طريق تركيا للتحول إلى مصدر عالمي للسلاح

عرض وتعليق: طارق حمو

نشر المعهد الألماني للدراسات السياسية والأمنية دراسة بعنوان «تركيا في الطريق لتصيح مصدراً عالمياً للسلاح»، توقف فيها على عملية تطوير تركيا لصناعاتها العسكرية وقطعها شوطاً طويلاً في الإنتاج من حيث الكم والنوعية، بحيث بات هذا القطاع يساهم بشكل واضح في رفد الاقتصاد الوطني بمليارات الدولارات. وراجعت الدراسة التي كتبها جينس باستيان، الخبير في شؤون التسليح والاقتصاد العسكري، الأسباب التي تدفع تركيا إلى زيادة الانفاق على التسليح وإنشاء الصناعات العسكرية، وأهمها الرغبة في تحقيق الاكتفاء الذاتي والخروج من الهيمنة الغربية واحتكاراتها للسلاح الحديث والتقنية المتطورة.
واستخلصت الدراسة بأن تركيا ترغب في تقليل اعتمادها على الشركاء الغربيين وبناء صناعاتها العسكرية الخاصة بها وتحقيق الاكتفاء الذاتي، تقنياً ولوجستياً ومن حيث الكمية، لجهة إنتاج أنظمة الأسلحة محلياً، على طريق التخلي الفعلي والنهائي عن التوريد من الخارج. وبغية تحقيق هذا الهدف، قالت الداراسة إن الدولة التركية عملت على ربط الشركات العاملة في قطاع الإنتاج الحربي ببعضها البعض، وضاعفت الإنتاج وقدرات التوريد والاستيعاب والتخزين والإشراف من خلال تأسيس غرفة إشراف ومتابعة مركزية، قدمت بدورها الدعم السخي للبحوث المتعلقة بتحديث وتطوير أنظمة الأسلحة، ودفع مختلف القطاعات الاقتصادية لإنجاح خطة الإنتاج العسكري وتحقيق الاكتفاء الذاتي من السلاح.
ولفتت الدراسة النظر إلى تركيز مشاريع التسليح التركية على تطوير أنظمة الطائرات من دون طيار «TB2»، وتحديث وتطوير المروحيات الهجومية «Atak» وتحسين فاعلية دبابات «Altay» والطائرات المقاتلة الشبح من نوعي «Anka 3» و«Kaan»، وكل ذلك لتحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية هي: أولاً: الاكتفاء الذاتي من خلال بناء التكنولوجيا الوطنية وترسيخ الشركات العاملة فيها لتغطية الحاجة وتثبيت قدرة الردع. ثانياً: الاستقلال عن مصادر الإنتاج الأجنبية. ثالثاً: بناء الصناعات العسكرية القادرة على المنافسة في سوق السلاح الدولي، وبالتالي زيادة القابلية للتصدير وتحويل عبارة «صنع في تركيا» إلى ماركة دولية معتبرة في عالم السلاح والصناعات الحربية.

صناعة السلاح كقطاع استثماري

أشارت الدراسة إلى أن تاريخ بناء وتطوير قطاع الصناعات العسكرية والتسليحية في تركيا يعود فعلياً إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي، وأن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية على تركيا جراء احتلالها شمال جزيرة قبرص، وتضمنت حظر تصدير صنوف وتقنيات محددة من السلاح، هي التي دفعت أنقرة لاتخاذ قرار إنشاء صناعاتها العسكرية الخاصة. وأشارت الدراسة إلى عام 1985، وهو تاريخ تأسيس «رئاسة الصناعات الدفاعية»، ورفدها منذ ذلك الحين بمليارات الدولارات بغية تطوير وتحديث أسلحة الجيش التركي، علماً بأن هذه الأموال الداخلة في «الاستثمار» العسكري لا تدرج ضمن الميزانية المخصصة لوزارة الدفاع، بل يتم التعامل معها كصندوق سيادي خاص تابع بشكل مباشر لرئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، وبالتالي خاضع للتعليمات السياسية الصادرة منه. ورسمياً، ضمن الإطار القانوني المعمول به منذ العام 2018، تصدر كل من وزارتي الدفاع والخارجية تراخيص تصدير السلاح للصندوق السيادي، بينما تشرف وزارة المالية على الإنفاق الدفاعي من الصندوق، ويحق لها المراقبة.
وبحسب الدراسة نجحت الحكومة في توجيه القطاعات الفردية في الاقتصاد التركي والشركات العاملة في مجال التطوير التقني والبحوث العلمية إلى المساهمة في الاستثمار في قطاع الصناعات العسكرية. ويركّز التمويل الموجه من رئاسة الصناعات الدفاعية على إنتاج وتطوير الطائرات المقاتلة والمسيّرات والمروحيات العسكرية. ومنذ عام 2005، تشارك شركات من القطاع الخاص عاملة في المجال العسكري، رئاسة الصناعات الدفاعية في إنتاج وتحديث أنواع من الأسلحة. فشركات مثل «Baykar» و«Roketsan» و«STM» و«Aselsan» تعتبر رائدة في هذا المجال، وتلعب دوراً كبيراً في انتعاش قطاع الصناعات العسكرية التركية وتحصل على الجزء الأكبر من الإحالات والعقود الممنوحة من رئاسة الصناعات العسكرية، وبالتالي تساهم في زيادة التصنيع والإنتاج المحلي من السلاح، وتحد من توريد السلاح من الخارج. ومنذ العام 2015، شهد قطاع الصناعات العسكرية التركية توسعاً كبيراً وحظى برعاية كبيرة من الدولة. كما تدفقت أموال كبيرة على هذا القطاع. وصاحب كل ذلك نمو في عدد العاملين والموظفين. كما شهدت ميزانية الانفاق العسكري السنوي زيادة كبيرة وملحوظة.
ورغم تراجع مستوى الاقتصاد التركي والتضخم الكبير الحاصل جراء السياسة النقدية الفاشلة لحكومة حزب العدالة والتنمية وحدوث حالة من الاختناق في الاقتصاد المحلي، إلا أن ذلك لم يؤثر كثيراً على سياسة الإنفاق السخي للدولة على الصناعات العسكرية أو ما يسمى في الأدبيات الرسمية «قطاع الدفاع». وتعطينا نظرة سريعة على أرقام الإنفاق العسكري التركي منذ عام 2001 فكرة عن مدى التزايد الهائل في الإنفاق ومضاعفة الميزانية لعدة مرات. ففي عام 2001، كانت ميزانية وزارة الدفاع التركية 7.22 مليار دولار. وبعد عقدين تقريباً، أي في عام 2019 وصل الإنفاق إلى 20.44 مليار دولار. وفي العام 2021، انخفض الإنفاق العسكري إلى 15.48 مليار دولار بسبب وباء كورونا. ووصل الانخفاض في 2022 إلى 10.64 مليار دولار. أما في العام التالي، أي في 2023، ارتفع الإنفاق إلى 16 مليار دولار. وينتظر أن يرتفع الإنفاق العسكري التركي نهاية العام الجاري 2024 إلى مستوى قياسي جديد يزيد عن 40 مليار دولار، أي بزيادة 150% عن العام السابق.
