حرب موسكو الإعلامية على برلين: أهداف تتخطى أوكرانيا والناتو!

طارق حمو

نشرت وسائل إعلام روسية في الأول من شهر مارس/ آذار الجاري، نقلاً عن مارغريتا سيمونيان، مديرة قناة (روسيا اليوم)، تسجيلاً صوتياً، نقل محتوى مؤتمرعلى الهاتف تاريخه يعود إلى 19 فبراير/ شباط الماضي لمسؤولين عسكريين ألمان كانوا يتحدثون عن خطط لقصف جزيرة القرم الخاضعة للسيطرة الروسية منذ عام 2014، وتقديم أسلحة نوعية للجيش الأوكراني، يقوّي من موقفه في التصدي للهجوم الروسي على أوكرانيا. كما تضمن التسجيل، ومدته 38 دقيقة، مقترحات بمنح القوات الأوكرانية صواريخ ألمانية ـ سويدية الصنع من نوع توروس وتأثيراتها المحتملة، بالإضافة إلى بحث تداعيات وآثار الصواريخ التي قدمتها كل من فرنسا وبريطانيا للمنظومة الدفاعية الأوكرانية.

وبغض النظر عن دلالة الحدث في تمكن الاستخبارات الروسية من اختراق مؤتمر مغلق لعسكريين ألمان، ونشر تفاصيل الحديث، فإن التوقيت له دلالة بالغة الأهمية، ويأتي في خضم نقاش حاد تشهده الساحة السياسية والإعلامية الألمانية حول منح برلين صواريخ متطورة من نوع توروس (مداها 500 كم) للجيش الأوكراني، وهي خطوة مازالت معلقة بسبب رفض المستشار الألماني أولاف شولتس منح الموافقة النهائية، مخافة أن يستخدمها الجيش الأوكراني في قصف مواقع داخل الأراضي الروسية.

تعتبر موسكو إمداد برلين الجيش الأوكراني بهذا النوع من الصواريخ، تصعيداً لا يمكن قبوله، ودخولاً مباشراً لألمانيا في الحرب الروسية ـ الأوكرانية، سيما وأن وجود مثل هذه الصواريخ بحوزة الجيش الأوكراني، يعني وجود ضباط وخبراء عسكريين ألمان في جبهة الحرب للإشراف على تشغيلها وإطلاقها. وكانت القيادة الروسية قد صعّدت في الآونة الأخيرة تجاه ألمانيا وحذرتها من التورط أكثر في دعم أوكرانيا، سيما وأن برلين مضت بعيداً حينما تفوقت على الجميع في دعم الجيش الأوكراني والإنفاق بسخاء عليه في سبيل إيقاف التقدم العسكري الروسي. وبحسب الموقع الرسمي للحكومة الألمانية (تقرير نهاية فبراير/شباط الماضي) فإن المساعدات الألمانية المختلفة الأوجه التي رصدتها برلين لدعم كييف منذ الهجوم الروسي وإلى نهاية عام 2028 ستتخطى 28 مليار يورو. وتجد موسكو في التدخل الألماني أحد أهم أسباب الفشل في تحقيق أهدافها من الهجوم.

وضمن التغييرات الاستراتيجية التي ستؤثر في موازين القوة في القارة الأوروبية، كانت برلين هي أول المبادرين إلى اتخاذ خطوات «رد فعل نوعية» على الهجوم الروسي بعد أيام قليلة من وقوعه في فبراير/ شباط 2022، وذلك حينما أعلن المستشار شولتس عن خطة ألمانيا في تشكيل جيش أوروبي موحد، وسيكون الجيش الألماني الجديد عماده، ورصد ميزانية خاصة قدرها 100 مليار دولار لإعادة بناء وتسليح الجيش خلال السنوات القادمة.

ترى موسكو في هذه الخطوة تهديداً لطموحاتها في أوروبا، بالإضافة إلى إفشال خططها في التمدد والاستحواذ على المزيد من الأراضي الأوكرانية. وكانت ألمانيا هي الداعم الأكبر لفرض عقوبات أوروبية صارمة ومؤلمة على روسيا، والتوقف عن استيراد الغاز الروسي، وربط كل أوجه التعاون بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بوقف موسكو حربها على أوكرانيا والانسحاب من الأراضي التي احتلتها هناك. كل ذلك دفع موسكو إلى إدراج برلين على رأس قائمة المعادين لها.

وبعودة سريعة للوراء نرى أن التدخل الروسي في الشأن الألماني، أو حالات التجسس والاختراق، ثقافة روسية معهودة عند التعامل مع برلين. ففي أبريل/نيسان 2015 اخترق شخص يدعى ديمتري بادين، ثبت أنه على علاقة بجهاز المخابرات الروسية، أنظمة الكومبيوتر في البرلمان الألماني، وسرق 16 جيجابيت من البيانات والمعلومات والوثائق. وفي أغسطس/ آب 2019 أقدم مواطن روسي يدعى فاديم كراسيكوف (قائد وحدة خاصة في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي) على قتل مواطن جورجي يدعى تورنيك كافتاراشفيلي (عسكري منشق) بالرصاص في حديقة برلين في العاصمة الألمانية. وكشفت محكمة ألمانية ملابسات القضية وحكمت على الجاني بالمؤبد. وفي ديسمبر/ كانون الأول 2022، ألقت السلطات الألمانية القبض على عسكري يدعى كارستن. إل، بتهمة ارسال وثائق حساسة إلى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي. كما وتمت عشرات محاولات القرصنة وحوادث السطو والتنصت على المكاتب والمؤسسات والمواقع الالكترونية التابعة للحزب المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الديمقراطي، واتهمت جهات قريبة من الحكومة الروسية بالمسؤولية عنها.

وكانت برلين قد تنبهت إلى السياسة العدائية الروسية، فشددت من مراقبتها للمؤسسات الروسية الرسمية وغير الرسمية العاملة على الأراضي الألمانية، بهدف إحباط الحملات الإعلامية المكثفة في نشر الأخبار المزيفة والتسويق لنظرية المؤامرة، وكلها متأتية من رغبة ومحاولات موسكو التأثير في الرأي العام الألماني. ومن الإجراءات الألمانية قرار برلين إغلاق فضائية (روسيا اليوم) الناطقة بالألمانية في ديسمبر/ كانون الأول 2022. ومؤخراً كشفت مجلة (دير شبيغل) عن أن خبراء، قامت وزارة الخارجية الألمانية بتكليفهم، عثروا على أكثر من 50 ألف حساب مزيف على منصة «إكس» لمستخدمين قاموا بنشر أكثر من مليون رسالة باللغة الألمانية، اتهموا فيها حكومة المستشار شولتس بإهمال شعب بلاده لصالح مساعدة أوكرانيا في حربها ضد روسيا.

ما هو أبعد من الحرب في أوكرانيا أو تفعيل ألمانيا لدورها في الناتو وقرارها التحول لقوة عسكرية نوعية تحشد خلفها جيشاً أوروبياً موحداً، قادراً على ردع روسيا، هو ثبات روسيا على موقفها في التدخل المباشر في الشؤون الألمانية، ورغبة موسكو في اختراق الحياة السياسية في برلين، بما في ذلك التحول لفاعل مؤثر في تحديد الجهة التي ستشكل الحكومة وتحكم وتدير البلاد. وتعتمد موسكو على أحزاب سياسية ناهضة ترفض مقاطعة روسيا ومواصلة إمداد أوكرانيا بالسلاح، وتطالب بإطلاق حوار فوري مع موسكو لايحاد مخرج سياسي للحرب الدائرة في أوكرانيا. ومن أهم هذه الأحزاب حزب البديل من أجل ألمانيا (حالياً 20%) وتحالف السياسية المنشقة عن حزب اليسار سارة فاغنكنيشت (حالياً 8%)، والحزبان معاً يكادان أن يصلا إلى النسبة الحالية للتحالف الحاكم المشكل من ثلاثة أحزاب. ولا بد من الإشارة إلى درجة الشعبية التي يتمتع بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والنظام الحاكم في موسكو في صفوف المواطنين الألمان المنحدرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق، ويقدر عدد هؤلاء بحوالي ثلاثة ملايين شخص.

والحال أن روسيا تهدف لإختراق السياسة الألمانية وتمرير الخطاب الروسي والتفسيرات الرسمية للتطورات الأخيرة في القارة الأوروبية، بما في ذلك الهجوم العسكري على أوكرانيا، مستندة إلى حاضنة في الداخل الألماني ونخبة سياسية ترى مصلحة ألمانيا في التهدئة مع روسيا وتعزيز العلاقات الاقتصادية معها. هذه النخبة ترفض تحول برلين إلى قاطرة تجر ورائها الدول الأوروبية لمحاصرة روسيا والتضييق عليها، وتنتقد توسعات حلف الناتو شرقاً، وتعارض الحضور الأميركي المتزايد في القارة الأوروبية، في تفرد وانعزالية واضحة عن الخط والمزاج الألماني والأوروبي العام.

موسكو تعلم مدى هشاشة وضعف التحالف الإئتلافي الحاكم في برلين، وتعي مدى الضغوط الممارسة على المستشار شولتس، سواء من جهة الناخب الألماني الذي بات يتلمس التضخم وارتفاع الأسعار وتراجع مستوى المعيشة، مما يعني تآكل حالة الرفاهية المعتادة، أو من جهة الخارج، حيث الشركاء في الناتو، من الذين يميلون إلى توسيع الحلف شرقاً، ومواصلة إمداد أوكرانيا بالمساعدات والأسلحة والاستشارة العسكرية، ورفض التفاوض على قاعدة احتفاظ موسكو بالأراضي التي قضمتها منذ هجومها على سيادة كييف.

ويبقى تسجيل موسكو انتصاراً في الاختراق الذي حصل للمؤتمر العسكري الألماني، رديفاً للانتصارات العسكرية المحققة في الجبهة، ويثبت من أقدام بوتين الذي يستعد للانتخابات الرئاسية الأشبه باستفتاء على دوام سلطته. والاختراق، كذلك، تحذير للمستشار شولتس من مغبة إرسال أسلحة نوعية إلى الجيش الأوكراني والمضي قدماً في التصعيد، كما ويقوّي من حجج خصومه في المعارضة لبرهان عدم أهليته وتحالفه الحاكم، ويفقده، علاوة على ذلك، ثقة الشركاء في الناتو من جهة مواصلة إمداد المؤسسة العسكرية الألمانية بالمعلومات الحساسة والخطط المسبقة، واعتبارها مكشوفة وغير جديرة بالتعاون.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد