في خطوط ألمانيا للجم أردوغان

طارق حمو

في زيارته الأخيرة إلى برلين (17 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي)، سجل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عدة نقاط تضاف إلى رصيده لدى الشعوب العربية الإسلامية بوصفه «صوت الأمة والمدافع الشرس عن قضاياها»، وصاحب الموقف الصلب أمام «قوى الإمبريالية الغربية». استغل أردوغان زيارته إلى ألمانيا، والتي كان مخطط لها منذ مايو/أيار الماضي، لتصدر موجة المزايدات والتصريحات النارية التي طغت على الإعلام الشعبوي في العالم الإٍسلامي بعد الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، كرد فعل على هجمات حركة حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي على إسرائيل وقتلها 1400 مدني وعسكري إسرائيلي.
استخدم أردوغان نفس ذخيرته اللغوية، المتأتية من الإيديولوجيا التي تربى ونمى عليها. إيديولوجية الإسلام السياسي ونظرية المؤامرة. ولم يكتف الرئيس التركي بالإعلان مجدداً عن دعم حركة حماس ووصفها بحركة تحرر وطني، بل هاجم ألمانيا واتهمها بأنها «تدعم إسرائيل في حربها على غزة بدافع الشعور بالذنب من محارق النازية خلافاً لتركيا» التي قال إنها «قادرة على التحدث دون تحيز وهي غير مدينة لإسرائيل بشيء». ولم ينس أردوغان الإشارة إلى مكانة تركيا باعتبارها «دولة عظمى وغير عادية»، مظهراً عدم اكتراثه ولامبالاته بالرد الأوروبي، والذي قد يسفر عن ضياع صفقة استيراد تركيا 40 طائرة من نوع «يورو فايتر» بقوله إن «تركيا من بين أقوى خمس دول في الناتو، وإنها ليست دولة عادية، ولا تبالي بعدم استكمال الصفقة، لأن ليست ألمانيا الوحيدة التي تصنع الطائرات الحربية».
أثارت تصريحات أردوغان هذه ردود فعل غاضبة من الصحافة الألمانية التي هاجمت أردوغان ودفاعه عن حركة حماس ووصفها بـ«حركة تحرر وطني» في قلب برلين وسخريته من «المسؤولية التاريخية لألمانيا» عن جرائم إبادة النظام النازي لليهود الأوروبيين (الهولوكوست)، والتي وصفها بـ«العقدة التاريخية». وقالت صحيفة «دي تسايت» الألمانية الأسبوعية إن «هذه الزيارة أقل ما يمكن وصفها بأنها عار على ألمانيا»، مضيفة أن الرئيس التركي «قام بنشر أطروحاته الغريبة عن حماس بأنها حركة تحرر وطني وفي قلب برلين». وذكرت أن المستشار الألماني أولاف شولتز لم يرد على تصريحات أردوغان القاسية، «وهذه ليست دبلوماسية، بل جبن وخوف ألماني من أردوغان». كما هاجمت صحيفة «بيلد» (حوالى ثمانية ملايين قارئ) أردوغان، وقالت إن «حديث أردوغان عن الهولوكوست ودعمه لحماس في برلين فضيحة، حيث لم يتفوه الرئيس التركي بكلمة واحدة عما فعلته حماس في الإسرائيليين يوم السابع من أكتوبر، بل قال إنه يجب عدم تقييم الحرب الإسرائيلية الفلسطينية بإحساس نفسي بالمديونية». وتابعت الصحيفة أن «تصريحات أردوغان كانت إدانة عنيفة لإسرائيل، كما أنه تجاهل سؤال أحد الصحافيين عما إذا كان يعترف بحق إسرائيل في الوجود».
من جهته، أدان جوزيف شوستر رئيس المجلس الأعلى لليهود في ألماينا (ZDJ) تصريحات أردوغان، منتقداً صمت المستشار الألماني تجاه كلام الرئيس التركي. وقال شوستر في تصريح لوكالة الأنباء الألمانية، أعادت صحيفة «يودشي ألغماينه» نشره، إنه كان يأمل في موقف قوي من شولتز، وإن أردوغان بكلامه هذا شجع كل المعادين للسامية على مواصلة تظاهراتهم في الشوارع الألمانية. وأكد شوستر أنه كان يتوقع أيضا أن يتم التوضيح علناً أن دعم الديمقراطية الوحيدة في الشرق الوسط ليس له علاقة في المقام الأول بالمحرقة، مشيراً إلى أن هذه التصريحات لا تليق بدولة عضو في حلف الناتو. وتابع رئيس المجلس الأعلى لليهود في ألمانيا: «لقد عايشنا في الماضي مدى خطورة مثل هذا اللعب بالنار في مؤتمرات صحافية علنية. ويتم بالفعل الاحتفاء بأردوغان في تركيا بالفعل على موقفه المناهض لإسرائيل».
