د.محمد نورالدين
ظهرت خلال حقبة حزب العدالة والتنمية في تركيا مصطلحات متعددة تحاول أن تعكس العناوين الأساسية في سياسة تركيا الخارجية. من ذلك على سبيل المثال مصطلح “صفر مشاكل” الذي أطلقه أحمد داود أوغلو مذ كان مستشاراً لكل من رئيس الوزراء ووزير الخارجية، وقبل أن يصبح هو نفسه وزيراً للخارجية عام 2009 فرئيساً للوزراء بل رئيساً لحزب العدالة والتنمية نفسه عام 2014، خلفاً لزعيمه الدائم رجب طيب أردوغان الذي أصبح رئيساً للجمهورية ذلك الحين. وقد أراد داود أوغلو من إطلاق هذا المصطلح أن يدلل على أن تركيا بصدد اتباع سياسات مصالحة مع كل الدول، تمكنها من القيام بأدوار مختلفة مثل “الدور الوسيط” في النزاعات الإقليمية بل داخل كل بلد أحياناً.
وقد نجحت هذه السياسة، والمصطلحات، لبعض الوقت وصولاً للعام 2011 تاريخ انفجار ما سمّي بـ “الربيع العربي”. ومن بعد ذلك دخلت تركيا، بخلافها مع مصر والسعودية والإمارات بسبب دعمها حركة الإخوان المسلمين، كما بعد خلافها مع الولايات المتحدة ومحاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، في ما سمي بـ “العزلة الثمينة” للدلالة على عزلة تركيا الإقليمية والدولية، على الرغم من زعمها أنها تضحي بعلاقاتها مع الأنظمة لصالح مساندة “الشعوب المظلومة”.
إلى ذلك ظهر مصطلح على غرار “الوطن الأزرق”، والذي يهدف إلى منع اليونان وقبرص الجنوبية من ترسيم حدود مناطقها الاقتصادية الخالصة في المتوسط وفقاً لاتفاقية أعالي البحار عام 1982 وبما يحول دون تحويل المتوسط إلى بحيرة يونانية- قبرصية. مصطلح “الوطن الأزرق” كان تبريراً للتدخل التركي في شرق المتوسط وصولاً إلى ليبيا ومنع الدول شرق متوسطية من مصر وإسرائيل وقبرص واليونان ومعهم الأردن والسلطة الفلسطينية، من الاستفراد بتركيا واستبعادها من الاستفادة من الثروات الطبيعية المكتشفة في شرق المتوسط، وبالتالي الحيلولة دون أن تكون شريكاً في خطوط نقل الطاقة وتوزيعها.
وبعد بدء المغامرات العسكرية في سوريا والعراق بعد العام 2016 ظهرت على السطح تعابير مبتكرة لمواكبة الحملات الجديدة مثل استعادة حدود “الميثاق الملّي” ومن ثم “منع إقامة ممر كردي” في شمال سوريا والعراق. ومؤخراً كان إطلاق الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مصطلح “إرهابستان” للدلالة على المناطق الشمالية من سوريا (الإدارة الذاتية) والعراق (إقليم كردستان) حيث يتواجد مقاتلو حزب العمال الكردستاني والحركة الكردية عموماً، متوعداً بعدم السماح بإقامة دولة “إرهابية” – على حد تعبيره – على حدود تركيا الجنوبية.
عندما فشلت سياسات تركيا في التمدد وواجهت العزلة وتراجعت المؤشرات الاقتصادية بما قد يلحق الضرر حتى باحتمالات بقاء حزب العدالة نفسه في السلطة كان الدور بطبيعة الحال يواجه ضموراً في العديد من المجالات. فكانت المصطلحات تتبدل مع تبدل السياسات. من دون أن ننسى أن تغيير التكتيكات لم يكن يعني التخلي عن الثوابت “العميقة” المتمثلة في:
1- ترسيخ سيطرة “الطرح القومي- الديني” في الداخل بما يعني عدم الرغبة في الاعتراف بالهوية الكردية وبالتالي معارضة أي حل عملي للقضية الكردية، ولا حل المشكلات الناتجة عن عدم الاعتراف بمطالب الكتلة العلوية على سبيل المثال وهلم جراً.
2- الانتماء لحلف شمال الأطلسي (الناتو) والرضوخ طوعاً أو عنوةً لمطالب الحلف وآخرها انضمام فنلندا والسويد رغم أنها تشكل تهديداً مباشراً لروسيا التي دخلت تركيا معها في السنوات الأخيرة في علاقات قوية.
3- الإبقاء على خطوط التواصل مع الغرب وإسرائيل لمواجهة القوى ذات “الطبيعة” الغربية مثل أرمينيا واليونان وقبرص، فضلاً عن القوى التي يعتبرها الطرفان التركي والغربي – الإسرائيلي أعداء، مثل سوريا.
4- استخدام “العلاقات المشرقية” كورقة لمواجهة الضغوط الغربية، ومن أجل توظيفها لمصالح استراتيجية تركية في سوريا والعراق والقوقاز.
5- وفي سياق كل هذه الأهداف يتصدر حرص الرئيس التركي البقاء في السلطة أولوياته القصوى نظراً لما قد ينعكس على خروجه منها من تداعيات سلبية على واقع الحركة الإسلامية في تركيا وعلى السياسات العثمانية لحزب العدالة والتنمية في المنطقة ككل.
وعلى قاعدة ميكيافيللي “الغاية تبرر الوسيلة” اتبع حزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة سياسات أقل ما يقال فيها أنها تتصف بالازدواجية والالتفاف على الشعارات الكبرى من اجل التعويض على الدور الذي بدأ يتقلص في السنوات الأخيرة بل توسل البحث عن دور جديد يبقي أردوغان “في الصورة”.
بدأ مسار الانقلابات على الشعارات من التوجه للمصالحة أولا مع الإمارات العربية المتحدة والتخلي عن اتهامها بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة في العام 2016 مع تدفق الدعم المالي الإماراتي لتركيا. فتبادل مسؤولو البلدين الزيارات وعفا الله عما مضى. ومن ثم كانت المصالحة مع السعودية وذهاب أنقرة إلى “لفلفة” مسألة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في اسطنبول في العام 2018. وإذ اتخذت أنقرة من الحادثة قميص عثمان وطفقت في اكبر حملة تشهير ضد الرياض ولا سيما ولي العهد محمد بن سلمان، كانت بعد أقل من أربع سنوات تطوي ملف خاشقجي القضائي بتسليمه كاملاً إلى الرياض مقابل دعم مالي لتركيا من أجل تحصين الظروف المالية لليرة التركية وتحسين وضع حزب العدالة والتنمية عشية الانتخابات النيابية والرئاسية التي كانت ستحصل في مايو/ أيار 2023.
ولم تختلف دوافع المصالحة مع إسرائيل عن الرغبة في تطبيع العلاقات معها كي تكون تل أبيب باباً لإقناع الولايات المتحدة بتخفيف الضغوط الإقتصادية على تركيا وصولاً إلى وصف بعض عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية بأنها “إرهابية وشنيعة”.
وما لفت في الآونة الأخيرة أنه بعدما بدأت عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول وما تلاها من حرب اسرائيلية على غزة، فقد اتبعت تركيا في الأيام العشرين الأولى من الأحداث موقفاً “حيادياً” رغم تقاطعها الإيديولوجي مع حركة “حماس”. وكان واضحاً أن أردوغان لا يريد التفريط بما تحقق من خطوات تطبيع مع اسرائيل واستمرت السفن التركية تصل بمعدل 8 سفن يوميا محملة بالحديد والفولاذ وكل أنواع المنتجات والمواد الغذائية.
الاستمرار في كسب مودة إسرائيل تزامن مع تصعيد نظري تركيا ضد تل أبيب من أجل كسب الشارع التركي كي لا يرى في أردوغان “خائناً” للقضية الفلسطينية، فوقف الرئيس التركي على الحافة بين انتقاد نتنياهو وبين الاستمرار في التواصل عبر مسؤولين آخرين مع الإسرائيليين.
وبدا من النهج الذي اتبعته تركيا بانتقاد إسرائيل – لكن في استمرار التصدير إليها وعدم قطع العلاقات الدبلوماسية أو تخفيضها – أنها “تتوسل” دوراً في أحداث غزة ولا سيما مع الاقتراب من نهايات الحرب حيث رفع أردوغان منذ اللحظة الأوى للحرب اقتراح أن تكون تركيا من الدول الضامنة لأي اتفاق هدنة بين حركة حماس وإسرائيل، وهذا ما فعلته حركة حماس عندما اقترحت مؤخراً أن تكون كل من تركيا ومصر وقطر وروسيا دولاً ضامنة لأي اتفاق تبادل للأسرى أو وقف للعمليات العسكرية. لكن رضى إسرائيل وموافقتها على مثل هذا الدور “الضامن” لتركيا في أي ترتيبات مستقبلية بين إسرائيل وحماس، أكثر من ضروري ليكون لتركيا ولو “شبح دور” في الأزمة.
وفي استطراد لتلافي المزيد من التهميش للدور التركي في المنطقة في الآونة الأخيرة، ولأن الرضا الإسرائيلي وحده غير كافٍ، حاولت تركيا أن تقدم أيضاً أوراق اعتمادها لنيل الرضا الأميركي من خلال تصويت برلمانها على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي مقابل وعود بيعها طائرات إف 16 وترميم عدد آخر منها. وبما أن شراء تركيا لهذه الطائرات، التي ستستعملها حتماً للقيام بغارات على أهدف كردية في سوريا والعراق، ليس بالمكسب المهم قياساً إلى الأهمية الكبيرة جداً لانضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي، فإن أنقرة ربما تهدف من وراء الموافقة على عضوية السويد الأطلسية، أن تحصل على بركة واشنطن في أن يكون لها دور مهما كان ضئيلاً في أي تفاهمات بين إسرائيل وحماس.
كذلك فإن الحركة التركية تجاه بعض الخارج المنتمي للجبهة “الأخرى” تتواصل بحثاً عن أدوار محتملة. من ذلك زيارة أردوغان إلى مصر، التي تمت في الرابع عشر من شهر فبراير/ شباط الجاري، ولقاء الرئيس عبدالفتاح السياسي الذي كان قد رفض مراراً أن يكون هو البادئ في زيارة تركيا، ليأتي أردوغان “صاغراً” عند السيسي في القاهرة، ولتكون هذه الزيارة باباً لمشاركة تركيا في تطورات المنطقة.وفي سياق الحدث نفسه كان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان يصل إلى طرابلس الغرب في ليبيا ويلتقي مع رئيس حكومة الاتحاد الوطني عبد الحميد دبيبة. لكن الأهم هنا أن تركيا التي طالما اعتبرت اللواء خليفة حفتر قائد الجيش الليبي في المنطقة الشرقية إرهابياً، وهو الذي يحظى بدعم مصر والسعودية والإمارات، أعلنت على لسان فيدان نفسه أنها ستفتح قنصلية في بنغازي عاصمة المناطق المتمردة على طرابلس والتي يسيطر عليها اللواء خليفة حفتر. وهذا يعتبر بطبيعة الحال “تنازلاً” تركيا كبيراً، ويمكن أن يفسّر على أنه خطوة أخرى للتطبيع مع القوى المحسوبة على الغرب من السعودية إلى مصر.
كذلك كان لافتاً “الحج الجماعي” التركي إلى بغداد وإقليم كردستان حيث زارهما وزيرالدفاع التركي ياشار غولر ورئيس الأركان متين غوراق، والتي صادفت بعد الهجمات الإيرانية على مراكز في اقليم كردستان قرب أربيل. أيضاً كان إبراهيم كالين رئيس الاستخبارات التركية يقوم بسلسة لقاءات لافتة بدأت في 23 يناير/ كانون الثاني في بغداد ولقاءات مع المسؤولين الحكوميين ومن ثم إلى أربيل في 28 من الشهر نفسه، ولقائه مع رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني. وفي الثالث من فبراير/ شباط كان كالين يلتقي في الدوحة، عاصمة قطر، مع إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس.
ومع أن زيارات المسؤولين الأتراك إلى بغداد وأربيل مرتبطة مباشرة بالعمليات الكبيرة التي قام بها حزب العمال الكردستاني على قواعد عسكرية تركيا في إقليم كردستان غير أن الإعلان عن زيارات كالين في بيانات رسمية يبدو جديداً ويهدف إلى “إشعار” الأصدقاء والأعداء في المنطقة والعالم على حد سواء، أن تركيا موجودة في “الصورة” ولا يمكن تجاهلها.
لا يختلف أحد على أن تركيا قوة عسكرية واقتصادية كبيرة ولا يمكن تجاهلها في أي تسويات تطال المنطقة ككل. ومع ذلك فإن تطورات الأحداث في الأشهر الأخيرة أظهرت تراجعاً في أداء الدور التركي إقليمياً ودولياً، وعجزاً عن التأثير في مجرياته وخصوصاً في غزة، كما أظهرت سعياً حثيثاً يقارب حد التوسل من أجل أن يكون لتركيا “دور ما” بطريقة أو بأخرى في أحداث المنطقة بدءاً، هذه المرة، من غزة. وعلى الرغم من كل الاحتمالات، فليس من شيء مضمون ولا محسوم أن تُعطى تركيا مثل هذا الدور الذي، مع ذلك، لن يغير من حقيقة أن تركيا تواجه ضموراً في أدوارها في معظم ملفات المنطقة وخلاف ما كانت عليه قبل 15-20 سنة على سبيل المثال.