وأوضحت الدراسة بأن نسبة نسبة الشركات التركية في قطاع الصناعات العسكرية قد زادت وبلغت عام 2023 أكثر من 80% بعد أن كانت عام 2022 تشكل 73% من مجمل الشركات العاملة في ذلك القطاع. وازداد عدد العاملين والموظفين في قطاع الصناعات العسكرية جراء توسيع القدرات البحثية والانتاجية من 35.502 شخصاَ عام 2016، إلى 73.771 شخصاً عام 2019، ليصل العدد نهاية عام 2022 إلى 81.132 شخصاَ، وهو ما يعكس الرعاية الكبيرة التي توليها الدولة لقطاع الصناعات العسكرية وما يرتبط بها من جوانب البحث والتحسين وتطوير الانتاج. وبدأت وزارة الدفاع و«رئاسة الصناعات الدفاعية» في توظيف المهندسين المختصين في التكنولوجيا ومطوّري البرمجيات وخبراء التسويق والعمال المهرة المدربين وخريجي الكليات التقنية في الجامعات التركية، وكذلك استقطاب الكفاءات من الخارج. وهيّئت الدولة البيئة المناسبة للبحث العلمي في الشركات المختصة العاملة في قطاع الصناعات العسكرية وتطوير الأسلحة. وتم افتتاح مراكز بحث وابتكار في العديد من الجامعات التركية، وتأسيس معاهد تطوير الجوانب التقنية وآليات التحسين في كل من اسطنبول وأنقرة وبورصة وأزمير وأسكي شهر، وربط كل هذه المراكز ببعضها البعض (ضمن نظام دائري مغلق)، بغرض الاطلاع وتبادل المعلومات وعرض نتائج الابحاث العلمية.
وقالت الدراسة بأن الدولة تعمل على تقديم الشركات ومراكز الأبحاث العاملة في قطاع الصناعات العسكرية وتطوير الأسلحة بشكل جيد من خلال الترويج لها، وتقيم المعارض التجارية التي تتيح لهذه الشركات عرض منتجاتها من السلاح المتطور، خاصة المسيّرات والمروحيات، واطلاع العالم والجمهور على الصناعات العسكرية التركية، ونقل صورة للخارج عن تركيا بوصفها دولة مصنعة للسلاح ورائدة في مجال التقنية العسكرية وتطوير أبحاث التسليح. وتعمل الحكومة التركية على الاستفادة السياسية من تطوير قطاع الصناعات العسكرية، ولا تترك فرصة إلا وتشير إلى التقدم الذي شهدته هذه الصناعات في عهدها. ويجهد أردوغان شخصياً لاستثمار كل حدث أو مناسبة في الإشارة إلى إنجازات حكومته ونجاحاتها في جعل تركيا مصدرة للسلاح، ومن ذلك تدشينه أول حاملة طائرات محلية الصنع «TCG Anadolu» خلال احتفال أقيم في منطقة توزلا في أسطنبول في أبريل/نيسان 2023.

تنامي القدرة التصديرية

وفق الدراسة فإن تركيا تهدف إلى تحويل الإنتاج العسكري إلى مصدر من مصادر الدخل. ويعتبر هذا الطموح من أولويات الحكومة الحالية. ومن ينظر إلى تطور الصناعات العسكرية التركية، سيلاحظ التقدم في عالم تصدير الأسلحة، وإن كان تقدماً كمياً وليس نوعياً. فقبل عقد من الزمن، كانت الصادرات التركية من السلاح لا تتجاوز الملياري دولار. أما في عام 2022، فقد ارتفع حجم الصادرات إلى 4.4 مليار دولار. ووصلت الصادرات بعد عام، أي في نهاية 2023، إلى مستوى قياسي بلغ 5.5 مليار دولار، أي بزيادة قدرها 27% مقارنة بالعام السابق. والحال، أن الزيادة الواضحة في الصادرات جاءت نتيجة تمكّن تركيا من فتح أسواق جديدة كانت مغلقة أمامها قبل عقد من الزمن. وتعتمد الشركات التركية المصنعة للسلاح مثل «Baykar» و«Roketsan» و«STM» و«Aselsan» و«TAI» على بيع منتجاتها في القارة الأفريقية وفي آسيا (بما في ذلك تايوان)، وفي بلدان أميركا الجنوبية. وتتمتع منتجات هذه الشركات بمكانة عالمية جيدة، كما إنها أثبتت فعالية في مناطق الصراعات، وثبت أن لديها قدرات تنافسية جيدة من حيث أسعارها المنخفضة بالمقارنة مع السلاح الغربي مثلاً. ولا تفرض الحكومة التركية أي قيود على تصدير الأسلحة، وعادة ما تربط بين صادرات السلاح إلى مناطق النزاعات وبين مصالحها السياسية والاستراتيجية فيها، وهذا يعني أن حلفاء حكومة حزب العدالة والتنمية لهم الأولوية في الحصول على منتجات الصناعات العسكرية التركية. كما ويضع الحزب الحاكم وأردوغان هدف تحويل تركيا إلى قوة عسكرية مصدّرة للسلاح قادرة على تغطية دول الجنوب ومناطق الأزمات والصراعات فيها، مع الأخذ بعين الاعتبار التوازنات والالتزامات التي يضعها الشركاء في حلف الناتو. وتمثل المسيّرات من نوع «Bayraktar – TB2» التي تصنعها شركة «Baykar» التركية النوع الأكثر مبيعاً في الأسواق المحلية لأكثر من 30 دولة، منها دول في حلف الناتو مثل ألبانيا وبولندا ورومانيا، وأخرى عربية مثل الكويت والسعودية (أبرمت أنقرة صفقة ضخمة معها بلغت قيمتها 3.1 مليار دولار).
وتعد مجموعة «Baykar» أكبر مصدّر للأسلحة في تركيا عام 2023، وبلغت صادراتها 1.76 مليار دولار. وارتفعت ايراداتها 94% من عام 2021 إلى عام 2022. ومن علامات تطوّر قطاع الصناعات العسكرية التركية، إدراج معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام عام 2022 أربعة شركات تصنيع سلاح تركية هي «Baykar» و«Roketsan» و«Aselsan» و«TAI» على قائمة 100 أفضل شركة دفاعية في العالم. وبلغ إجمالي إيرادات الشركات الأربع 5.5 مليار دولار، أي بزيادة 22% عن العام الذي سبقه 2021.
وتبقى هناك حقيقة وهي أن الصناعات العسكرية التركية مازالت قاصرة عن التصنيع الثقيل وتحقيق التقنية المتقدمة والجودة العالية القادرة على المنافسة في الأسواق العالمية. لا يمكن مقارنة التصنيع العسكري التركي بالقدرات الأميركية أو الصينية أو الروسية بأي حال من الأحوال. تركيا ليست ناضجة بالقدر الذي تستطيع فيه منافسة هذه الدول في مجال الصناعات العسكرية وتطوير برامج وأنظمة الأسلحة. والواضح أن الهدف يبقى تحقيق الاكتفاء الذاتي، وليس المنافسة في السوق الدولية من خلال التصدير ومزاحمة أنظمة السلاح الغربية والروسية خاصة. ومازالت الشركات التركية العاملة في قطاع التصنيع العسكري، كمثيلاتها الأوروبية، تعتمد على الواردات، خاصة في ما يتعلق بشراء الرقائق الالكترونية وأشباه الموصلات «Semiconductors» التي تشتريها من الشركات الأجنبية الرائدة في عالم تكنولوجيا السلاح. ومن الواضح أيضاً بأن الحديث عن قدرة تركيا في تصدير السلاح والتحول لرقم عالمي في هذا المضمار، كلام مبالغ فيه على ضوء الحقائق الملموسة في اعتماد الصناعات العسكرية التركية على المواد الخام الواردة من الخارج، وعجزها عن تحقيق الاكتفاء الذاتي. ومع وجود روسيا كشريك أساسي لا غنى عنه في إمداد تركيا بالطاقة، يبقى الحديث عن تحقيق «الاكتفاء الذاتي» شعاراً كبيراً يدحضه واقع الاعتماد على الخارج والتبعية له احياناً.