ولعل أردوغان تابع ردة الفعل الغاضبة التي أثارتها تصريحاته في برلين. فعاد مرة أخرى، في اجتماع للحكومة التركية عٌقد في العاصمة أنقرة في 20 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، للهجوم على ألمانيا وانتقاد سياستها تجاه غزة، والتي أرجعها مرة أخرى إلى «عقدة الهولوكوست» بقوله: «قادة أوروبا باتوا أسرى عار الهولوكوست. ليس فقط القادة بل أيضا المثقفون الغربيون والمؤسسات الصحافية ومنظمات حقوق الإنسان ممن يسعون لتبرئة ساحة إسرائيل». في الوقت الذي واصل الإعلام التركي، المسيطر عليه من حزب العدالة والتنمية الحاكم، هجومه على الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا، واتهامها بدعم إسرائيل بشكل مطلق، مسوّقاً لنظريات المؤامرة وتفسيرات الإسلام السياسي.
المشهد الألماني، بعد زيادة أردوغان وتصريحاته، بدا أكثر تعقيداً وتوتراً. فالتحالف الحاكم، الذي أظهر موقفاً داعماً تماماً لإسرائيل بعد هجمات حركة حماس واتخذ سلسلة من الاجراءات الرسمية في مواجهة خطاب معاداة اليهود وانتقاد إسرائيل (حظر كل من حركة حماس وشبكة صامدون، زيارة شولتز ووزير دفاعه لتل أبيب، حظر وتفرقة التظاهرات التي تنكر حق إسرائيل في الوجود)، بدا ضعيفاً وهزيلاً أمام تصريحات أردوغان في قلب برلين وتجاسره على انتقاد الموقف الألماني، واقترابه، بل واستهزائه، من جريمة إبادة اليهود (الهولوكوست). لم تتخذ الحكومة الألمانية أي خطوة عملية ملموسة لمعاقبة تركيا أردوغان على التصريحات المستفزة والمعادية للسيادة الألمانية. وتبدو الحسابات الألمانية المختلفة هي السبب وراء سياسة تمتع تركيا بكل هذا «الدلال» و«التفضيل» في المعاملة (حجم التبادل التجاري بين البلدين، والذي يزيد عن 50 مليار دولار، وجود جالية تركية كبيرة تقدر بحوالى ثلاثة ملايين تركي). وبخلاف الصحافة الألمانية التي انتقدت سياسة أردوغان داخل وخارج تركيا، مثل موقفه المؤيد لحركة حماس وتورط حكومته في دعم جماعات الإسلام السياسي والجهاديين حول العالم ونشره الفوضى عبر دعم الميليشيات المحلية في سوريا وارسال المرتزقة إلى ليبيا، فإن الموقف الرسمي الألماني من حكومة تحالف حزب العدالة والتنمية والحركة القومية ضعيف وهزيل للغاية. وهذا الضعف و«الجبن» أمام تركيا أردوغان ظهر جلياً إزاء مساس أردوغان بأحد أهم ثوابت الدولة الألمانية من خلال حديثه عن إبادة النازية الهتلرية ليهود أوروبا في الحرب العالمية الثانية واعتبارها «عقدة نفسية ألمانية» تستغلها إسرائيل.
والحال، أن الائتلاف الحاكم في ألمانيا لا يمتلك أي تصور في اتخاذ موقف قوي وحاسم من السياسة التي ينتهجها أردوغان داخل وخارج تركيا. فعلى الرغم من كل انتهاكات حقوق الإنسان والحريات العامة التي ارتكبتها الحكومة التركية وقمعها معارضيها وإرسال مئات آلاف اللاجئين إلى أوروبا والعبث بالداخل الألماني من خلال تشجيع الجالية التركية على رفض الاندماج وإظهار الولاء لأردوغان وليس لألمانيا (67% من 1,5 مليون مواطن تركي في ألمانيا يحق لهم التصويت انتخبوا حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية التركية التي جرت في مايو/أيار الماضي)، إلا أن الموقف الألماني بقي ضعيفاً ومتخاذلاً أمام تجاسر أردوغان واستهتاره بالقوانين الدولية واصراره على التدخل في شؤون الدول الأخرى والتمدد في مناطق الفوضى والحروب الأهلية. وبخلاف المحاولات الخجولة من أجل تقليم أظافر مؤسسات الإسلام السياسي (وعلى رأسها منظمة ديتيب التابعة لرئاسة الشؤون الدينية التركية التي تشرف على إدارة 900 جامع داخل ألمانيا، بالاضافة إلى تأهيل الأئمة من تركيا، وهو ما تنوي برلين إستبداله ببرنامج تدريب الأئمة في ألمانيا)، ودفعها لأخذ موقف حيال هجمات حركة حماس والتظاهرات المؤيدة لها، فإنه لا يظهر أي موقف قوي وواضح إزاء الحكومة التركية ولا حتى أمام تدخلاتها في الشؤون الداخلية الألمانية. بمعنى، أن الإجراءات الألمانية لمرحلة ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول لن تكون شاملة وجذرية بل سطحية وتجميلية وقصيرة المدى، ربما على مقاس التحالف الهش الحاكم حالياً في ألمانيا.
