عن الاستثمار التركي في حرب غزة وحيرة أردوغان

شورش درويش

إذاً انحاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على الأقل أمام الكاميرات وفي مواجهة الحشود، بشكل مطلق لدعم حركة حماس على حساب شريكته التجارية والأمنية والعسكرية إسرائيل. هذا الانحياز للحليف ضد الشريك يكشف عن سوقٍ لا تقلّ أهمية عن تلك التي تربط أردوغان بتل أبيب، إذ إن الاهتمام الملاحظ بالانتخابات البلدية، التي ستجري في نهاية مارس/آذار العام المقبل، بحاجة إلى خطاب رائج يساهم في استعادة الولايات التركية الكبرى من يد المعارضة. وهنا تتحوّل مأساة غزة إلى مادة دعائية مركزية يحتاجها أردوغان وفريقه بشدة، إضافة إلى منافع عسكرية واقتصادية قد يتحصّل عليها من بروكسل وواشنطن في مقابل تليين موقفه تجاه إسرائيل.
واقعياً كان الرئيس التركي بحاجة إلى الدعم الغربي والأميركي كما لم يكن قبل. فأسئلة الاقتصاد التركي المتدهور فرضت على رجل الاستدارات إنهاء تعطيل قبول بلاده عضوية السويد في حلف الناتو عقب قمة الحلف في ليتوانيا في يوليو/تموز الماضي مقابل منافع عسكرية وصفقات أسلحة لا تمت بصلة لطلب تركيا الأساسي المتمثل بوقف دعم استوكهولم لما يسميه «أنشطة حزب العمال الكردستاني على أراضيها». إلّا أن جوهر الاستدارة غرباً آنذاك ارتبط بإيقاع الاقتصاد التركي وتذمّر الأتراك من سوء إدارة الدولة للملف الاقتصادي، وهو الموضوع الذي كاد ينهي حكم الرجل المديد في الانتخابات الرئاسية التي جرت في مايو/أيار الماضي، لولا أنه استعاض حينها عن النقاش الاقتصادي بقضايا أمنية وخطابات شعبوية تركز على ملف مكافحة الإرهاب والربط تالياً بين القضية الكردية النشطة وهذا الملف. وبالتالي، أرجأ أردوغان معالجة الوضع الاقتصادي إلى ما بعد الانتخابات مدفوعاً بتصوّر مفاده أن تأجيل المشكلات أفضل من حلّها قبيل أو خلال الانتخابات.
على أيّ حال، يبدو أن أردوغان اختار الطريق السهل هذه المرّة أيضاً، أي تأجيل حل مشكلة الاقتصاد مرّة أخرى، إذ إن موقفه المتصلّب إزاء حرب إسرائيل في غزة قد يعطل تدفق الاستثمارات والمساعدات الغربية إلى حين، مقابل سعيه للتحوّل إلى قائد للاستقطاب الشعبي الحاصل في تركيا ونيل ثقة القواعد الاجتماعية المعادية لحرب إسرائيل.
ربما ليس ثمة تعبير أوضح للبراغماتية التركية الفجّة أكثر مما بدت عليه أثناء اللقاء الذي جمع المستشار الألماني أولاف شولتس بضيفه أردوغان الأسبوع الماضي، حين انتقد الأخير الدعم الغربي المفتوح لإسرائيل في مقابل طلبه موافقة تزويد بلاده بـ40 طائرة «يوروفايتر» الحربية، ذلك أن ألمانيا، إلى جانب بريطانيا وفرنسا وإسبانيا، عضو في رابطة الدول المصنّعة لهذه الطائرات. والحال، أن الغرب غير أخلاقي، بحسب أردوغان، حين يزوّد إسرائيل بالأسلحة، فيما لا يزود بلاده بالأسلحة عينها، بينما استخدمت قوّات بلاده دبابات «ليوبارد» الألمانية إبان غزو عفرين في 2018. ولعل الطبيعي أن يرتد أردوغان لردّات الفعل ونوبات الغضب الآنية عندما لا تجاب طلباته. فمع إحجام شولتس عن الإجابة على طلب شراء المقاتلات، ردد أردوغان: «يمكننا شراء طائرات مقاتلة من أماكن أخرى كثيرة»، وهو ما لا يقدر عليه أردوغان حقيقة بعد أزمة شراء منظومة «إس- 400» الروسية وما تبعها من مشكلة مع الولايات المتحدة أساسها منع دول حلف الناتو اقتناء الأسلحة من خارج دول الحلف، ما يجعل من تلويح أردوغان هذه المرّة مجرّد كلام في الهواء.
لكن استثمار تركيا في حدث غزة يضمر الكثير من الحيرة المتصلة باحتمالية تحطيم حركة حماس التي تُعرّف بأنها حليف موثوق لأنقرة وجزء من قوّتها الخشنة في المنطقة، شأنها شأن المليشيات السورية المعارضة. فإذا كانت الحركة تحسب على طول الخط حليفاً لطهران، فإن ذلك لا يمنع من أن تحسب على حكومة حزب العدالة والتنمية أيضاً. والملاحظ أن تطابق وجهتي نظر إيران وتركيا، فيما خص الإبقاء على حركة حماس، لم يدفعهما للتنسيق فيما بينهما مثل تنسيقهما العالي في القوقاز وسوريا (خط أستانا)، الأمر الذي يعكس تضارب مصالحهما تجاه القضية الفلسطينية ونظرتهما لإسرائيل رغم وحدة الأداة (رعاية حماس).
يبدو أن تركيا تخشى من أن تتحوّل الحرب إلى مقدمة لتغيّر خرائط المنطقة دون أن تكون طرفاً فيها، إذ تسعى الأخيرة إلى تغيير الخرائط وقضم الأراضي وشنّ حروبها الخاصّة في شمال سوريا وإقليم كردستان العراق، أما التغيير الذي لا تكون طرفاً فيه فهو ما يثير حفيظتها. أحد المؤشرات على هذا الاتجاه هو تصريح حليفه دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية، بأن «مهمة حماية غزة والدفاع عنها هي ميراث تركه لنا أجدادنا». لا يهم كيف ومتى أوصى الأجداد بذلك، لكن خطاب بهجلي الذي سبق طوفان أردوغان الخطابيّ تجاه إسرائيل يستبطن فكرة الوصاية على ما تبقى من القضية الفلسطينية بالشكل الذي يذكّر بوصايات عربية على قضيّة الفلسطينيين، وكذلك يعكس مخاوف تركية من أن تفضي الحرب الإسرائيلية إلى طرد الغزاويين أو إفراغ أجزاء من المقاطعة. وتركيا خبيرة بأفكار التغيير الديمغرافي وقضم أراضي الجوار ابتداءً من سلب لواء اسكندرون ثم شمالي قبرص واحتلال أجزاء من الشمال السوري والتورّط إلى جوار أذربيجان مؤخراً في مسلسل إفراغ إقليم ناكورني قره باخ من سكانه الأرمن. وبالتالي، فإن خسارة غزة تعني في مكان ما خسارة موطئ قدم تركيا في أحد أهم الصراعات المركزية في المنطقة، وانتهاء الزعم التركي المزمن في حماية مصالح المسلمين من الصين وصولاً لأوروبا مروراً بدول مسلمة أصلاً كمصر وسوريا وليبيا.
لكن متى سيعلن أردوغان نهاية مسلسل التصعيد اللفظي تجاه إسرائيل والغرب والشروع في تنفيذ استدارة جديدة؟ ربما يبقى الأمر رهناً بتطوّر الأوضاع في غزة، أو إلى حين انتهاء الانتخابات البلدية التركية المقبلة. وإلى ذلك الحين، ستبقى خطوط التجارة بين إسرائيل وتركيا بمنأى عمّا يقال أمام الحشود.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد