استراتيجية تركيا في سوريا والعراق: بين معاداة الكرد و”الميثاق الملّي”

د.محمد نورالدين
بعد أقل من شهر من هجوم حزب العمال الكردستاني على قاعدة “خاكورك” التركية في المنطقة الجبلية بإقليم كردستان العراق ومقتل 12 جندياً على الأقل في 23 كانون الأول 2023، تكرر السيناريو نفسه في هجوم آخر شنه مقاتلو “الكردستاني” على قاعدة عسكرية تركية أخرى في منطقة “متينا”، على مقربة من القاعدة السابقة، في 12 كانون الثاني 2024.
في المرة الأولى، رفض حزب الشعب الجمهوري بزعامة أوزغور أوزيل، التوقيع على بيان من بعض أحزاب البرلمان بإدانه الهجوم و”لعن الإرهاب”، إذ طالب مسبقا بالتحقيق في ما جرى وتحديد المسؤوليات حتى لا يستغل حزب العدالة والتنمية بيانات مشابهة ضد “الإرهاب” في معارك سياسية داخلية ولا سيما أن الانتخابات البلدية على الأبواب.
ذلك أن تكرار الهجمات الكردية ضد الجيش التركي وفي المكان نفسه تقريباً والظروف المناخية الصعبة نفسها طرح تساؤلات تتجاوز ظروف العملية إلى الهدف الحقيقي والنهائي من التواجد/ التدخل التركي في إقليم كردستان العراق وهو ما ورد في سلسلة أسئلة رفعها حزب الشعب الجمهوري إلى الحكومة بشأن أهداف تركيا هناك وماذا تحقق منها وماذا لم يتحقق ولماذا تكرر الهجوم ومن يتحمل مسؤولية الإخفاقات.
ردة فعل الحكومة التركية على عملية متينا كانت غارات واسعة على عدد كبير من الأهداف زعمت أنقرة أنها تابعة لحزب العمال الكردستاني في كردستان العراق و”امتداداته” في شمال سوريا. غير أن ما جرى كشف عن استهداف واسع وتدمير لمحطات كهرباء ومياه ومصافي نفط ومعامل اسمنت، بحيث انقطعت الكهرباء والمياه عن عشرات المدن ومئات القرى ولا سيما في شمال سوريا.وقد طرح هجوما الكردستاني العديد من التساؤلات عن طبيعة التدخل التركي في العراق وسوريا وأهدافه واحتمالات استمراره.
في المطالعة التي قدمها وزيرا الدفاع التركي ياشار غولر، والخارجية حقان فيدان، أمام البرلمان، في افتتاح دورته الشتوية في 16 كانون الأول/يناير 2024 إفشاء لجانب من النوايا، المعروفة أساساً، من وراء هذه العمليات ومن وراء القصد من التدخلات في العراق وسوريا. قال غولر “إنهم يسألون ماذا نفعل في سوريا والعراق؟ لكن هذه الانتقادات لنا ناتجة عن جهل وعدم معرفة بما نفعل على الأرض”. وقال “إن محاربة الارهاب لا تكون داخل الأراضي التركية بل بضرب منابعه حيثما يكون”. وتابع: “لو لم نكن في سوريا والعراق لكان الإرهاب يضرب على حدودنا وفي مدننا ولكنّا ندفع ثمناً أكبر.اليوم ليس من قتيل واحد منا يسقط داخل تركيا والهجمات على قواعدنا في الخارج دليل على نجاح استراتيجيتنا”. وبعد شرح مستفيض أنهى غولر كلامه بالقول: “أيا يكن داعمو الارهاب ومهما كانت حججهم فلن نسمح قطعاً أن يقيمواً على امتداد حدودنا الجنوبية ممراً للإرهاب”.
ثم تحدث وزير الخارجية حقان فيدان، فكرر ما كان قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد عملية متينا، من عدم السماح بإقامة ما أسماه “إرهابستان” وهذا هو “خطنا الأحمر”.
تستوقف إحاطات وزيري الدفاع والخارجية، المتابعين للحركة التركية في العراق وسوريا في أكثر من قضية. الأولى أن محاربة “الإرهاب” في الخارج هي ضرورية لمنع انفجاره في الداخل. أما الثانية فهو أن تركيا ترفض نشوء “ممر إرهابي” على حدودها في سوريا والعراق.
لا تزال تركيا تنظر إلى القضية الكردية على أنها مشكلة أمنية. وربما كان على تركيا أن تتذكر مع دخول العام 2024 أنه يكون مر على بداية أول طلقة كردية (15 آب / أغسطس 1984) ضد الجيش التركي أربعون عاماً بالكامل وأنه على الرغم من آلاف الضحايا والخسائر من كل الأطراف فإن تركيا لم تحاول ولا مرة بشكل جدي مقاربة الملف الكردي كونه ملفاً يتعلق بمطالب جوهرية لها علاقة بالوجود الكردي والهوية الكردية. ولو افترضنا أن الكرد مارسوا “الإرهاب” ضد الأتراك فإن حزب العمال الكردستاني ولا سيما بعد اعتقال زعيمه عبدالله أوجالان عام 1999 أوقف النار من جانب واحد وفي أكثر من مناسبة، لسنوات عديدة لم تقابله الدولة بأي مشروع جدي. حتى اتفاق “دولمه باهتشه” الذي تم التوصل اليه في شباط/فبراير 2015 بين ممثلي حزب الشعوب الديموقراطي الكردي ووزراء في الحكومة التركية والذي نظر إليه على أنه محاولة “معقولة” لبداية حل القضية، انقلب عليه أردوغان بعد ثلاثة أشهر فقط عندما وجد أن مثل هذا الاتفاق يخسّره أصواتاً كثيرة وهذا ما فعله حين اعتبر الاتفاق عشية انتخابات 7 حزيران/يونيو 2015 غير موجود. وحين خسر تلك الانتخابات أبطلها من خلال المحكمة الدستورية وأعادها بعد خمسة أشهر في تشرين الثاني/ نوفمبر ويفوز بها، لكن ذلك كان بالقمع والقتل بحق الكرد وتدمير أحياء كاملة في مدن كردية متعددة وتفجيرات في تجمعات كردية ومنها في أنقرة.
كانت الدولة مصرة على محاولة محو الوجود السياسي الكردي في الداخل من خلال اعتقال النواب الأكراد وسجنهم وحرمانهم من العمل السياسي، كما هو الحال مثالاً لا حصراً، الزج بزعيم الحزب صلاح الدين ديميرطاش في سجن أدرنه منذ سبع سنوات. كذلك توجيه التهم لرؤساء البلديات الكرد وإقالتهم ورميهم في السجون وتعيين موالين للسلطة بدلا منهم. كذلك تعمل الدولة على ممارسة الإرهاب على الأحزاب السياسية التي تحاول التحالف مع الأحزب الكردية في الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية منها والنيابية والبلدية. واعتبرت كل من يتعاون مع حزب الشعوب الديموقراطي (والآن بديله حزب الشعوب للديموقراطية والمساواة) إرهابياً.
إن محو الوجود الكردي في تركيا وإعادته في كل مرة ينهض فيها، إلى نقطة الصفر، هو الاستراتيجية الفعلية للنخبة القومية – المذهبية العنصرية في تركيا. ولكن هذا ليس سوى الوجه الأول من الميدالية المقيتة.
في المقلب الآخر كانت أنقرة ترى ولا تزال إلى تواجد “الإرهابيين” على حدودها الجنوبية بمثابة فرصة وذريعة لتحقيق أهداف تتصل بالتطلعات التركية خارج حدودها. وقد جاءت أحداث ما سمي بـ “الربيع العربي” وانكشاف الساحة السورية، فالعراقية، فرصة للتغلغل من بين سطور الأزمة للقيام بعمليات مسلحة بدءاً من العام 2016 وتدرجت إلى احتلال لمناطق غربي الفرات وإدلب وصولاً إلى احتلال أجزاء واسعة من شرق الفرات في العام 2019 ما بين تل أبيض و(سري كانيه) رأس العين.
في الوقت نفسه كانت العين لا ترفع عن الوضع في إقليم كردستان العراق انطلاقا من كلام غولر من أنه لو لم نكن موجودين في سوريا والعراق لكان الإرهاب يضرب على حدودنا وفي الداخل.
لكن هذا المنطق يناقض نفسه (وهو في الواقع يتكامل معه) عندما تحدث وزير الدفاع التركي في 17 كانون الأول/ديسمبر من ان تركيا يمكن ان تنسحب من سوريا (هو لم يتحدث عن الانسحاب بل قال “سنقوم بما علينا”) بعد أن تكون جرت في سوريا انتخابات حرة واعتماد دستور جديد ومن ثم ضمان الأمن الحدودي.
ومثل هذا الكلام يفضح تفكير النخبة التركية في كونها لا تريد الانسحاب من سوريا، لأن مثل هذه المطالب في ظل الظروف الحالية والمنظورة هي شروط تعجيزية. كما إنها قبل أي شيء تدخل في الشأن الداخلي السوري. فليس لتركيا أو أي بلد آخر أن يحدد للسوريين ما يفعلونه سواء بالنسبة للدستور أو الانتخابات او حتى أي شكل من أشكال الإدارة سواء كانت مركزية أو ذاتية أو حتى فدرالية. ونسأل هنا لماذا لم تعترض أنقرة على إقامة فدرالية في العراق ولم تشترط حينها ما تشترطه الآن على سوريا، رغم أن الفدرالية في العراق هي لقومية قائمة هي القومية الكردية بمعزل عن التوجهات السياسية لحكومة إقليم كردستان. فكيف توافق أنقرة وتعترف بفدرالية كردية في العراق ولا تؤيد أي فدرالية أو حتى حكم ذاتي في شمال سوريا؟
إن الحديث عن منع إقامة “ممر كردي” في شمال سوريا، يخفي، إضافة إلى النزعة العنصرية ضد الكرد، تطلعات تركية مزمنة في شمال سوريا تتعلق بالعودة إلى احتلال المناطق التي كانت ضمن حدود “الميثاق الملّي” التي رسمها البرلمان التركي (العثماني) عام 1920 ولكنها أصبحت ضمن حدود سوريا التي رسمها الانتداب الفرنسي مع مصطفى كمال نفسه باتفاقية أنقرة عام 1921.
إن الإشارات الدائمة المتكررة منذ العام 2016 إلى حدود “الميثاق الملي” ليست مجرد دعاية وعامل تحفيز بل جدية بكل معنى الكلمة وتكشف جديتها التغييرات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والأمنية التي تمارسها تركيا في المناطق التي تحتلها في سوريا من إدلب وعفرين إلى جرابلس وتل ابيض ورأس العين، بحيث تترك تركيا خلفها، في حال انسحبت من سوريا، “حزاما” تركيا يكون تابعاً لها بشكل أو بآخر، يكون بمثابة الضم الضمني للشمال السوري إليها. أما في أراضي إقليم كردستان العراق وعلى الرغم من اعتراف تركيا بفدرالية كردستان العراق لكنها لا تغفل عن محاولة السيطرة على أراضي الإقليم بطريقة غير مباشرة وتحويلها على الأقل في مرحلة أولى إلى منطقة أمنية وعسكرية تابعة لها. وهذا ما تعكسه دعوات الأقلام الموالية لإردوغان، بعد عملية “متينا”، لاحتلال الجيش التركي بشكل دائم المنطقة وبعمق يمتد من 30 إلى 100 كيلومتر.
وهذا الاحتلال المحتمل لا يخفي أردوغان نفسه الرغبة في تحقيقه، في موقف عام 2016 عندما قال: “إن احدا لا يمكن أن يدرك ما نفعله في شمال العراق إذا لم يكن يفهم ما الذي يعنيه الميثاق الملي”.
من المهم أن يكون جلياً للجميع أن النزعة العنصرية التركية والأطماع العثمانية في العودة إلى حدود الميثاق الملي هما عنوانان يقعان في صلب الاستراتيجية التركية في سوريا والعراق ولن تتخلى تركيا عن هدف تحقيقهما ما لم تجبر على ذلك.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد