العلاقات مع الصين.. طريق روسيا للالتفاف على العقوبات الغربية

نشر المعهد الألماني للدراسات السياسية والأمنية دراسة طويلة (44 صفحة) حول العلاقات الاقتصادية بين روسيا والصين، قدم فيها رصداً لتطور هذه العلاقات منذ تسلم فلاديمير بوتين الحكم في روسيا عام 2000، ومروراُ بضم موسكو لشبه جزيرة القرم في 2014، وصولاً إلى شهر فبراير/ شباط من عام 2022، وهو تاريخ الهجوم الروسي على أوكرانيا.
الدراسة صدرت في شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وهي من إعداد الباحث يانيس كلوغه، وهو كبير الباحثين في قسم دراسات شرق أوروبا وأوراسيا. ويلاحظ الباحث تطور العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري بين البلدين بشكل مضطرد منذ عام 2000 إلى أن وصل إلى 200 مليار دولار في نهاية العام الجاري 2023. وتأتي في سلم التبادل التجاري مصادر الطاقة والمواد الخام التي يحتاجها البلدين، وخاصة الصين، في تطوير الصناعات الثقيلة، مع ملاحظة الباحث ميل كلا البلدين إلى تفضيل التجارة مع الدول الغربية، وخاصة استيراد التكنولوجيا المتقدمة (في حال كان ذلك متاحاً)، مشيراً إلى وجود حالة من “الاضطرارية” في التعاون والتبادل الثنائي، جراء العقوبات الغربية على روسيا، وحجب الغرب للتكنولوجيا الحساسة عن الصين.

اضطرار روسي لتعميق التعاون مع الصين

رغم معرفة صانع القرار الروسي بأهمية الصين، والتوسع الهائل الذي يشهده الاقتصاد الصيني، وحاجته إلى الطاقة والمواد الأولية، وهو ما يعني استفادة روسيا من كل هذا النهوض والتوسع في سد احتياجاتها من العملة الصعبة والتكنولوجيا، إلا أن التوجه الروسي في الأساس كان نحو الغرب ومحاولة موسكو التحول إلى شريك اقتصادي مميز لأوروبا. والاهتمام الروسي بأوروبا وأسواقها لا يعود فقط لاعتبارات وأسباب سياسية، بل ثمة أسباب جغرافية وديموغرافية، بسبب وجود الكتلة السكانية الروسية الأكبر ضمن نطاق القارة الأوروبية، وكذلك وجود البنية التحتية من حيث توزيع المصانع والمعامل وشبكات الطرق والمواصلات. كانت روسيا تعي بأن أوروبا، بتقدمها التكنولوجي ورأس المال القادر على الاستثمار والتطوير، إضافة إلى حاجة السوق الأوروبية إلى الطاقة والمواد الخام، هي المكمل الطبيعي والمثالي لتوسع وانتعاش ونهوض الاقتصاد الروسي.
روسيا، ومنذ عام 2000، كانت تنظر إلى الصين باعتبارها مصدراً للبضائع الاستهلاكية الرخيصة. ولكن هذه النظرة تغيرت مع مرور الزمن، بتغير القدرة الصينية على المنافسة في ميادين التكنولوجيا وتطوير النوعية. وقد استفاد الاقتصاد الروسي من قدرة الصينيين على الابتكار والتطوير، وشهدت قطاعات معينة في الصناعات الروسية تطوراً واضحاً بفضل التحسينات التقنية التي جاء بها الشريك الصيني. ورغم الحذر الروسي في البداية من مآلات العلاقات الاقتصادية مع اقتصاد ناهض لدولة اقليمية كبرى، تمتلك كل مقومات القطب الدولي، إلا أن موسكو قررت المضي قدماً في التعاون الاقتصادي والاستفادة من السوق الصينية في تصريف المواد الأولية والطاقة، مع ضمان الحصول على البضائع الاستهلاكية الرخيصة، والتكنولوجيا الصينية التي تحتاجها بعض قطاعات الصناعة الروسية. وترسخت العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري بين البلدين بشكل واضح ما بين الأعوام 2000 إلى 2010، مع إنشاء خط أنابيب النفط الذي يربط بين البلدين، مع ملاحظة اعتماد الصين بشكل أكبر على المواد الخام وامدادات الطاقة الروسية.

العقوبات الأوروبية والنافذة الصينية

مع توطيد العلاقات الصناعية بين موسكو وبكين، شهدت العلاقات الروسية مع الاتحاد الأوروبي، ومع الغرب بشكل عام، فتوراً وتوتراً، وخاصة منذ العام 2014، تاريخ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وبدئها حرباً بالوكالة في منطقة دونباس، عبر دعم المجموعات المسلحة الموالية لروسيا.
إن لجوء روسيا إلى لغة الحرب والضم، أثرت على العلاقات الاقتصادية مع أوروبا والغرب، وأودت بآفاق التعاون المستقبلي بين الجانبين. التقطت الصين الفرصة، وبدأت تراهن بشكل أكبر على التعاون مع روسيا واعتبار موسكو شريكاً اقتصادياً رئيسيا. في فبراير/ شباط عام 2022، وقبل بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، وصف الرئيس الصيني شي جي بينغ علاقات بلاده مع روسيا بأنها “صداقة لا تعرف الحدود”. ولكن تأثير العقوبات الأوروبية على روسيا، عقب ضمها لشبه جزيرة القرم، كان قوياً وواضحاً. وظهر أن الأزمة العميقة بين روسيا وأوروبا، والشرخ الكبير في العلاقات، أثر بشكل كبير على الاقتصاد الروسي وعلى الشركات الروسية التي كانت قد هيأت نفسها للاعتماد على رأس المال والتكنولوجيا الغربية، في الوقت الذي تضررت فيه القطاعات القائمة على نقل الطاقة والمواد الخام إلى الأسواق الأوروبية. ولم تنجح اللقاءات العديدة والقمم المستمرة بين كل من فلاديمير بوتين وشي جي بينغ في طمأنة الشركات الروسية، ولا تقديم البديل المناسب والحافز الجيد لها. وحتى لحظة إصدار فلاديمير بوتين قرار الزحف العسكري على أوكرانيا، كانت القطاعات والفعاليات الاقتصادية الروسية تعتمد على التبادل التجاري مع أوروبا والغرب. كانت كل الخطط الاقتصادية والمراحل التنموية مبنية على التعاون مع الأسواق الأوروبية.
العقوبات الاقتصادية الأوروبية والغربية على روسيا بعد إعلانها الحرب على أوكرانيا، أحدثت فصلاً كاملاً للاقتصاد الروسي عن الاقتصاديات الأوروبية، وهو ما اضطر الشركات الروسية إلى إحداث تغيير جذري في خططها وأولوياتها وبرامجها. وقد ساهم ذلك في اعتماد كلي للاقتصاد الروسي على العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الصين. أصبح التعاون مع الصين طوق نجاة للاقتصاد الروسي، وباتت موسكو تأمل في أن تتحول السوق الصينية بديلاً عن الأسواق الأوروبية، وتنجح في استيعاب الصادرات الروسية من الطاقة والمواد الخام الأولية. الآن تعتبر الصين الدولة الصناعية الوحيدة التي تستمر في التجارة دون قيود وشروط مع روسيا. وهي البوابة الرئيسية الوحيدة التي تصرف الصادرات الروسية، وتحصل منها روسيا على التكنولوجيا المتقدمة التي تحتاجها في صناعاتها.

روسيا تستفيد عسكريا والصين حذرة

علاوة على اعتماد روسيا على السوق الصينية وعلى التكنولوجيا القادمة من الصين، فإن موسكو، وفي ظل العقوبات الأوروبية المحكمة، باتت تعتمد على العملة الصينية وعلى النظام المالي والمصرفي الصيني، وتتخذ منه بديلاً عن النظام المالي الغربي. ومن الواضح بأن العلاقات الروسية ـ الصينية أصبحت تتحول إلى نموذج لدول أخرى ترى نفسها في وضع أشبه بوضع روسيا، وتريد التخلص من القيود والهيمنة الغربية، والخروج من نمط التعامل الغربي في ربط الملفات الافتصادية بالمواقف والتوجهات السياسية.
تطور العلاقات الاقتصادية بين روسيا والصين تساهم في تغذية الاقتصاد الروسي وإسناده، وتغطية جزء كبير من النقص الذي تسببت به العقوبات الأوروبية والغربية. وتستفيد موسكو بشكل حيوي من التعاون الاقتصادي مع الصين في مواصلتها الحرب على أوكرانيا، وفي تحمل العقوبات والحصار الغربي والحد من تداعياتهما. ورغم رفض الصين إمداد روسيا بالأسلحة والذخائر، وتعويض قطاعات الصناعات العسكرية الروسية النقص الحاد، إلا أن التشكيلة الواسعة والمتنوعة من السلع والمواد التي تدخل في الاستخدامات العسكرية، تعوض التآكل في القدرة العسكرية، وتساهم في تطوير قطاع الدفاع، ورفد الآلة الحربية الروسية العاملة في أوكرانيا. وعن طريق الاعتماد الروسي على العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري مع الصين، تسعى روسيا للثبات في الحرب على أوكرانيا والتمسك بموقفها السياسي في الأزمة الناشبة مع الغرب، ولا ترى نفسها مضطرة لتقديم أي تنازلات.
إن مواصلة الصين تقديم ما تحتاجه روسيا من مواد وبضائع وتكنولوجيا واستثمارات ودعم مالي، وتعويض النقص الحادث عن العقوبات الأوروبية، يساهم في تقوية الموقف الاستراتيجي الروسي، وثبات القوة العسكرية الروسية ومحافظتها على زخمها وتهديدها لأوروبا. وكان الاتحاد الأوروبي قد فرض في يونيو/ حزيران 2023 عقوبات على الشركات الصينية التي قال إنها دعمت بشكل مباشر الصناعات العسكرية الروسية، وقوّت من فاعلية آلة الحرب الروسية في أوكرانيا. وتعي الصين حساسية علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، وهي، وإن كانت تستمر في اللعب على التناقضات والاستفادة من الأزمة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، لكنها لاتريد أن تساهم هذه العلاقات في خلق أزمة بين الغرب والصين، قد تتحول إلى عقوبات اقتصادية مؤلمة وحصار اقتصادي يطال قطاعات حساسة في الصناعات الثقيلة والقدرات التكنولوجية الصينية.
من المهم تثبيت بأن الصين حذرة في ألا تتحول علاقاتها الاقتصادية مع روسيا إلى سبب من أسباب المواجهة والصراع مع الغرب، لذلك فهي، ومنذ شن روسيا الحرب على أوكرانيا، لم تعلن عن أي مشاريع كبيرة مشتركة مع روسيا، ولا تريد أن تنقل الانطباع إلى الغرب وبقية دول العالم بأنها تقف بشكل واضح وقوي خلف روسيا، وتساند مواقفها في الحرب على أوكرانيا، وتتفهم تعنتها ورفضها للحل السياسي الذي يطالب به الأوروبيون، وهو وقف الحرب فوراً، والانسحاب من الأراضي الأوكرانية بما في ذلك الجمهوريات التي أعلنت موسكو ضمها مؤخراً.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد