شورش درويش
سارعت تركيا في عام 1949 للاعتراف بدولة إسرائيل بعد حوالى عام من الإعلان عن تأسيسها، فكانت أوّل دولة ذات غالبية مسلمة تقدم على هذه الخطوة. إلا أن أنقرة، التي لم تسع إلى استفزاز المحيط الإسلامي والعربي، أبقت العلاقة بين الدولتين متصلة عبر التعاون الاستخباراتي منذ أن توّج هذا المنحى في زيارة ديفيد بن غوريون عام 1958 لتركيا ولقائه نظيره التركي عدنان مندريس. لكن العلاقة الموصوفة بالمضطربة خضعت على الدوام لمدّ وجذب طيلة فترة الحرب الباردة وخلال الحروب العربية-الإسرائيلية، وانضمام تركيا للدول العربية التي طالبت إسرائيل بالانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها عقب حرب 1967.
تراجع العلاقة الباهتة والافتقار للحماسة لتطويرها تعمّق أكثر مع قرار إسرائيل ضم القدس عام 1980، وقبل ذاك مع موافقة أنقرة على افتتاح مكتب تمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية إثر زيارة ياسر عرفات لتركيا عام 1979. غير أن التطوّر الأكبر في علاقة البلدين ورفع التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى السفراء جاء بعد مؤتمر مدريد للسلام 1991. شكّلت سوريا صمغ العلاقة العسكرية والأمنية المتينة بين إسرائيل وتركيا، ذلك أن دمشق كانت تدعم جهود المنظمات الفلسطينية والكردية والأرمنية رفضاً لقراري سلب لواء الاسكندرون وهضبة الجولان، الأمر الذي عزز الاتجاه المؤيّد للتعاون مع إسرائيل داخل تركيا. ولعل درّة تاج هذا التعاون تبدّت في عملية تعقّب ومن ثم أسر القائد الكردي عبدالله أوجلان في 15 فبراير/شباط 1999 عبر تعاون استخباراتي بين جهاز الاستخبارات الإسرائيلي وأنقرة وواشنطن.
يمكن اعتبار الفترة الممتدة من 1992 – 2000 الأعوام التي شهدت ازدهار التعاون الاستخباراتي والاقتصادي والتجاري والعسكري بين البلدين، وأنها كانت تغذّي العلاقات وتحول دون انهيارها. تجدد الانتفاضة الفلسطينية وما صاحبها من قمع وعنف إسرائيليين عام 2000 تسبب في غضبة شعبية تركية. لكنّ ما جرى لم يعطّل جهود التعاون العسكري، إذ تواصل التعاون في عام 2001 بما في ذلك التدريب الثنائي في قاعدة أكساز دنيز البحرية بمارماريس. كما أن المنفعة المتبادلة تمثلت في تطوير بعض الدبابات التركية وتزويد تركيا بالتقنيات اللازمة في عملية صناعة المسيّرات. إذ إن تركيا، كدولة متطلّبة للسلاح وتسعى على الدوام لتعزيز ترسانتها العسكرية والحفاظ على تفوّقها المشرقيّ، وجدت ضالتها في إسرائيل التي تبحث عن سوق رائجة لصناعاتها الدفاعية.
والحال أن هذه المسألة الاستراتيجية لتركيا تشكّل العصب الذي يحرّك جسم العلاقة بين البلدين، بمعزل عن نوبات الغضب التي تنتاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ وصوله الحكم عام 2002 مع كل حدث يتصل بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فخلال عملية «الرصاص المصبوب» في 2008، أبدت تركيا انزعاجها من عمليات إسرائيل في قطاع غزة، ودخل أردوغان في مواجهة مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز خلال مؤتمر دافوس وغادر المؤتمر على إثرها، ليستقبله مناصروه بحفاوة بالغة إبان وصوله إلى تركيا. تعلّم أردوغان مبكراً أن إدارة العلاقة مع إسرائيل تخضع لمشاعر الطبقات المحافظة وإعادة تدوير تلك المشاعر على هيئة سياسات خارجية. ولئن كانت السياسة الخارجية واحدة من مصادر قوة أردوغان، فإن القضية الفلسطينية تمثّل على الدوام مناسبة جيّدة لزيادة شعبيته الداخلية.
على المقلب الآخر، رغم أن حدث دافوس لم يمرّ في تل أبيب دون تحذير مما أسمته الأوساط الإسرائيلية «معاداة السامية» والتنبيه إلى احتمالية اعتراف إسرائيل بالإبادة الأرمنية كردٍّ على موجات الكراهية التي يبثّها أردوغان (سبق لسياسيين آخرين أن غمزوا من قناة اضطهاد الكرد في تركيا)، إلا أنها لم تؤثر على جوهر العلاقات بين البلدين بما يشير إلى وعي الحكومة الإسرائيلية بالاستخدام الداخلي لمثل هذه المواقف التركية. فالسمة الغالبة لهذه التحذيرات ذات الدلالات البراغماتية هي أنها تتوقّف فور توقف أنقرة عن إطلاق النعوت بحق تل أبيب، فيما يستمر التعاون الاستخباراتي والعسكري دون انقطاع.
إلى جانب الاستعراض الذي حصل في دافوس، جاء الاستعراض الإسرائيلي الموازي في تل أبيب، والتي ستعرف لاحقاً بحادثة «الكرسي المنخفض»، حين دعا وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون السفير التركي وأجلسه على كرسي منخفض ردّاً على مسلسل تركي كانت تعرضه قناة التلفزة الحكومية وجدته إسرائيل مهيناً لليهود. رداً على ذلك، منعت تركيا في وقت لاحق مشاركة إسرائيل في مناورات «نسر الأناضول»، ما دفع الولايات المتحدة إلى عدم المشاركة، ليتم إلغاء المناورة بعد الموقف الأميركي.
الاختبار الأصعب للعلاقة حصل في نهاية مايو/أيار 2010، حين حاولت تركيا اختبار أدوارها الإقليمية مجدداً وأرسلت «أسطول الحرية» لفك الحصار عن غزة. وقتذاك، قام الكوماندوس الإسرائيلي بعملية إنزال على متن سفينة «مافي مرمرة» (إحدى سفن ذلك الأسطول)، وقتل 10 أتراك وجرح وإهانة آخرين. تركت الحادثة جرحاً غائراً في وجدان الحكومة التركية والمنظّمات الإغاثية المقرّبة من حزب العدالة والتنمية، لا سيما منظمة «هيئة الإغاثة الإنسانية التركية» (IHH). بعد ذلك، عرضت تركيا ثلاثة شروط لإعادة العلاقات مع إسرائيل بعد توسّط إدارة باراك أوباما: الاعتذار، رفع الحصار عن غزّة، والتعويض عن قتلى السفينة. غير أن ما أعاد المياه لمجاريها واقعياً كانت صفقة بيع التكنولوجيا الإسرائيلية التي دفعت باتجاهها واشنطن لتحديث أنظمة الإنذار المبكر التابعة للقوات الجوية التركية.
هذه المرّة، يبدو أن أردوغان استعان بالدولة الرديفة التي باتت تمثّلها المنظّمات والهيئات الموالية للحكومة، إذ دعا رئيس هيئة الإغاثة الإنسانية بولنت يلدرم إلى التوجه نحو قاعدة إنجرليك الأميركية لـ«محاوطتها» بسبب دعم واشنطن لإسرائيل والذي تكرر بالفعل مرتين على الأقل منذ بدء الحرب على غزة. يعكس هذا الدور السياسي المفعم بالإيدولوجيا لمنظمة تعمل في الحقل الإغاثي أيضاً الصدى الحكومي لما يجري بين إسرائيل وحركة حماس. عملياً، إذا تعذّر الذهاب على متن أسطول، كما في التجربة المريرة قبل أكثر من عقد، فإن التحشيد والتنظيم الذي يمرّ أمام عين حكومة أردوغان وبدعم منها إنما ينبع من مصلحة للتحالف الحاكم في تقريب المجتمع المحافظ والمتدين إلى الحكومة والاستثمار داخلياً في كل ما يحصل في المنطقة، لا سيما المسائل التي تتصل بالجماعات الحليفة لأنقرة كجماعة الإخوان المسلمين و«حماس».
لكن فترة حكم أردوغان الطويلة لم تكن خالية من رغبة في الظهور كمبرم صفقات ناجح، ولو أن كل محاولاته فشلت حتى اللحظة. حاول أردوغان التوسّط بين باكستان وإسرائيل. وفي أعوام 2007 و2008،توسّطت تركيا بسرّية تامّة بين بشار الأسد وإيهود أولمرت بغية تنشيط محادثات السلام. وبالمقابل، سعت للظهور كأحد المؤثّرين على الساحة الفلسطينية عبر إظهار أردوغان رعاية خاصة لحركة حماس ومطالبته بإدراجها في عملية السلام. يؤمّن ظهور أردوغان كداعية سلام، إلى جانب لسانه السليط في تقريع حكومات الدول الحليفة وغيرها، رأسمالاً رمزياً مهمّاً للرئيس التركي حين يترجم كل ذلك إلى أصوات انتخابية أو لامتصاص المشكلات الداخلية، وهي فرادة يمتاز بها الزعماء الشعبويون.
وإذا كان صحيحاً أن عملية «طوفان الأقصى» كشفت علوّ كعب إيران وليس تركيا في غزّة، فقد تكون هذه المسألة مثيرة لأردوغان الذي بدا حذراً خلال الأيام الأولى للرد الإسرائيلي. رغم ذلك، يبدو أردوغان شديد التخوّف من تحقق سيناريوهات من بينها تدمير «حماس» أو توسّع دائرة الحرب بالشكل الذي يضعف إيران، ذلك أن أيّ تغيير يطاول النظام الإقليمي القائم (الستاتيكو) أو ضرب الحركات الجهادية والإسلامية التي تساهم أنقرة في رعايتها، سيؤثّر على خريطة المنطقة التي لا تريد تركيا لها أن تتغيّر بالشكل الذي قد يطالها لاحقاً.
سبق لأردوغان أن وصف عملية اغتيال الشيخ أحمد ياسين في مارس/آذار 2004 بأنها «إرهاب دولة». وفي دافوس، وصف إسرائيل بأنها «تعرف جيداً كيف تقتل الأطفال». واليوم، يصف الحكومة الإسرائيلية بأنها تتصرّف كتنظيم وأنها ترتكب جرائم حرب. تعبّر هذه اللغة الهجومية والمشحونة بالغضب عن رغبة عارمة في استمالة الشارع التركي الغاضب وقطع الطريق على معارضي حكم أردوغان لجهة تعاونه الاقتصادي والتجاري والعسكري العريض مع إسرائيل. عدا عن أن الكثير من الطيارين الإسرائيليين الذين يقصفون غزة تدرّبوا في الأجواء التركية، بحسب ما تقوله المعارضة.
بتتبع سيرة العلاقات التركية الإسرائيلية، لا سيما في الحقبة التي دمغها أردوغان بطابعه الخاص والفريد، يمكن الوصول إلى استنتاجات منها أن تعطيل التعاون في مجال الطاقة يعني أن المسألة مؤقتة وتدخل في باب الدعاية، حيث التعطيل لا يعني قطع التعاون بأي حال. وأن إعادة العلاقات لشكلها الطبيعي سيقترن بما ستقدّمه إسرائيل من حوافز في قطاع الصناعات العسكرية، وكذلك ما ستقوم به الولايات المتحدة من تنازلات في ملفات معينة لصالح تركيا أو الموافقة على ما سيطلبه أردوغان، فيما الأكيد أن ما ستتحصّل عليه تركيا لن يكون من بينها أي شيء يتصل بالفلسطينيين وحقوقهم.