التعاون مع الشركاء في الناتو

تشير الدراسة إلى أهمية بقاء التعاون العسكري التركي مع حلف الناتو، وتعتبر هذا التعاون لا غنى عنه في تطبيق أنقرة لبرامجها العسكرية. ورغم أن حكومة العدالة والتنمية توحي بالاستقلالية والاعتماد على النفس عبر توسيع الصناعات العسكرية لتحقيق الاكتفاء الذاتي والتحول لعنوان رئيسي في عالم تصدير السلاح وتقنيته، إلا أن الواقع يقول بأن التعاون العسكري مع الشركاء في حلف الناتو يزداد ويترسخ. ومن ذلك، تفعيل تركيا لعدة اتفاقيات حول مشاريع أمنية ودفاعية مع عدد من الدول ضمن برامج دفاعات الحلف، ومن أبرز تلك المشاريع برنامج «Nato-Intel-FS2-Project»، والذي حصلت فيه شركة «STM» التركية على صفقة تطوير البرنامج الكامل للبنية التحتية للاستطلاع في منظومة الحلف. كما تشترك تركيا مع 23 دولة أخرى عضو في الحلف في تمويل صندوق دعم الشركات العاملة في قطاع الصناعات العسكرية (رأس ماله مليار دولار)، ورفده بالتمويل اللازم للبحث والابتكار وإدخال التحسينات على بعض صنوف الأسلحة. وتمخضت زيارة الرئيس التركي لألمانيا في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023 عن تفاهم مبدئي لم يعلن عنه في حينه حول شراء أنقرة 40 طائرة مقاتلة من طراز «Eurofighter Typhoon» وتصنعّها شركة تعود ملكيتها لكل من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا واسبانيا. ووافقت كل من اسبانيا وبريطانيا على بيع الطائرات لتركيا، في ما تزال موافقة برلين وروما معلّقة. ومؤخراً، وافقت الولايات المتحدة على طلب تقدمت به تركيا عام 2021 لشراء 40 طائرة مقاتلة من طراز «F16»، قيمتها الاجمالية 23 مليار دولار. أما ألمانيا، فرغم أن صادرتها الاجمالية من السلاح عام 2023 بلغت 11.71 مليار دولار، إلا أن حكومة الائتلاف الحاكم في برلين لم توافق إلا على بيع معدات دفاعية إلى تركيا بقيمة مائة وأثنين وعشرين مليون يورو فقط، رغم الضغوط التي تتعرض لها برلين من شركائها في الناتو.
الواضح أن التعاون العسكري التركي مع الحلفاء في الناتو قد تعرض إلى انتكاسة بعد قرار الحكومة التركية عام 2019 شراء منظومة الصواريخ «S-400» من روسيا. واعتبرت الولايات المتحدة تلك الصفقة إهانة لها وللحلف، واتخذت مجموعة من العقوبات طالت قطاع الصناعات العسكرية التركية، وكبّدت الشركات العاملة في ذلك القطاع خسائر مالية كبيرة. ومن أهم تلك العقوبات، استبعاد الشركات الدفاعية التركية من برناج تطوير الطائرة المقاتلة «F-35» ومع ذلك، واصلت الحكومة التركية علاقاتها العسكرية مع روسيا، وحاولت أن تشرعنها في إطار التعاون الأشمل في مجال الطاقة، وهو موقف يشذ عن موقف بقية الحلفاء، وينبع من محاولة أردوغان ونظامه اتخاذ موقف مغاير تجاه روسيا يرفض العقوبات الأوروبية عليها ويتمسك بالتعاون الثنائي، مستفيدة من الاغراءات والحوافز الروسية المقدمة للدول التي ترفض حصار موسكو وتصر على التعاون الاقتصادي والعسكري معها. كما أن هناك دلائل تشير إلى سعي الحكومة التركية شراء عدد من الطائرات المقاتلة من نوع «JF-17 Thunder» وهي إنتاج باكستاني ـ صيني مشترك.
كل الدلائل تشير إلى أن استراتيجية الدولة التركية في دعم التصنيع العسكري المحلي وتوسيع البحث العلمي في مجال صنع السلاح وإدخال التحسينات عليه، قد تعززت بعد وقوع الغزو الروسي لأوكرانيا. ورأت الشركات التركية المصنعة للأسلحة الخفيفة (السريعة التجهيز والشحن) بأن الحرب في أوكرانيا فرصة لزيادة إنتاجها والتسويق لمنتجاتها في ظل حاجة جبهة الحرب في أوكرانيا للسلاح والذخيرة. وكانت الشركات التركية أبرمت العديد من الاتفاقيات مع الشركات الأوكرانية حتى قبل وقوع الغزو الروسي. ومن ضمن هذه الاتفاقيات، بناء طرادات من طراز «Ada» لصالح البحرية الأوكرانية، وتزويد كييف بمحطات توليد طاقة مثبتة على السفن. ويبقى التعاون الأكبر في مجال إمداد الجيش الأوكراني بأعداد كبيرة من المسيّرات التركية من نوع «Bayraktar TB2» للتصدي للتقدم البري الروسي عبر استهداف خطوط الإمداد بشكل خاص. ورغم أن التعاون العسكري التركي مع أوكرانيا يغضب روسيا ويقوّي الأصوات المؤيدة لتركيا ودورها داخل الناتو، إلا أن سياسة الحكومة التركية المتعلقة بتصدير السلاح تقوم على خلق تحالفات جديدة وكسب المزيد من الأسواق في كل العالم، دون التقيّد بعقيدة الحلف في حرمان الخصوم من السلاح. الهدف هو خلق نوع من التنوع في الأسواق المستقبلة للسلاح التركي بما يحقق الاستراتيجية التركية في جعل السلاح التركي ماركة مسجلة وتحويل تركيا لمصدّر عالمي للسلاح وكسب الثقة في هذا المجال. وترى تركيا في أسواق مثل السعودية وتايوان والصين ساحة لصرف بضائعها وكسب مليارات الدولارات، بغض النظر عن موقف الناتو من هذه الدول.

التصنيع العسكري وأزمة التضخم

تحاول الحكومة التركية أن تبقي قطاع الصناعات العسكرية في منأى عن الأزمة الاقتصادية وتراجع الليرة والتضخم المستمر. وتتوجه الحكومة، ومنذ أكثر من عشرة أعوام، إلى توطيد شبكة التعاون في التمويل والبحث العلمي وتوفير كافة متطلبات الانتاج، بغية ربط الشركات العسكرية والمدنية لتطوير عملها وضمان نجاحها في إيجاد سوق مصنعة قادرة على التنافس والابتكار. وتساعد الطلبات الكثيرة على أنواع محددة من السلاح المصنع في تركيا على جعل قطاع الصناعات العسكرية التركية منتعشاً وقادراً على الصمود والتوسع. وأسفر الدعم السياسي والعناية الخاصة لهذا القطاع في ترسيخ أقدام الشركات التركية المعروفة مثل «Baykar» و«Roketsan» و«STM» و«Aselsan» و«TAI» والتي باتت تتمتع الآن بقدرات تصنيع مرنة وطلبات توريد كثيرة وسوق مستقرة متعطشة إلى المزيد من المنتجات العسكرية المصنعة في تركيا. ولعل الرغبة التركية في جعل الصناعات العسكرية سلعة استراتيجية وورقة قوة بيد الدولة، ساهمت في تشكيل السياسة الخارجية التركية، حيث زادت التدخلات العسكرية المباشرة والمستمرة في العديد من الدول التي تشهد اضطرابات وحروباً أهلية مثل سوريا والعراق وليبيا. ورأت الحكومة التركية في انفجار الصراعات الداخلية وضعف الدولة المركزية وتعدد الولاءات، فرصة لإغراق مثل هذه الدول بالسلاح التركي وتجربته ميدانياً، مع فرض حضور عسكري تركي يشرف على أسواق الصرف وميادين وساحات اختبار السلاح التركي.
لا شك إن أنقرة تحاول استغلال كل ظرف ومستجد للرفع من سوية التصنيع العسكري والترويج لسلعها من الإنتاج الحربي في كل العالم، وتركّز على مناطق الصراعات حيث الاستعمال غير المنضبط للسلاح، وغياب القدرة على التحقق من كفاءة وفاعلية المصنوعات العسكرية التركية. ولكن تبقى القدرات العسكرية التركية متواضعة أمام الإنتاج المتقدم والنوعي والثقيل للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. ما تزال القدرات العسكرية التركية، من حيث التصنيع والتأثير، متواضعة بالمقارنة من الشركاء في حلف الناتو. ويسعى الشركاء إلى تقييد القدرات التركية التي من شأنها تهديد الاستقرار في البحر الأبيض المتوسط وتهديد كل من اليونان وقبرص بشكل خاص. ومن هنا، جاء الشرط الذي فرضته الحكومة الأميركية على أنقرة مؤخراً للموافقة على بيع 40 طائرة من نوع «F16» وهو أن تتعهد بعدم استخدام هذه الطائرات في انتهاك المجال الجوي للجزر اليونانية، وأن تكف عن استفزاز أثينا. وفي الوقت نفسه، يستمر الأميركيون والأوروبيون في دعم الحكومة اليونانية والموافقة على ما تطلبه من أسلحة متطورة لاحتواء التهديد التركي وردع أنقرة. وتدرس الحكومة الفرنسية حالياً طلباً تقدمت به الحكومة اليونانية عام 2022 لشراء مقاتلات فرنسية من طراز «Dassault Rafale»، كما حدث اتفاق بين أثينا وواشنطن على منح اليونان 40 مقاتلة شبح من طراز«F-35» ، وهذه الصفقات سوف تؤثر في زعزعة الهيمنة التركية على المجال الجوي الإقليمي، وتحد من القدرات الجوية التركية حيال اليونان في شرق البحر الأبيض المتوسط على المدى المنظور. وكان التقرير الصادر عن المفوضية الأوروبية، الذي نشر نهاية عام 2023، قد أشار إلى أن سياسة تركيا لا تتوافق إلا في 10% مع أهداف ومساعي السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية، بالإضافة إلى حالة عدم الارتياح التي خلقها الموقف التركي في استخدام حق النقض لاستبعاد قبرص، العضو في الاتحاد الأوروبي، من كافة الأشكال الممكنة للتعاون في مجال السياسة الدفاعية بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
تشير الاجراءات الأوروبية والأميركية تجاه تركيا إلى وجود حالة من اللاثقة والشك، تظهر في دعم الناتو الكبير لليونان وقبرص عسكرياً والانحياز لهما في الأزمات المتجددة بينهما وبين تركيا. ومن الجانب الأوروبي، لا يبدو أن هناك أي تهاون قد يطرأ في الموقف تجاه تركيا في ما يخص أي تأثير سلبي مستقبلي لها على الأمن والاستقرار في القارة الأوروبية. وثمة رغبة قوية في تقييد تركيا وإلزامها بالعقوبات المفروضة على روسيا، وضرورة أن تمتثل لها بشكل تام. وكذلك، هناك توجه أوروبي في تحميل أنقرة مسؤولية ما ينتج عن تدخلاتها العسكرية في العديد من مناطق النزاعات (سوريا وأرمينيا وليبيا) ، وهو ما تراه أوروبا يؤثر سلباً في المساعي المبذولة لتحقيق الحلول السياسية وفرض الاستقرار ومحاربة الإرهاب ومنع الهجرة. ويبقى هناك ميل أوروبي واضح لإدماج أنقرة في السياسة الدفاعية الأوروبية، كبديل يثنيها عن توجهها نحو الاستقلالية المتوجة بالقوة العسكرية، والتي باتت حكومة حزب العدالة والتنمية ترى فيها استراتيجية بعيدة المدى ولا غنى عنها.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد