونأمل أن نتمكن من حل هذه المشكلة بحلول الصيف المقبل”. وأضاف “إن رغبتنا في إنشاء حزام أمني وآمن بعمق 30-40 كيلومترا في شمال سوريا والعراق لا تزال قائمة”، واصفاً المناطق التي يتواجد فيها مقاتلو حزب العمال الكردستاني بـ “إرهابستان”. ولم يتردد أردوغان في التشبه بما جرى في القوقاز بالقول “إن المثال الأذري وكيف “حرّر” إخواننا الأذريون بلادهم قائم أمام أعيننا”.
يريد أردوغان بكل ذلك أن يطبق “النموذج” الأذري في التطهير العرقي، الذي كان هو شريكاً فيه، على الوضع في شمال العراق وسوريا.
كنا ذكرنا أن أنقرة تعتقد أنها تخلصت مما تسميه “الإرهاب” الكردي في داخلها ويصف وزير الدفاع ياشار غولر بأن الوضع في الداخل التركي آمن ولم يعد هناك تهديد. لكن المشكلة بنظر أنقرة لا تزال موجودة في شمال العراق وشمال سوريا.
لهذا السبب تقاطرت، في الآونة الأخيرة، الوفود التركية على أعلى مستوى إلى العراق للبحث في إمكانية التعاون مع بغداد ومع إدارة إقليم كردستان في أربيل، للانتهاء من وجود عناصر حزب العمال في معاقل جبلية بإقليم كردستان العراق. كما للضغط على الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية للتوقف عن توفير الدعم والحماية لـ “الكردستاني”.
وكشف وزير الدفاع ياشار غولر في 11 آذار/ مارس الجاري في حوار مع صحيفة “حرييات” عن ان الرغبة التركية في إنشاء حزام أمني بعمق 30-40 كيلومتراً حاسمة ونهائية. ويقول إنه من دون إنشاء هذه المنطقة فلن ينتهي الإرهاب والتهديد الموجه من هناك إلى الداخل التركي. وقال إن مسافة 40 كيلومتراً تضمن أمن تركيا بالكامل. وقال – مكرراً كلام أردوغان- إنه بحلول الصيف ستكون تركيا قد انتهت للأبد من تهديد حزب العمال الكردستاني.
تثق أنقرة بأن حكومة بغداد تريد أيضا التخلص من وجود حزب العمال الكردستاني، لسبب أساسي وهو أنها أيضاً تريد أن تبصر “طريق التنمية” النور وهي الطريق التي ستصل ميناء الفاو العراقي مع الحدود التركية عند منطقة أوفا كوي.
ولكن في تدقيق لمشروع طريق التنمية نجد أنه يستهدف عدم المرور في أي منطقة جغرافية تابعة لكردستان العراق. بمعنى أن تركيا تنظر إلى إدارة إقليم كردستان مجرد أداة لبلوغ مآربها. أولاً بالتزود بالوقود العراقي المهرب و”غير القانوني”. والثاني بسط سيطرة الشركات التركية على سوق كردستان. والثالث التحالف لتصفية حزب العمال الكردستاني. وفي الوقت نفسه تهمّش كرد العراق وإدارة أربيل بجعل طريق التنمية يمر خارج المناطق الكردية. وهذا يعكس أنه ليس لأنقرة حلفاء بين الكرد إلا بمقدار ما يخدمون المشروع العثماني التركي القائم منذ مئة عام والذي لا يرى وجوداً للمكون الكردي لا في تركيا ولا في العراق ولا في سوريا.
من هنا أيضا جاءت عمليات التدخل التركي في سوريا والاحتلالات المتوالية منذ العام 2016.ولا يجب أن نغفل أن مشاريع التوسع والسيطرة التركية في سوريا والعراق، تتصل فكرياً وقومياً بـ “مرجعية” وثيقة الميثاق الملي التي أقرها البرلمان التركي في 28 كانون الثاني 1920 وتلحظ أن مناطق شمال سوريا والعراق ضمن حدود تركيا الجديدة ما بعد انهيار السلطنة العثمانية.
لا شك أن تركيا، بمحاولات توسيع سيطرتها على شمال سوريا والعراق، ترغب في الاستفادة إلى الحد الأقصى من الظروف الضاغطة التي وفرتها الحرب الاسرائيلية على غزة، ليتراجع الاهتمام الإقليمي والدولي بما قد تفعله تركيا في شمال سوريا والعراق. لكن أنقرة تواجه أكثر من عقبة يتوجب عليها أن تتجاوزها. من ذلك الوضع الداخلي في العراق، وهل ستكون حكومة بغداد مستعدة للتعاون مع أنقرة لضرب حزب العمال الكردستاني. وهل ستوافق إيران على الخطوة العسكرية التركية التي تعني توسيعاً لنفوذها على حساب النفوذ الإيراني خصوصاً ان إيران قد تلقت ضربة قوية لنفوذها في القوقاز الجنوبي مع انتصار أذربيجان وتركيا على أرمينيا وسعي باكو وأنقرة لفتح ممر زيتغيزور الذي يصل الأراضي التركية بالأذربيجانية عبر الأراضي الأرمينية، وبالتالي لا يعود ضرورياً للشاحنات المرور عبر الأراضي الإيرانية وما يعنيه ذلك من تراجع للأهمية الجيوبوليتيكية لإيران في تلك المنطقة. ثم أخيراً وليس آخراً، هل من ضوء أخضر أميركي للعملية التركية التي تخطط لها أنقرة في شمال العراق كما في سوريا؟ علماً أن الولايات المتحدة تدعم قوات سوريا الديمقراطية في سوريا؟
تدرك أنقرة أن العملية ليست بالسهولة التي تعتقدها. لذا هي تسعى لحشد الدعم الدولي لها وفي رأس هذه الاتصالات العلاقة مع واشنطن. وربما كانت زيارة وزير خارجية تركيا هاكان فيدان ورئيس استخباراتها إبراهيم قالين إلى واشنطن محطة مهمة في إطار إقناع أميركا بالعملية. خصوصاً أن الاجتماع السابع لـ “الآلية الاسترتيجية بين تركيا والولايات المتحدة” الذي انعقد يومي 7 و 8 آذار الجاري، جاء مباشرة بعد موافقة تركيا على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي، وبعد المواقف “الحيادية” لتركيا من الحرب الإسرائيلية على غزة. ولذلك ربما يأمل أردوغان أن تتفهم واشنطن المخططات التركية في سوريا والعراق، وهو ما يدفع للتساؤل عما إذا كان في جعبة المرحلة الجديدة من العلاقات التركية – الأميركية تعاون بين الحليفين الأطلسيين بشأن الوضع في سوريا والعراق.
هذا الأمر يجب أن يثير ريبة حزب العمال الكردستاني وحلفائه، وربما يدفعه للتفكير بطريقة مختلفة تقيه من “غدر” المصالح ولا سيما أن الولايات المتحدة، التي كانت وراء اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجالان عام 1999، ربما لن “تبخل” بتكرار التجربة الأفغانية في أماكن أخرى وتنظر بعين كبيرة إلى أهمية تركيا في خدمة المصالح الأميركية لمواجهة أعداء الغرب مثل روسيا ولا سيما بعد اندلاع الحرب الأوكرانية والذي قد ينحو إلى تقديم المكون الكردي في سوريا والعراق “كبش فداء” على مذبح هذه المصالح.
وفي انتظار حلول الصيف المقبل فإن المسألة الكردية ستكون عرضة لمساومات وصفقات كثيرة قد تنجح وقد لا تنجح وآخرها الزيارة الثلاثية التي قام بها في 14آذار الجاري الى بغداد وزيرا الدفاع والخارجية ورئيس الاستخبارات التركية الى بغداد وصدور بيان مشترك في التعاون ضد “المنظمات غير الشرعية”. لكن الأخطر في الأمر عندما تكون تركيا “العثمانية” والعنصرية طرفاً، بل في قلب هذه المخططات، وفي عالم لا يعرف سوى لغة المصالح، لا لغة الحق والعدالة.