طلبت الحكومة الألمانية من منظمات الإسلام السياسي المشاركة في مؤتمر الإسلام الألماني (تأسس عام 2006) في دورته هذا العام في 21 و22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي التركيز على ظاهرة العداء للسامية المتنامية بين الجاليات المسلمة، بخلاف السنوات السابقة، حيث اعتادت الحكومات الألمانية وشركائها في منظمات الإسلام السياسي على التباحث في كيفية دعم هذه المنظمات بالأموال والمشاريع وتمكينها في أوساط الجاليات المسلمة وإشراكها في برامج التعليم الديني في المدارس والرعاية الاجتماعية والرعاية في السجون وفي المؤسسة العسكرية، بالاضافة إلى تدريب الأئمة المعينين من قبل الدولة. ويمثّل هذا الإجراء تحوّلاً واتجاهاً جديداً يظهر في إعادة النظر في دور هذه المنظمات والتفكير في حقيقة أنشطتها فيما إذا كانت تشجع الجاليات المسلمة على الاندماج والتسامح ونبذ الكراهية كما تدعيّ، أم العكس تماماً. تريد الحكومة الألمانية معرفة حقيقة توجه شركائها في منظمات الإسلام السياسي بعد كل هذه الأعوام من الدعم وتقديم الأموال والامتيازات لها والتحقق في ما إذا كانت هذه المنظمات جزءاً من الحل أو من المشكلة.
وقالت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر للمجتمعين في مؤتمر الإسلام الألماني بأنه «يجب أن يكون واضحاً للجميع بأن ألمانيا تقف إلى جانب إسرائيل»، وإن المطلوب من الحضور «اتخاذ مواقف واضحة من حركة حماس والتظاهرات المؤيدة لها التي تنفي حق دولة إسرائيل في الوجود». وتوازى ذلك مع تنفيذ الشرطة الألمانية عمليات دهم لمنازل العديد من أعضاء حركة حماس والمتعاطفين معها والنشطاء الذين نظموا التظاهرات التي خرجت في مدن ألمانية عديدة للتنديد بالحرب في غزة. وتعمد الشرطة الألمانية إلى تصوير التظاهرات المؤيدة للحركة والمنددة بالحرب ومن ثم التحقق من هويات المشاركين فيها، وفتح تحقيق معهم ورفع دعاوي رسمية بحقهم. ومن هنا، يتضح بأن الإجراءات الألمانية في مرحلة ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول تسير على عدة خطوط، تبتعد أغلبها عن الاصطدام المباشر مع أردوغان. وأهم هذه الخطوط هي: إعادة النظر في سياسة التعاون مع منظمات الإسلام السياسي ودفعها للتنديد بمعاداة السامية وسط الجاليات المسلمة، وملاحقة النشطاء الذين ينظمون التظاهرات ويثيرون الكراهية ويرفضون الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، ووضع خطة لتأهيل الأئمة داخل ألمانيا وباللغة الألمانية ونزع هذه الورقة من يد رئاسة الشؤون الدينية التركية التي اعتادت تأهيل الأئمة داخل تركيا وإرسالهم إلى الجوامع التي تشرف عليها باعتبارهم موظفين رسميين في الدولة التركية. وسبق أن كشفت دائرة حماية الدستور في الألمانيا تورط بعضهم في أعمال تجسس على المعارضين لحكومة أردوغان. ويبدو أن الائتلاف الحاكم في برلين سيكتفي بهذه الخطوات الوقائية العاجلة لمواجهة الإسلام السياسي الذي يحاول السيطرة على الجاليات المسلمة وتحريضها على العنف، وبالتالي تهديد السلم الأهلي، دون الاصطدام مع سياسية واستراتيجية أنقرة تحت حكم أردوغان وحزبه بما يزعزع التحالف التاريخي بين ألمانيا وتركيا القائم على المصالح والاقتصاد، لا على المبادئ الإنسانية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد