شورش درويش
مطلع الحرب على غزة حاول الرئيس التركي أردوغان جرّ الرأي العام إلى مفاضلة غير مفهومة بين جيش دولته والجيش الإسرائيلي، في إشارة للأخلاق العالية لجيشه قياساً لما يقوم به الجيش الإسرائيلي في غزة. ربما انطلت تلك المفاضلة البائسة والميلودراما الأردوغانية على جماعته السياسية والإيديولوجية، فيما كشفت وقائع الاستهدافات لشمال شرقي سوريا والتي تصاعدت منذ 5 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن زيف تلك المفاضلة. ومع جولة العدوان الثالثة التي بدأت يوم 24 من الشهر الجاري بات من السهل معرفة أن أيّ مفاضلة أو حديث عن وحشية الآخر وأخلاق الجيش التركيّ ما هو إلّا تعبير مضلِّل، ذلك أن قتل المدنيين وتدمير البنى التحتية وسبل عيش السكان في شمال شرقي سوريا فوق أنه يعتبر جريمة حرب موصوفة، فإنه بات أقرب لورقة عبّاد الشمس التي تنحّي كل كلام عن الأخلاق جانباً.
من أعلى حيث تلتقط المسيّرات التركية صور بعض الأهداف المدنية التي دمّرتها وتتباهى بنشرها يبدو كل شيء مضللاً للرأي العام، ما يعني أن حاجة الحكومة التركية لصور ومقاطع فيديو تبثها على تلفزتها ووكالات أنبائها يدخل في سياق التضليل الإعلامي الذي يعتمد على العنوان الدعائي الأبرز والمتكرّر “قامت قواتنا المسلحة بتدمير أوكار الإرهابيين” في تعميةً على ما دمّرته من منشآت ومعامل وورش خياطة وإصلاح سيارات وصالات أفراح ومشافي تخص المدنيين أو تدخل في الخدمة العامة، أما الضحايا المدنيين فهم على الدوام “إرهابيون”.
بهذا الشكل الفاقع من التدليس تحاول الدولة التركية رفع الحرج عن مؤسستها العسكرية التي تعرّضت لجرح غائر قبل نهاية العام عقب الضربة الموجعة التي تلقتها في خاكورك بكردستان العراق على يد مقاتلي العمال الكردستاني. والحال أن عجز عملياتها المتواصلة بكردستان العراق، والتي تختار لها أسماء أفلام سينمائية تجارية “الفجر – الشمس – المخلب”، عن قول شيء حقيقي وواقعي للرأي العام التركي يدفع المؤسسة العسكرية والأمنية لاختيار أهداف هيّنة يسهل تدميرها كما في حالة استهدافات 5 أكتوبر/تشرين الأوّل والاستهدافات الحالية. لكنّ تغيّر طبيعة الاستهدافات الأخيرة بات يعني أن المنشآت المدنية باتت أيضاً في مرمى الجيش التركي، في حين كانت المنشآت العامة والبنية التحتية للإدارة هي المستهدفة في هجمات أكتوبر/تشرين الأول، ما يعني بدوره احتمال تفاقم الأمور والبدء بحرب إبادة في مراحل لاحقة واستهداف المنازل ومباني المدنيين. إن تطوّر شكل الهجمات هو السؤال المقلق الذي يبدو أنه يُطرح في هذه الأثناء، خاصة أن الحكومة التركية لا تتلقى تحذيرات دولية ولاتخضع للمحاسبة أمام المرجعيات الدولية، ويجري كل ذلك في غمار انهماك العالم بحربي غزة وأوكرانيا، ما يفسح المجال أمام الحرب التركية لتجري في جوّ مثالي ولتنفيذ جرائم حرب وإبادة مسكوتٍ عنها.
هذه المرّة لم تكلّف أنقرة نفسها عناء توجيه اتهاماتٍ لقوات سوريا الديمقراطية أو الإدارة الذاتية قبيل شن عدوانها المفتوح، على ما جرت العادة في الاستهدافات السابقة، فهي لم تعد تشرح مبررات شن الهجمات على المدنيين وتدمير سبل عيشهم، وهي بذلك تتصرّف بوحي من سياسات الانتقام القبلية وعلى هدي إحساس بوجوب تدمير المناطق التي يشغلها كرد سوريا. بهذا المعنى تصبح راحة أردوغان وحكومة الحرب التركية مبنية على تدمير الجوار، ولعل هذا التصوّر القروسطي للراحة يحيلنا إلى شكل بربري أسبق حين سعى جنكيز خان إلى هدم جميع المدن “بحيث يصبح العالم سهباً شاسعاً ترضع فيه الأمهات أطفالاً أحراراً وسعداء”. لكن، كيف يمكن وصف هذه العدمية التركية التي تسعى إلى تحطيم جوارها وتحويله إلى أرضٍ مهجورة تشحّ فيها المياه وتنعدم فيها سبل الحياة وتعمّ فيها الفوضى، سوى أنها سياسة داخلية وتصدير لمشكلات ينبغي أن تحل داخل تركيا؟ بمعنى أن الحملات الدورية في كردستان العراق والهجمات على شمال شرقي سوريا إنما تطمح إلى تجفيف الصعود القومي في تركيا نفسها، والمعبَّر عنها بنجاح الكرد لأن يشكّلوا ثالث أكبر كتلة برلمانية، وأن يصبحوا حكّاماً لمئات البلديات في شمال كردستان، رغم حملات القمع والحظر والتعطيل التي تطاول حركتهم السياسية والثقافية ومملثيهم السياسيين.
وفق المنظور الشوفيني التركي ثمة خطأ ثانٍ اسمه الإدارة الذاتية، حتى وإن كانت إدارة تمثل الكرد والعرب والسريان سواء بسواء، لا يجب أن تسمح به تركيا، ذلك أن خطأها الأول، وفقاً لرسميين أتراك، كان نيل كرد العراق حكمهم الذاتيّ، ولا تشفع إلى ذلك الوشائج الاقتصادية والمبادلات التجارية وكثافة الاستثمارات والأفضلية الممنوحة للمستثمر التركي في كردستان العراق، فعربة الإيديولوجيا هنا تسبق حصان الاقتصاد وفق الذهنية التركية. وعليه، فإن السعي المحموم لتحطيم التطلّعات والوجود الكرديين في سوريا يتجاوز حسابات المنطق وحسن الجوار وإمكانية التشبيك بين تركيا وشمال شرقي سوريا.
بالعودة إلى جرائم الحرب التي ترتكبها تركيا متوسّلة مسيّراتها ومدفعيتها، يُلاحظ التجاهل الدولي لما يحصل في شمال وشرق سوريا بهذه الأثناء، رغم أن الضامنين الأميركي والروسي، يراقبان سير الاستهدافات التركية وطبيعة الأهداف المدنية، ولعل انكباب الطرفين على متابعة ملفي الحرب في أوكرانيا وحرب غزّة، يفسح المجال لمواصلة تركيا سياساتها العدائية، فضلاً عن عدم رغبة واشنطن في استثارة أنقرة المقبلة على قبول انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، خاصة أن لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان التركي صادق، في اليوم الثاني من الهجوم على شمال شرقي سوريا، على بروتوكول انضمام السويد. من المتوقّع أن تتحرّك الولايات المتحدة لوقف التصعيد التركي على ما فُهم من إشارات متحدثٍ باسم الخارجية الأميركية دعا إلى الإيقاف الفوري للعنف واحترام خطوط وقف إطلاق النار المثبّتة ، والأمر مرجوّ إلى فهم أميركا والتحالف الدولي لمخاطر الهجمات التركية التي تساهم في إنعاش تنظيم “داعش” وإنهاك القوات الأمنية في شمال شرقي سوريا.
يبقى أن كل تفسير للعدوان والاستهدافات التركية على شمال شرق سوريا ودرجة تطوّرها مرتبط بالأزمات البنيوية التي تعصف بالحياة السياسة الداخلية التركية، وهذه المسألة، وإن أراد كرد سوريا الابتعاد عنها، فإن الحكومة التركية لن تعدم الوسيلة لإقحامهم فيها.