الفارس والفلاح في «إصلاحات الشرق» 

حسين جمو 
استهل الكاتب اليساري، شوكت ثريا أيدمير، (ولد عام 1897 وتوفي في 1976)، فترة شبابه بالحماس تجاه الأفكار الطورانية الداعية إلى نهضة شرقية بقيادة العرق التركي. ولم يكن مفهوم الطورانية في سنوات الحرب العالمية الأولى متبلوراً بعد بالشكل الذي استقرت عليه في نهاية عهد مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال ومن بعده الرئيس عصمت إينونو. ومع ذلك، عندما رأى البنية المتعددة الأعراق في القوقاز خلال فترة عمله مدرساً هناك، بدأ في التشكيك في صوابية الأفكار الطورانية، فانضم إلى الحزب الشيوعي.
عند عودته إلى تركيا من الاتحاد السوفيتي عام 1923، كتب لمجلة «Aydınlık» اليسارية، وتم إغلاق المجلة عام 1925 لأسباب سياسية، وحكم على آيدمير بالسجن لمدة 10 سنوات من قبل محكمة استقلال أنقرة بسبب الآراء التي شرحها في المجلة. أطلق سراحه بعد عام ونصف. حوكم مرة أخرى عام 1927، ولكن تمت تبرئته هذه المرة فخرج من السجن مغتسلاً من شيوعيته وأصبح كمالياً .
بعد تجربته في السجن، مزج ميوله الماركسية اللينينية مع الأيديولوجية القومية التركية السائدة لإنشاء الأساس لنظرية الكادر. وحاول دفع الكمالية نحو اليسار أكثر. وجادل بأن تركيا ستقود نظاماً عالمياً جديداً تنهض فيه المستعمرات السابقة والدول المقهورة وتتغلب على هيمنة العالم الصناعي.
مقتطف من مقالة أيدمير / المصدر: أرشيف صحيفة آكيس
نشر الكاتب والمنظّر الشيوعي السابق، شوكت ثريا أيدمير، مقالاً في صحيفة «Akis» (الصدى) بتاريخ 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1967 بعنوان «المحافظات الشرقية ومواطنونا الكرد» يروي فيه تجربتين له شكلتا صورتين متناقضتين في ذهنه عن الكردي؛ الأولى حين كان طفلاً وهو ابن مهاجر بلقاني استقر في أدرنة غرب إسطنبول، إذ شاهد مجموعة من الفرسان يمتطون أحصنة ويرتدون زياً مهيباً برماح طويلة وسيوف كبيرة. وعرّف المارة الذين تجمعوا لمشاهدة هذا الموكب المسلح هؤلاء الفرسان بـ«الأفواج الحميدية». هؤلاء هم الأكراد جنود السلطان بمظاهرهم المهيبة والمرعبة. بدا لنا نحن الأطفال أن أعداءنا سيرتعدون أمام هؤلاء الفرسان. منذ ذلك اليوم فصاعدًا، كانت الصورة التي تخطر في بال أيدمير عند ذكر كلمة كردي دائماً هي هؤلاء الأشخاص الأقوياء الذين يرتدون ملابس فاخرة ويركبون خيولهم كما لو كانوا يهزون الأرض.
لكن ذات يوم، اكتشف أيدمير «الحقيقة» حين رأى الكرد في ديارهم. لقد تم محو آثار ذكريات طفولته في بداية عام 1916، فقد كان ضابط احتياط على الجبهة الشرقية ضد الجيش الروسي والمسلحين الأرمن، وتراجعت القوات العثمانية تحت الضربات إلى خط جبل قرداغ غرب أرزنجان. كانت وحدة شوكت أيدمير متمركزة عند سفح جبال منزور الشاهقة في ديرسم، وهنا تعرف على ما يسميه «هذا الكردي الحقيقي في هذه الجبال»، فكتب يقول:
«ما رأيته أدى فجأة وبشكل كامل إلى محو آثار سلاح الفرسان الحميدية في ذاكرة طفولتي. المخلوقات التي صادفتها في ممرات وقمم ديرسم، والتي نسميها الكرد والذين قدموا أنفسهم على أنهم كرد، هي مخلوقات يتملكها البؤس العاري والجوع والفقر المطلق الذي لا يرضاه الله لأي مخلوق. على سبيل المثال، أتذكر أول كردي رأيته: في الثلج، كان حافي القدمين. صدره مفتوح ويرتدي قميصاً داخلياً فقط. لكنه تفاخر حين لقيناه بالقول “أنا خادم الآغا”. بعد ذلك، أتيحت لي الفرصة لرؤية هذه المناطق في أوقات مختلفة، إما كجنود أو كمسؤولين في الدولة. وأصبحت مقتنعاً أكثر فأكثر أن الحياة لا ينبغي أن تكون بهذه الصعوبة على الناس أياً كانوا».
ثم يحول أيدمير مجرى المقال إلى الوجود الكردي ذاته، فيسأل:
«هل يوجد أكراد في تركيا؟ ومن هم؟ الجواب على أول هذه الأسئلة هو: نعم، لدينا مواطنون أكراد في بلدنا. وفقاً للتعداد الأول لعام 1927، كان يعيش في تركيا 13 مليوناً و648 ألف نسمة، منهم مليون و357 ألفاً من الكرد. في عام 1955، كان مجموع السكان 24 مليون و65 ألف نسمة. وفقا للأرقام الرسمية، اعترف مليون و 504 ألفاً من هؤلاء السكان على أنهم يتحدثون الكردية. في تعداد عام 1965، بلغ إجمالي عدد الناطقين باللغة الكردية مليونان و327 ألف نسمة من أصل 31 مليوناً و291 ألفاً من مجموع السكان».
ثم يدخل أيدمير في مسألة من أين جاء الكرد؟ بتأكيده على الأجوبة التي ساقها والتي تؤدي جميعاً إلى أنهم من خارج تركيا الحالية، بمعنى هم أيضاً سكان مهاجرون قدموا خلال مراحل مختلفة من الهضبة الإيرانية وجبال زاغروس. ثم يسوق أمثلة من تعدد اللهجات الكردية كمؤشر على عدم قابليتهم لتشكيل أمة بحد ذاتها، ويستند إلى اقتباسات مضللة من كتاب «شرفنامة» للمؤرخ والأمير الكردي شرفخان بدليسي. ولا يكتفي بذلك، بل يرضي كافة «الأذواق» القومية التركية حين يترك الباب أمام نظرية الأصل الطوراني للكرد أو على الأقل تأثرهم التام بالثقافة التركية.
لقد قدّم أيدمير صورة الكرد الأبطال جنود السلطان من ذاكرة طفولته، ثم قدم صورة الفلاح البائس الذي يدنو عن كل مخلوقات الله في الأرض حسب وصفه. وهو يختلق فعلياً هذه الصورة لغرض إرضاء «ذوق الجمهورية».
وفق معايير فترة الستينيات من القرن العشرين، كانت طروحات أمثال شوكت أيدمير معتدلة قياساً بما كان شائعاً حيث صاغت السلطة عبر كوادرها الأكاديمية، ومنهم أيدمير، الروايات التي تراها مناسبة حتى لو خالفت منطق التاريخ والعلوم الاجتماعية، فالساحة الكردية كانت تعيش حالة من الاستسلام الكلي منذ هزيمة آخر ثورة سياسية مجتمعية كردية عام 1925 وحتى منتصف السبعينيات. نصف قرن من الصمت اختزن الكثير من أسرار انطلاقة المهزومين في دورة جديدة من الكفاح ضد التعالي المؤسسي – الدولتي الذي ظهر جلياً في مقال شوكت أيدمير. فالرجل ابن مؤسسة الدولة منذ عام 1927 حين أصبح منظراً للكمالية بعد أن غادر صفوف الماركسية. وقيل إنه وشى برفاقه وكبار قيادات الحزب الذي كان محظوراً. لقد قدّم أيدمير صورة الكرد الأبطال جنود السلطان من ذاكرة طفولته، ثم قدم صورة الفلاح البائس الذي يدنو عن كل مخلوقات الله في الأرض. وهو يختلق فعلياً هذه الصورة لغرض إرضاء «ذوق الجمهورية» في التعريف بالكرد عام 1967 حين كتب المقال، ومن المرجح جداً أن أيدمير لم تتشكل لديه أي صورة عن الشعب الذي صوره وكأنه صنع بؤسه بنفسه في أجواء الحرب العالمية الأولى التي طحنت كردستان وأرمينيا، لأنه في العام الذي زعم لقاءه بذلك الفلاح في منطقة ديرسم، كان أيدمير يقاتل على جبهة القوقاز وإلى جانبه كل «جنود السلطان» الذين رآهم في أدرنة قبل سنوات. فقد كانت الأفواج الحميدية رافداً عسكرياً لكل جبهات القوقاز إلى جانب الجيش العثماني وحماة خط الإمداد الرئيسي لهذه القوات التي كان أيدمير جزءاً منها. وبالتالي، فإن مزاعمه بأنه لم يجد «الفرسان الكرد» في الشرق على الجبهة وقصّر حكايته على فلاح يكافح ليومه ويوجد مثله في كل أركان الأرض إنما صيغت في وقت متأخر لأغراض التعالي القومي والحط من شأن الكرد الذين انحدروا بشدة اجتماعياً تحت تأثير ضربات الدولة المتتالية والممنهجة في بدايات تأسيس الجمهورية، وبسبب عوامل ذاتية أيضاً تكاملت مع الخطة الرسمية لشاملة التي أطلق عليها اسم «خطة إصلاحات الشرق»، وهي المشروع الأم لكل السياسات الخاصة بالكرد داخل الجمهورية وخارجها منذ أن تأسست تركيا كجمهورية بعد أن اكتسبت حماية دولية لكيانها المتبقي وفق معاهدة لوزان الموقعة في 24 يوليو/تموز 1923.
رسم لهيئة الشيخ سعيد بيران على صدر صحيفة “آكيس” عدد 6 نوفمبر 1967
إذا وضعنا صورة الكرد، وفق ما قدمهما أيدمير، الكردي الفارس والكردي الفلاح، فإن احتقاره للثاني مثير للغرابة من حيث أن أيدمير كاتب له تراث في الشيوعية ومؤسس لنظرية الكادر المثالي في الثقافة السياسية التركية والتي توسعت لاحقاً إلى الأحزاب السياسية داخل وخارج البلاد. وكان لأي حصيف مثله أن يتوقع وهو في العام 1967 بقرب نهاية «نصف قرن من الهزيمة والقبول بها»، ذلك أن أبناء الفلاحين ممزقي الثياب والسائرين بلا أحذية في الحقول، استأنفوا في نهاية السبعينيات من القرن العشرين ما كان أسسه الفرسان أصحاب السيوف والرماح الطويلة.
كان أيدمير كاتباً غزير الإنتاج أيضاً، أشهر أعماله «الثورة والكادر»، الذي نُشر عام 1932، حيث أوجز نظريته في الاقتصاد السياسي في مجلة «Kadro». نشر مذكراته في رواية «الرجل الذي يبحث عن الماء» عام 1959. وبين عامي 1963 و1965، كتب أهم نتاجاته الدعائية للكمالية وهو كتاب «Tek Adam» (الرجل الوحيد) في ثلاثة مجلدات عن سيرة مصطفى كمال. كما نشر سيرة حياة عصمت إينونو بعنوان «Ikinci Adam» (الرجل الثاني).
أما مجلة  «Akis» (الصدى)، كانت دورية سياسية أسبوعية في تركيا صدرت في مايو/أيار 1954 وتوقفت عن الصدور في ديسمبر/كانون الأول 1967. كان شعارها «جادون ولكن ليس إلى درجة الملل». ترأس تحريرها متين توكر، الذي تزوج من ابنة الرئيس ورئيس الوزراء في مراحل عديدة، عصمت إينونو، وتحول من مناصرة الحزب الديمقراطي مطلع الخمسينيات إلى محاربته إعلامياً وباتت «Akis» منبراً متقدماً للمعارضة بزعامة إينونو، وتعرضت للإغلاق بقرار من حكومة عدنان مندريس ثم عادت للنشر بعد الانقلاب العسكري وإعدام مندريس عام 1960. رغم ذلك، لم تصمد المجلة أمام كارتيلات الإعلام والصحافة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد