ألمانيا وحماس وأردوغان 

طارق حمو

في لقاء أجرته معه محطة «دي فيلت»، طالب دنيز يوجل (الصحافي الألماني من أصل تركي) الحكومة الألمانية بمراجعة سياستها حيال تركيا واتخاذ موقف حاسم من حكومة رجب طيب أردوغان إثر التصريحات الأخيرة التي أطلقها ووصف فيها حركة حماس، التي شن مقاتلوها هجوماً على الداخل الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي قتلوا فيه 1400 مدني وعسكري واختطفوا 241 آخرين، بـ«المقاومة»، رافضاً إدارجها ضمن المنظمات الإرهابية. ودعا يوجل برلين إلى الضغط على أردوغان والتلويح باعادة النظر في العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية، موضحاً بأن تركيا تحتاج إلى ألمانيا أضعاف ما تحتاج ألمانيا إليها، وإنه لا بد من ردع ومعاقبة نظام أردوغان ليتوقف عن بث الفوضى في المنطقة.

واتهم يوجل (الذي سجنته حكومة العدالة والتنمية عاماً كاملاً لنشره حواراً مع القيادي في حزب العمال الكردستاني جميل باييك في صحيفة «دي فيلت» الألمانية عام 2015)، أردوغان بانه حوّل تركيا إلى معقل للإسلام السياسي وكراهية الغرب، وأنه وصف حركة حماس بأنها «حركة تحرر وطني»، وطالب المسلمين بدعمها «بشكل لم تفعله حتى دولة قطر». لذلك، لابد من اتخاذ موقف حاسم حياله وإلغاء الزيارة التي يعتزم القيام بها لبرلين في منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.

وكان أردوغان قد وصف حركة حماس في كلمة أمام كتلة حزب العدالة والتنمية في البرلمان التركي في 24 أكتوبر/تشرين الأول بأنها «حركة تحرر وطني تناضل لحماية مواطنيها وأرضها»، وأن تركيا «لايسعها الصمت إزاء ما يحصل»، وأنها «ستفعل كل ما بوسعها سياسياً وإنسانياً وعسكرياً إن اقتضى الأمر». كما صعّد في تظاهرة كبيرة أقامها أنصاره في اسطنبول يوم 28 أكتوبر/تشرين عندما وصف إسرائيل بأنها «دولة إرهاب»، وإنها «ترتكب جرائم حرب أمام أنظار العالم». وهو الخطاب الذي أعلنت على إثره إسرائيل سحب الطاقم الدبلوماسي من أنقرة، وقالت بأنها ستعيد التفكير في العلاقات مع تركيا.

أثارت تصريحات أردوغان هذه ردود فعل غاضبة في ألمانيا التي تتعامل بحساسية كبيرة مع موضوعي اليهود ودولة إسرائيل، وطالب برلمانيون وسياسيون في الحزب الليبرالي الحر (الشريك في الائتلاف الحكومي) والحزب المسيحي الاجتماعي المعارض، الحكومة في برلين باتخاذ موقف قوي من أردوغان والحكومة التركية، وإخطار انقرة بأن زيارة أردوغان لبرلين غير مرغوب فيها. فيما حفلت وسائل الإعلام الألمانية بالآراء المنتقدة لسياسة أردوغان ودوره في نشر التطرف والكراهية وتأثيره السلبي في الجالية التركية في ألمانيا وتعامله كزعيم لحركات الإسلام السياسي حول العالم، ومن ضمنها حركة حماس، التي استقبل قادتها، عندما حاول لعب دور الوسيط والاستفادة من الأزمة لإبراز دوره وزعامته.
التضامن الألماني مع إسرائيل كان كبيراً، خاصة من قبل الحكومة والأحزاب السياسية. وهو تضامن رسمي مبني على ثوابت في السياسة الألمانية متآتية من «المسؤولية التاريخية» لألمانيا عن عملية الإبادة الممنهجة (الهولوكوست) التي تعرض لها الشعب اليهودي على يد النازية الهتلرية، والتي أسفرت عن مقتل ستة ملايين يهودي أوروبي. كل الحكومات الألمانية ترى بأن الدولة الألمانية ملزمة بالدفاع عن اليهود وحمايتهم وضمان أمن دولة إسرائيل واعتباره جزءاً من أمن ألمانيا، بما في ذلك إرسال وحدات من الجيش الألماني للقتال إلى جانب الجيش الإسرائيلي لو تطلب الأمر. الموقف الألماني الرسمي كان من أكثر المواقف الدولية تأييداً لإسرائيل وتضامناً معها عقب الهجمات الدموية الأخيرة لمقاتلي حركة حماس، إذ زار المستشار الألماني أولاف شولتز تل أبيب، وأعرب من هناك عن تضامن ألمانيا الكامل مع إسرائيل، بما في ذلك تفهم حقها في الدفاع عن نفسها. وعمدت الحكومة الألمانية إلى حظر حركة حماس واعتبارها ارهابية (رغم إن الاتحاد الأوروبي كان أدرج أسمها منذ 2003 في قائمة المنظمات الإرهابية)، وكذلك حظر شبكة «صامدون» التي تشرف على تنظيم المظاهرات المؤيدة لحركة حماس والمعادية لإسرائيل واليهود. كما تم حظر المظاهرات وتدخلت الشرطة بقوة لقمع المتظاهرين الذين رفعوا شعارات معادية لحق إسرائيل في الوجود (مثل: فلسطين للنهر من البحر)، واعتقلت المئات حتى الآن.

المظاهرات المؤيدة لعملية حركة حماس واحتفالات بعض أبناء الجاليات المسلمة بتلك العملية من خلال توزيع الحلوى في الشوارع والتعبير صراحة عن فرحهم وسرورهم بمقتل المدنيين والعسكريين الإسرائيليين، أعادت الجدل بشأن مواضيع الهجرة والاندماج والأسلمة ومعاداة السامية في ألمانيا. وهذه الملفات عادة ما تتجنب الحكومة والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام الحديث عنها (بل وحتى الإشارة إلى الحقائق والأرقام الصادمة) بسبب مخاوفها من إمكانية استغلال حزب البديل اليميني (تأسس 2013 وممثل بـ78 مقعداً في البرلمان) للموضوع لإثبات صحة وجهة نظره في فشل عملية الاندماج وتشكيل مجتمعات موازية من المهاجرين المسلمين وانتشار الانعزال والتطرف الإسلامي. والواضح بأن ردود فعل بعض أبناء الجاليات المسلمة حيال عملية حركة حماس والإصرار على التظاهر والتأييد الضمني للحركة، أخرجت للعلن ما كانت الحكومات الألمانية تريد إخفاءه والتكتم عليه. كما أظهرت فشل عملية الاندماج وعبثية البرامج التي قامت بها الحكومات المتعاقبة وتعاونت من خلالها
2/2
مع منظمات الإسلام السياسي (مؤتمر الإسلام الألماني الذي تأسس 2006) بغية إدماج المسلمين ونشر قيم الديمقراطية والتسامح والمواطنة والولاء للقانون الألماني بينهم. الآن، هناك أصوات من كل الأحزاب تدعو إلى إعادة النظر في آليات عملية الاندماج والتسامح مع منظمات وجماعات الإسلام السياسي، بل وحتى إلى وقف عملية استقبال اللاجئين بشكل كامل.

ورغم أن المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا (ZMD) والاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية (DITIB) أدانا عملية حركة حماس وتنصلا من المسؤولية عن المظاهرات التي تلقى فيها شعارات معادية لليهود، إلا أن منظمات أخرى إسلامية لم تفعل ذلك وفضلت الصمت. بينما تصّدرت تلك التي تعمل بشكل شبه سري (جمعيات لها علاقة بالسلفيين وحزب التحرير الإسلامي المحظور) المشهد وبدأت في التغلغل في أوساط المتظاهرين لتنشر رموزها وشعاراتها، وهو ما حدث في مظاهرة مدينة إيسن الألمانية في 3 نوفمبر/تشرين الثاني التي رفٌعت فيها أعلام تنظيمي القاعدة وداعش، بينما غاب العلم الفلسطيني، وتظاهرة أخرى في برلين رصدت فيها الأجهزة الألمانية المختصة مشاركة كبيرة من السلفيين وأنصار حزب التحرير الإسلامي.
الآن، باتت المظاهرات المنددة بالعملية العسكرية الإسرائيلية في غزة تأخذ، في غالبيتها، طابعاً إسلامياً متطرفاً. ورغم محدودية المظاهرات مقارنة بعدد المسلمين في ألمانيا (ثمة مظاهرات كبيرة خرجت في العاصمة برلين)، إلا أن الشعارات المتطرفة المعادية لليهود والدعوات إلى إقامة «الخلافة الإسلامية» في ألمانيا حولتها إلى مصدر قلق وخوف للمواطنين الألمان وجعلت منها حدثاً مزعجاً للحكومة التي تحاول تدارك الأمر وفصل المتطرفين عن الأغلبية المسلمة المسالمة. واللافت مشاركة بعض قوى اليسار الألماني المتطرف والفوضويين من مروجي نظرية المؤامرة، وغالباً على قاعدة العداء لليهود وليس بهدف التضامن مع ضحايا العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة.

نائب المستشار الألماني ووزير الاقتصاد روبرت هابيك، وفي مقطع فيديو نشره على وسائل التواصل الإجتماعي، قال بأن ألمانيا لن تتسامح أبداً مع معاداة السامية، مندداً بالمظاهرات المؤيدة لحركة حماس ومطالباً بمنعها وحظر كل أشكال العداء ودعوات الكراهية التي تستهدف وجود إسرائيل. كما جدد هابيك التزام ألمانيا التاريخي بحماية إسرائيل واعتبار الحفاظ على وجودها وأمنها جزءاً من الأمن والمصلحة الوطنية الألمانية. ورحب المجلس الأعلى لليهود في ألمانيا (ZDJ) بتصريحات نائب المستشار، واعتبرها متوازنة لأنها «تهدد كل أشكال معاداة السامية بالعقوبة والملاحقة، كما تأخذ هموم الفلسطينيين في الاعتبار». كذلك أيدت الأحزاب الألمانية تصريحات هابيك واعتبرتها تحذيراً لكل الأصوات التي تحرض على اليهود وتدعو إلى تنظيم المظاهرات لتأييد حركة حماس ومصادرة حق إسرائيل في الوجود والاعتداء على المصالح اليهودية وتشجيع الجاليات المسلمة على المزيد من الانعزال والعيش في المجتمعات الموازية.

الحال، بأن السياسة الألمانية القديمة/التقليدية في الاندماج ونشر قيم التسامح بين الجاليات المسلمة من خلال التعاون مع منظمات الإسلام السياسي (خاصة التركية والعربية)، باتت الآن في مأزق. وأن «الحظر» الذي فرضته الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام الألمانية الموجهة على نشر أخبار تتعلق بانتهاكات يرتكبها اللاجئون المسلمون والتكتم على أوجه الانعزالية وانتشار التطرف الإسلامي ورفض تسليط الضوء على ثقافة الكراهية المتفشية حيال اليهود والقيم الغربية بشكل عام، تعرّت الآن وانكشف فشلها وإفلاسها أمام الرأي العام الألماني. بات واضحاً بأن المال والوقت الذي استثمرته الحكومات الألمانية ذهب سدى. الفشل هو عنوان سياسة ألمانيا في إدماج المسلمين ونشر التنوير والتسامح. ولعل من المهم الآن إجراء مراجعة شاملة لتلك السياسة والبحث عن الأسباب الكامنة وراء ميل قطاعات في الجاليات المسلمة إلى التطرف ورفض القيم الغربية وتحولها إلى حاضنة للأفكار الأصولية ونظرية المؤامرة. من المهم إعادة النظر في سياسة التعاون مع منظمات الإسلام السياسي والمراهنة عليها وتدارك حقيقة إن هذه المنظمات هي جزء من المشكلة وليس الحل، وأنها لن تسعى لإدماج الشباب المسلم في المجتمع الألماني وتشجيعه على تشرّب قيم الديمقراطية والمساواة والتسامح واحترام المرأة، بل العكس تماماً. كذلك، من المفيد وضع برنامج تنويري شامل، على كافة الصعد، لإدماج الجاليات المسلمة والاستماع إلى آراء ومقترحات المفكرين والباحثين المسلمين التنويرين من أمثال بسام طيبي ونجلاء كلك وسيران آتيش ومهند خورشيد وغيرهم.

والأهم من هذا كله تقليم أظافر أردوغان وشبكات الإسلام السياسي ومنظمة الذئاب الرمادية (أكبر منظمة يمينية متطرفة في ألمانيا باعتراف دائرة حماية الدستور) واتخاذ موقف قوي وواضح من حزب العدالة والتنمية وأذرعه في ألمانيا ومن رئيسه المتحالف مع حركة حماس، والذي بات يتصرف كزعيم للإسلام السياسي المتطرف والجهاديين في العالم، يدافع عن وجهة نظرهم ويهدد الدول الغربية بالفوضى وتحويل شوارعها إلى ساحات مواجهات ومعارك. لا يستحق أردوغان، الذي يهدد الأمن الداخلي لألمانيا وينشر خطاب الكراهية ويمول الإسلاميين، أن تفرد له السجادة الحمراء في برلين وأن يٌستقبل كشريك وحليف. أردوغان ليس بحليف لألمانيا، بل ديكتاتور متطرف (على حد وصف مجلة دير شبيغل له على غلافها في عددها الصادر في سبتمبر/أيلول 2016 )، يتدخل في الشؤون الداخلية للدول الاوروبية ويحتل الأراضي السورية ويرسل قواته إلى العديد من مناطق النزاعات. مشروعه هو مشروع الإسلام السياسي الظلامي القائم على الفرز الديني والطائفي ونشر أفكار ودعوات التطرف والكراهية والانعزالية والمحارب للتنوير والتسامح والتعايش المشترك.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد