أوروبا وسوريا والجغرافيا السياسية

موفق نيربية

لطالما كان للعوامل الجيو- سياسية تأثير كبير على المسألة السورية منذ القرن التاسع عشر، على الأقل. في المرحلة الأخيرة، كانت سوريا في مركز المثلث الإيراني- التركي- الإسرائيلي؛ ثمّ أصبحت عقدة هامة للتنافس الأميركي الروسي. عندما استطاعت روسيا تأسيس قواعد عسكرية لها شرق المتوسّط، تكرّست من خلال دعم الأسد في أزمته المصيرية؛ وتأثرّت من ثمّ بنقص الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط وسوريا وتحوّله إلى الشرق الأقصى والباسيفيك؛ إلى أن تغيّرت الأحوال قليلاً في العام الأخير.
لكنّ حرب غزة هي الطارئ الذي يشغل الجميع حالياً، وهو يتداخل مع موضوعنا كعامل جيوسياسي/ سوري بدوره. فيما يخص هذه الحرب وباختصار شديد، لعلّنا نطلب من أوروبا الالتزام فقط بما قاله الممثل الأعلى بوريل عن أنّ «حرمان مجتمع بشري تحت الحصار من إمدادات المياه الأساسية يتعارض مع القانون الدولي في أوكرانيا وفي غزة، وهذا منصوص عليه بوضوح.. وإذا لم نتمكن من قول ذلك، فإننا نفتقر في كلا المكانين إلى السلطة الأخلاقية اللازمة لإسماع صوتنا». هذه السلطة أيضاً يجب أن تنطبق على الفلسطينيين والإسرائيليين معاً.
تناقصت بعد الأسبوع الأول من الحرب تلك المطالبات بالعودة إلى مسار حلّ الدولتين والالتزام به، وهذا شيء مقلق، لأنه لا بديل واضح يمكن البناء عليه لاحقاً. وأهل المنطقة يخشون على الفلسطينيين بشكل خاص، لكنهم يخشون أيضاً على أنفسهم من المزيد من عوامل عدم الاستقرار والدخول في نفق مجهول.
لكن يمكن للأوروبيين البدء مباشرة بالاشتغال على تطوير مخارج، على الرغم مما يمكن أن تحمله الأحداث القادمة من شرور لا تحمد عقباها.
في تأثير العوامل الجيوسياسية على سوريا، ليس هنالك أهمّ مما يحدث في غزة وللقضية الفلسطينية عموماً. ذلك ما زال في طور الصدمة والانفعال حتى الآن، لكن لا بدّ من الخروج منه إلى حقل البحث والحوار.
من جهة أخرى، لا بدّ من الاستشهاد بالاستراتيجية الأوروبية تجاه سوريا التي تجلت خصوصاً في استراتيجية الاتحاد الأوروبي في العامين 2015 و2017، وبما ورد فيهما من منطلقات أساسية، هي التالية:
1-إنهاء الحرب من خلال انتقال سياسي حقيقي.
2-تعزيز عملية انتقالية هادفة وشاملة في سوريا.
3-إنقاذ الأرواح من خلال تلبية الاحتياجات الإنسانية للسوريين الأكثر ضعفاً.
4-تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير.
5-تعزيز مسار المساءلة عن جرائم الحرب.
6-دعم صمود الشعب السوري والمجتمع السوري.

جاءت حرب أوكرانيا عمودية تماماً على المسألة السورية وخلخلت جميع أساساتها إلى هذا الحدّ أو ذاك.
خطيئة الرئيس فلاديمير بوتين تلك حملت السوريين إلى حقل الأحلام الوردية بضعف بعض أهمّ عوامل قوة وتماسك الأسد، وهو الدعم الروسي. لكنّ ذلك كان حلماً متسرْعاً بالطبع وبعيداً عن واقع الأمور الأخرى والعوامل الأخرى.
ترافق هذا مع ضعف أكثر أهمية، حيث كان من المفهوم إعطاء الأهمية الأولى من قبل الغرب للجبهة الأوكرانية، والذي سيُضعف بالطبع الاهتمام بسوريا من حيث الدعم المادي ودرجة الاهتمام بمسار الحل السياسي وتطبيق قرارات مجلس الأمن. إضافة إلى ذلك، تغيّرت خريطة مصادر اللجوء في أوروبا بسبب تدفّق موجات أوكرانية كان على أوروبا إيلاءها الاهتمام الأول.
كذلك فرضت حكومة الأسد تدابير أكثر تقشّفاً علي السوريين الموجودين رسمياً تحت سلطتها، وازداد على الأغلب كلٌّ من الوجود والنفوذ الإيراني، وتهلهل الحالة السورية بتأثير تجنيد المرتزقة من جديد بعدما حدث ذلك في ليبيا وآذربيجان. زاد أيضاً تعقيد برامج توصيل المساعدات الإنسانية.
كذلك، تستهلك القضية الأوكرانية الجهود الدبلوماسية الدولية أحياناً على حساب القضية السورية ودرجة التمسّك بعناصرها الجوهرية. وكان ولا زال الأصعب من ذلك أن تتعارض متطلبات تلك القضيّتين.
من الطبيعي في ظلّ احتدام المواجهة في أوكرانيا أن يتزايد التوتّر من الناحية العسكريّة في سوريا ما بين القوات الأميركية والروسية، كما حدث في خرق البروتوكولات الموقعة بين البلدين فيما يخص منع التشابك والاشتباك في الأجواء مثلاً. ولحسن الحظّ لم تصل تلك التوتّرات إلى مستويات حرجة حتى الآن، لكنها تبقى موجودة وتتكرر.
أدّت المواجهة في أوكرانيا إلى تزايد العدوانية الروسية الفظّة في مجلس الأمن، ممّا حال دون تمرير قرارات أكثر عقلانية تخصّ تمرير المساعدات الإنسانية، وإلى تراكم هذا العدد من الفيتو الروسي- والصيني- هناك.
ومن أسوأ التداعيات مؤخّراً أن توجد مؤشّرات قوية راهنة إلى عودة الحياة إلى تنظيم داعش بسبب انشغال الغرب والروس في أوكرانيا جزئياً. وذلك خطر لا يمكن وصف أهميته ومفعوله التخريبي على حياة ومستقبل السوريين، وهو نقطة التقاء ديناميكية بين الأوروبيين والسوريين.
ومع التطورات المتراكمة في الحرب الأوكرانية، تغيّرت نسبياً بعض أولويات السياسة التركية، الأمر الذي يمكن أن ينعكس على تقليص المساحة التي يشغلها مسار آستانا لمصلحة مسار جنيف والأمم المتحدة. وهذا ليس سيّئاً للسوريين الطامحين إلى التغيير والانتقال السياسي الأكثر سلاسة وبمخاطر أقلّ.
يُشار إلى أن الاستجابة لمأساة الزلزال في فبراير/شباط الماضي لم تكن لتلبي ما تتطلبه صورة أوروبا السورية، خاصةً في الفترة الأولى وبما يخصّ مرحلة الإنقاذ. ويمكن مقارنة ذلك مح حجم ما تمّ تقديمه لتركيا بالنسبة والتناسب والمواضيع عينها.
لوحظ كذلك أنه على الرغم من عناوين كانت تصريحات بوريل تردّدها دائماً حول عدم المشاركة في موجة التطبيع مع النظام، إلّا أن السوريين لا يشعرون أن ذلك المسار صلب بما يكفي، خاصةً من خلال السياسات المنفردة لبعض الدول الأوروبية. إن أخطر ما في هذا الميل التقاءه بشكل واضح مع تزايد انتشار الميول الشعبوية- اليمينية في أوروبا.
باختصار إذاً وعموماً، لا يبدو أن المسألة السورية حافظت على مكانتها لدى أوروبا منذ بداية الحرب في أوكرانيا وبتفاقم مستمر.
فيما يخصّ التوجّهات المحتملة في السياسة الأوروبية، كان للحرب في أوكرانيا بالفعل آثار فورية على الوضع في سوريا، ما أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني الصعب للغاية. حتى الآن، حاول اللاعبون الخارجيون الأكثر أهمية في سوريا عزل تعاونهم بشأن سوريا عن الحرب في أوكرانيا. وعلى وجه الخصوص، واصلت القوات على الأرض فض الاشتباكات العسكرية وأيدت إلى حد كبير ترتيبات وقف إطلاق النار هنا وهناك. وفي الوقت نفسه، بدأ ميزان القوى على الأرض يتغير، حيث قامت إيران وحلفاؤها بملء الفراغ الذي خلفته عمليات إعادة الانتشار الروسية. وأدى ذلك إلى مخاوف جدية في إسرائيل وكذلك استمرار وتزايد الهجمات الجوية على أهداف مرتبطة بإيران.
كلما طال أمد الحرب في أوكرانيا، أو كلما تصاعدت إلى مواجهة مفتوحة بين حلف الناتو وروسيا، كلما زاد احتمال النظر إلى سوريا باعتبارها ساحة معركة أخرى للغرب وروسيا. يمكن أن يؤدي هذا إلى تحريك ديناميكيات تهدد الوضع الراهن الهش الذي ساد في سوريا خلال الأعوام القليلة الماضية. يعتمد الكثير على ما إذا كانت موسكو ستغير نهجها من عامل استقرار (من جهة النظام) إلى مفسد ومخرّب لاقتراحات الحلول السلمية أو على درجة الثبات على هذه السياسات.
امتدّت التوترات الدولية بشأن أوكرانيا إلى الحلقات التي تهدف إلى تسهيل حلّ النزاع، مثل محادثات جنيف واللجنة الدستورية السورية، ما جعلها أقل فعالية.
أخذت روسيا تستخدم حق النقض بكثافة أشدّ ضد تجديد قرار مجلس الأمن رقم 2585 بشأن استمرار المساعدات عبر الحدود إلى شمال غرب سوريا.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون روسيا أصبحت أكثر تردداً ونفاقاً في السماح بتوجيه ضربات ضد الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة في المناطق الخاضعة لسيطرتها الجوية.
زاد هذا الأمر من توتّر العلاقة بين روسيا والتحالف عسكرياً وخاصةً في الجوّ.
أغلب الظنّ أن الأوروبيين ليسوا في وضع يسمح لهم بتشكيل ديناميكيات جيوسياسية أكبر في سوريا. ومع ذلك؛ وبعد أن أظهروا قدرتهم على التصرف بشكل حاسم ومتناغم وأساسي فيما يتعلق بأوكرانيا؛ لا ينبغي لهم إهمال الصراعات العنيفة الأخرى في جوارهم المباشر، بل هنالك ضرورة للتغلب على تعبهم عندما يتعلق الأمر بسوريا والصراع في المنطقة.
يمكن الاهتمام بالمسائل مثلاً بعزل تأثير الحرب في أوكرانيا عن المسألة السورية، نسبياً بالطبع؛ والحفاظ على خطوط المتابعة، وربّما التركيز محاولة إحياء المجموعة الدولية لدعم سوريا التي كانت ذروة منجزاتها في قرار مجلس الأمن 2254 بعد اجتماعي وبياني فيينا خريف 2015، وتكريس مسار جنيف، بدلاً من إغلاقه.
لا بدّ كذلك من لتركيز علي تأمين وصول المساعدات الإنسانية وتذليل العقبات بشأن ذلك وعلى احتواء تنظيم داعش وتقليص تهديده المستقبلي أو إنهائه والاهتمام بإعادة المواطنين الأوروبيين الموجودين حالياً في مراكز الاحتجاز لدى قوات سوريا الديموقراطية في الشمال الشرقي.
ربّما لا بأس أيضاً بالمساهمة في تخفيف حدة الصراعات المحلّية، إذ يمكن مثلاً تشجيع محاولات تعزيز الترابط والربط بين المصالح المباشرة لشمال غرب وشمال شرق سوريا؛ ومع الجنوب السوري بعد تطوراته الإيجابية مؤخراً. قد تمرّ هذه المحاولات أيضاً بتحسين العلاقة بين الكرد والعرب والكرد والكرد، وخاصةً ما بين الكرد السوريين والأتراك.
أخيراً، سوف يلعب تخفيف حدة التوترات الإقليمية الأخرى دوراً هاماً ومُركّزاً في القضية السورية. يعود إلى الواجهة هنا دور أحداث غزة وتأثيرها مجهول الآفاق لاحقاً الذي سيأخذ وقتاً مديداً حتى تتضح معالمه. ما يمكن أن يكون جيداً هو البناء على الأخطار الحالية لتغيير مكوّنات وضع الصراع في المنطقة، وتأسيس جديد لموضوع التسوية والسلام، مع وضع علامات تنبيه وتأكيد خاصة على الدور الإيراني المخرّب الرئيس في المنطقة.
من حظ السوريين السيئ أن تتأزّم قضيّتهم في فترة عدم استقرار في النظام الدولي، حيث تسود الفوضى أحياناً وعدم الوضوح والمفاجآت. وسيكون من مصلحتهم استقراره بالتدريج على حالة تنسجم مع ميثاق الأمم المتحدة ولوائح حقوق الإنسان. وبالتأكيد، سيكون من مصلحتهم قوة الاتّحاد الأوروبي وتماسكه ودوره الدولي عموماً، وفيما يخص منطقة المتوسط أيضاً.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد