محمد سيد رصاص
أصيب رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل بالدهشة والذهول بعدما رد الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين في مؤتمر يالطا عام 1945 على إبلاغ تشرشل له بأن بابا الفاتيكان أعلن الحرب على ألمانيا النازية بالسؤال التالي: «كم دبابة يملك البابا».
كان هذا الجواب عند الزعيم السوفياتي نابعاً من الاعتقاد الماركسي بأن القوة هي التي تحدد وزن الدول. وبأن الأفكار، إن لم تكن مسلحة بالقوة التي يمكن أن تأخذ شكلاً اجتماعياً في شكل دعم لحزب أو مرشح للانتخابات، فهي لاتساوي شيئاً أو تظل حبيسة الكتب. كما أن الماركسية تعتقد بأن الانسان يتحرك أساساً وفق مصالحه المادية، وهو يستعمل القوة، وليس شرطاً أن تكون مسلحة، من أجل تحقيقها و وبعد ذلك حمايتها.
لم تكن دهشة تشرشل منسجمة مع سجل الامبراطورية البريطانية المليء بالعنف في السيطرة على المستعمرات وفي إدارتها ولا في سجل الانكليز الذين جلبوا الزنوج بالقوة من سواحل إفريقيا واستعبدوهم في أميركا الشمالية. وكان حزب تشرشل، أي حزب المحافظين، رائداً وله دور رئيسي في هذا السجل التاريخي للامبراطورية البريطانية.
وإذا أراد المرء الدقة، فإن اليمين، بفروعه المحافظ والليبرالي والفاشي- النازي، واليسار، بفرعيه الشيوعي والاشتراكي- الديمقراطي، يجتمعان على أن الانسان تحركه المصالح المادية. وكلاهما يؤمنان بقول توماس هوبز في كتابه «الليفياثان» في 1651 بأن «الانسان ذئب. ومن أجل أن لا يأكل الجميع بعضه، يجب أن يكون هناك احتكار للقوة من قبل سلطة الدولة». وتقول الماركسية بأنه من أجل الارتقاء بالإنسان نحو «الأنسنة» يجب إقامة المجتمع الشيوعي عبر الطريق الاشتراكي لأن الملكية الخاصة هي التي كانت مرادفاً لاستغلال الانسان للانسان وما رافق ذلك من وحشية عبر التاريخ. بينما يقول اليمين بفروعه وأيضاً الاشتراكيون الديمقراطيون بأن الطريق نحو تلافي «الإنسان- الذئب» هو عبر إقامة دولة القانون، وهذه الدولة هي التي تعبر عن الرقي الحضاري وهي التي تقي وتمنع الوحشية من خلال العقاب القانوني. ودولة القانون لاتعني رقي الانسان بل تعني رقي مجتمعه ودولته ونظامه القانوني.
هنا، يمكن لعبارة توماس هوبز أن تكون أكثر تعبيراً في مجال العلاقات الدولية بين الدول ولا تقتصر على العلاقات الداخلية- البينية في المجتمعات. وفوجىء سيغموند فرويد بمدى الوحشية التي ظهرت في معارك الحرب العالمية الأولى التي استعمل فيها السلاح الكيماوي بكثافة. وهو في كتابه «عسر الحضارة» عام 1930، كتب الكلمات التالية: «الإنسان ذئب الإنسان.. هذه العدوانية تتجلى بصورة عفوية وتميط اللثام عن البهيمة المتوحش الذي يفقد عندئذ كل اعتبار لأبناء البشر من خلف قناع الإنسان. إن كل من يتصور في ذاكرته فظائع الهجرات الكبرى للبشر أو فظائع غزوات الهون وغزوات المغول من أمثال جنكيز خان وتيمورلنك أو غزوات الحرب العالمية الأخيرة، إنما يجب عليه أن يقبل رأينا ويعترف بصحته». (ترجمة وزارة الثقافة، دمشق 1975، ص 88-89). والحرب العالمية الأولى بتبيانها القشرة الرقيقة للحداثة الغربية وعقلانيتها البادئة في القرن الثامن عشر هي التي أتاحت المجال لنمو قوي شهده التيار المعادي لعقلانية عصر الأنوار بدءاً من مارتن هايدغر وانتهاءاً بتيار ما بعد الحداثة الذي تزامن ظهوره عام 1979 مع بروز ساسة يمينيون بمشارب شتى مثل مارغريت تاتشر ورونالد ريغان والخميني والبابا يوحنا بولس الثاني، ثم ماتبع هذه الموجة اليمينية العالمية من بروز المحافظين الجدد والليبرالية الجديدة.
يمكن للسوفيات أن يكونوا مارسوا الوحشية بالعلاقات الدولية من خلال تدخلهم العسكري في أفغانستان أواخر عام1979ومن خلال دعمهم لأنظمة وحشية مثل نظام منغستو هيلامريام(1977-1991) في إثيوبيا الذي اضطهد الإريتريين والصوماليين في اقليم أوغادين وشعب التيغري في اقليم التيغري،ولكن الولايات المتحدة في حربها الباردة مع السوفيات1947-1989لجأت إلى دعم أنظمة ديكتاتورية وحشية في غواتيمالا والبرازيل وأندونيسيا وتشيلي وشاه ايران،وبعضها اضطهد شعوب أخرى مثل الغزو الاندونيسي لتيمور الشرقية،وكان هنري كيسنجر منظراً لهذا الاتجاه الذي سمي ب”المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية”،بخلاف السياسة التي دعيت ب”المبدئية”التي تبناها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون بالحرب العالمية الولى وبعدها ،وقد حاول المتابعون للمدرسة الويلسونية،وخاصة في إدارة الرئيس جيمي كارتر1977-1981،أن يضعوا (حقوق الانسان)في جدول أعمال السياسة الخارجية الأميركية لاستخدامها ضد السوفيات مع بروز الاحتجاجات في دول المعسكر السوفياتي بأوروبة الشرقية والوسطى مثل تشيكوسلوفاكيا مع (ميثاق77)للمثقفين والكتاب ومنهم فاكلاف هافل ثم احتجاجات نقابة التضامن في بولونيا عامي1980و1981،ولكن واشنطن اصطدمت عبر سياستها الجديدة تلك مع حلفاءها من الدكتاتوريين مثل شاه ايران وفرديناند ماركوس في الفليليبين وسوموزا في نيكاراغوا.
في عام 1990ورداً على الغزو العراقي للكويت، استعمل كثيراً مصطلح «الشرعية الدولية». وحرص الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش على أن تكون قيادته للتحالف الثلاثيني ضد العراق مسلحة بقرارات مجلس الأمن الدولي وكذلك حرب 1991 والعقوبات التي تلت على العراق. ولكن من خلَفه في البيت الأبيض، أي بيل كلينتون، ومن خلَفه كذلك، أي جورج بوش الابن، تجاوزا مجلس الأمن في حربي كوسوفو 1999 والعراق 2003. ومن يراجع سجل ثلث القرن من عالم ما بعد الحرب الباردة والقطب الأميركي الواحد للعالم، يراه مليئاً بالوحشية في العلاقات الدولية التي شهدت حروباً دموية رافقها تهجير لمئات الآلاف من البشر: الحرب الأذربيجانية – الأرمينية 1993-1994ومن ثم حرب 2023، الحرب الأوكرانية منذ عام 2022، غزوات احتلالات دموية في أفغانستان 2001 والعراق 2003، وحروب تفكيك الدولة اليوغسلافية بين عامي 1991و1999والتي شهدت تهجيرات ومذابح واغتصابات. كما شهدت فترة ما بعد عام 1989 نسبة كبيرة من الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية المتفجرة في الصومال، الجزائر، العراق، ليبيا، اليمن، سوريا، تركيا، إثيوبيا، والسودان.
لم يعم السلام في عالم ما بعد الحرب الباردة عندما طرح مصطلح «الشرعية الدولية». كما لم يعم السلام مع عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى التي ظن الرئيس الأميركي حينها وودرو ويلسون أنها ستنهي عصر الحروب، وهو ما سخر منه رئيسا الوزراء البريطاني وقتذاك لويد جورج والفرنسي جورج كليمنصو. وكذلك لم تستطع الأمم المتحدة مع إنشائها بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 في أن تكون مظلة السلام وأن تنتهي معها الوحشية التي أتت بها هذه الحرب التي فاقت بوحشيتها الحرب الأولى، ناهيك عن نظام مثل الذي تزعمه أدولف هتلر الذي قتل الناس بدافع عرقي مثل اليهود والسلاف. ومن سخرية الأقدار أن قوات الأمم المتحدة التي قادت من خلالها واشنطن الحرب الكورية 1950-1953، بعد أن غاب المندوب السوفييتي عن جلسة مجلس الأمن وبالتالي لم يستعمل حق النقض ضد تشكيل تلك القوات، دمّرت البنى التحتية في كوريا الشمالية إلى درجة أن أحد الجنرالات الأميركيين بعث برسالة إلى واشنطن مفادها أنه «لم يعد هناك مكان نقصفه»، هذا غير مليون ونصف من الكوريين الشماليين القتلى ومعظمهم من المدنيين، وهو ماتكرر ضد المدنيين والبنية التحتية من قبل الأميركان في الحرب الفييتنامية1964-1973.
مؤخراً وفي حرب غزة الحالية، قال وزير الدفاع الاسرائيلي يؤاف غالانت مهدداً حزب الله: «ما نفعله في غزة يمكن أن نفعله في بيروت»، أي تكرار سيناريو القتلى الغزاويين الذين يشكل المدنيون نحو 70 في المئة، عدا عن تهجير نسبة كبيرة من سكان القطاع وتهدّم قرابة 70 في المئة من المباني بشكل كلي أو جزئي، وسط صمت الغرب على العقيدة التي يؤمن بها الجيش الإسرائيلي وجيوش أخرى أن ضرب المدني يشق الرابط بينه وبين العسكري أو يجعلها قابلة للانكسار. كما أن هذه الضربات محاولة لتخويف تنظيمات أو جيوش في أمكنة أخرى بأنه يمكن أن يتلقوا فاتورة مماثلة.
كتكثيف: عبارتا توماس هوبز وسيغموند فرويد: «الإنسان ذئب»، «الإنسان ذئب الإنسان»، لم يتم تجاوزهما بعد. وهما توصيف دقيق لـ«الوضع البشري» والذي هو عنوان رواية أندريه مالرو عن مجزرة شانغهاي عام 1927 التي ارتكبها القوميون الصينيون في حزب «الكيومنتانغ» ضد الشيوعيين. يشمل هذا «الوضع البشري» الداخل والعلاقات الدولية، ولا تنفع في حجبه مقولات «حقوق الإنسان» و«الشرعية الدولية» و«القانون الدولي». فكيف يمكن تجواز هذا «الوضع البشري»؟