تركيا في حرب غزة.. لحظة الإفلاس والحيرة؟
وحدة الدراسات التركية
في غمرة الحرب الطاحنة بين إسرائيل وحركة حماس، تحول مقطع فيديو نشره الجناح العسكري لحركة حماس إلى «تريند» على الحسابات الموالية لتركيا، باللغتين التركية والعربية. يظهر في المقطع المذكور مقاتلون من الحركة وهم يطلقون قذائف هاون، وتم تسريع إطلاق القذائف عن طريق المونتاج. الأصوات المسموعة متقطعة وغير مفهومة خلا عبارة «الله أكبر». لكن قبل اختتام المشاهد يمكن سماع صوت غير واضح النطق لكن يمكن تمييز موسيقا الكلمات، فتفتحت العبقرية التركية التأويلية لتفكيك هذا الصوت على أنه «Hızlı ver Hızlı» بمعنى «أعطِ بسرعة». وانتشر المقطع عشرات آلاف المرات على حسابات تبشر بالسياسات التركية، باللغتين العربية والتركية. والرسالة من وراء هذا التلفيق يكشف – من حيث لا يريد هؤلاء – عن نقطة ضعف في السياسة التركية تجاه الحرب في غزة، إذ أوهمت الحسابات التي تحظى بمتابعة مئات الآلاف، بل الملايين، أن الاستخبارات التركية تقاتل في غزة ضد إسرائيل، وأن زلة اللسان «Hızlı ver Hızlı» كشفت «السر المحبوب» في مساهمة تركيا في حرب «حماس» ضد إسرائيل، في سيناريو يتواطأ مع العقلية الدرامية التي صنعتها مسلسلات تركية شهيرة مثل «وادي الذئاب» التي بنيت على حبكات قصصية وهمية تصور الاستخبارات التركية وهي في صراع عميق للغاية ضد إسرائيل والولايات المتحدة وكل القوى الغربية.
إن تصدير هذا المقطع – والذي من الصعب أن ينتشر بهذا الحجم من دون توجيه أمني – يكشف عن أزمة وحيرة السياسة التركية تجاه الوضع في غزة. وحين تجدي مثل هذه المحاولات فهذا يعني أن هناك نية لتسيير سياسة مزدوجة ومتناقضة؛ فعلى الجانب الشعبوي تخاطب السلطة القاعدة الشعبية المتعاطفة مع «حماس» والقضية الفلسطينية بأنها تشارك في عمليات «المقاومة» ضد إسرائيل بشكل سري. وتلقى مثل هذه المزاعم رواجاً كبيراً لدى العامة وتبدو مقنعة جداً حتى مع تأويل «Hızlı» غير المقنع. ومن ناحية أخرى، لا تبدو حكومة رجب طيب أردوغان أحرقت المراكب مع إسرائيل رغم خطابها المشوش تجاه الحرب في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول حين هاجمت «حماس» إسرائيل حيث تنتظر أنقرة من تل أبيب دوراً تقوم به كوسيط في أخطر أزمة دولية منذ الغزو الروسي لأوكرانيا الذي لعبت فيه أنقرة دور الوسيط وما زالت تأمل المزيد.
من غير المرجح أن تصبح التصريحات التركية الأخيرة حول «جرائم حرب إسرائيل» و«حماس حركة مقاومة» و«شطب نتانياهو وعدم الحديث معه» ركيزة الرؤية التركية تجاه الحرب الدائرة في غزة. ففي 4 نوفمبر/تشرين الثاني، أكد أردوغان بشكل صريح «لن نقطع علاقتنا بإسرائيل». وجاء هذا الموقف الارتدادي نوعاً ما، مقارنة مع التصعيد الخطابي الذي استهله أردوغان قبل أربعة أيام، مع إعلان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عن إضافة تركيا إلى جولته الجديدة في دول المنطقة، إذ إن تركيا تقف خارج الدبلوماسية الدولية بشأن فلسطين وإسرائيل منذ هجوم «حماس» وتجاهل المسؤولين الأميركيين زيارة تركيا في جولاتهم المكوكية على دول المنطقة.
من غير المرجح أن تدخل تركيا كعنصر رئيس في تشكيل دبلوماسية الحرب والتسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في ظل اتخاذ الغرب مصر ودول الخليج ركيزة المنطقة بخصوص الصراع الحالي، كما أن المحور الآخر «المقاومة» تديره إيران، ولا تستطيع تركيا التأثير في مجريات حرب لم تدخلها كطرف أو تتبنى مخرجاتها الدموية حتى لو صح أنها شاركت في التخطيط وفق بعض الروايات.
رغم ذلك، يمكن أن يتغير موقع تركيا الطرفي في أخطر حدث يشهده العالم منذ شهر، في حال قدمت شيئاً فريداً من نوعه، مثل اقتراح محتمل بأن تستضيف قيادات ومئات المقاتلين من حركة حماس (في حال هزيمة الحركة وقبولهم الخروج مقابل الإبقاء على غزة مكاناً صالحاً للحياة). أما دون ذلك، فإن ما لدى الآخرين أهم بكثير مما لدى تركيا.
يبقى أن الاستثمار في قضية غزة ما زال مؤثراً على الصعيد الداخلي التركي ضمن مساعي أردوغان استعادة المدن الكبرى في الانتخابات البلدية المقررة في مارس/آذار المقبل على ما ذهب تحليل نشره موقع «مونيتور». ووفقاً لخبير السياسة الخارجية بارجين يينانج: «لا يفكر أردوغان أبعد من ستة أشهر قادمة وبحلول ذلك الوقت، ستكون الانتخابات قد انتهت..».
في العموم، مرت العلاقات التركية الإسرائيلية منذ تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم عام 2002 بأزمتين كبيرتين، الأولى عام 2009 حين انسحب أردوغان من منتدى دافوس احتجاجاً على تصريحات الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بخصوص قطاع غزة، في مشهد أشبع مخيلة أنصار القضية الفلسطينية في العالم بنصرٍ معنوي استعراضي وصفه الكاتب والمعلق التركي، والنائب الحالي في البرلمان، جنكيز تشاندار بكلمات بليغة: «بضربة واحدة ربما غير متعمدة أصبح أردوغان بطل العالم العربي. أصبح صوت الشارع العربي في غياب أي زعيم عربي يتمتع بمصداقية».
الأزمة الثانية جاءت بعد ذلك بعام، مايو/أيار 2010، حين هاجم جنود إسرائيليون سفينة تركية تحمل مساعدات لأهالي غزة وقتل فيها تسعة أشخاص، وأثارت هزة في العلاقات الدولية وانهياراً للدور العربي في فلسطين وتحجيماً مؤقتاً حتى لدور إيران في دعم الفصائل الفلسطينية، فأصبحت تركيا زعيمة القضية الفلسطينية في الوجدان الشعبي الإسلامي وأكبر مصدر حرج للقادة العرب. ومن هذا الميراث التركي الناشئ حديثاً بخصوص القضية الفلسطينية اكتسبت ثورات «الربيع العربي» المدعومة من تركيا، خاصة في سوريا ومصر، بُعداً أخلاقياً في البدايات كامتداد داخلي للصراع ضد إسرائيل.
ولدى إسناد هذا الدور التركي الناشئ في المنطقة العربية لمرجعية فكرية، فإن بصمات رئيس الوزراء التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو موجودة في كل جزء منها. وتفيد آراءه في كتابه «العمق الاستراتيجي» المدى الذي استطاع فيه تحريك السياسة التركية إلى الجنوب حيث الجوار العربي، وكان هذا أول صدام علني بين داوود أوغلو والداعية التركي فتح الله غولن حين كان الاثنان من كبار قادة تركيا تحت ظل أردوغان.
نشر كتاب «العمق الاستراتيجي» عام 2001، قبل أحداث 11 سبتمبر وهبوب رياح الشرق الأوسط الجديد. لكن الكاتب استدرك ما فاته حين صدرت الطبعة العربية عام 2010 و أضاف فصلاً جديداً في نهاية الكتاب اقترح فيه اتخاذ تركيا وضعية جديدة في موقعها الجيوسياسي عبر تحولها إلى «دولة مركز»، بمعنى دولة ضابطة لحدودها الداخلية ومؤثرة في صناعة سياسات خارج حدودها تصب في خدمة أمنها القومي. وهذا تحول كبير لدى المقارنة بالرؤية السابقة التي صاغ لها داوود أوغلو نظرية غريبة في الجغرافيا السياسية، وهي أن الشرق الأوسط محكوم بمعادلة تاريخية تتضمن مثلثاً من القوى الكبيرة هي تركيا وإيران ومصر، ومثلثاً أصغر يتأثر بالأكبر مباشرة ويضم سوريا والعراق والسعودية، ومثلثاً أكثر صغراً يضم لبنان والأردن وفلسطين.
في كل الأحوال، تجاوزت تركيا، وعلى أيدي أحمد داوود أوغلو نفسه، نظرية المثلث الاستراتيجي الإقليمي منذ حادثة دافوس وأسطول الحرية. لكن في المحصلة، بددت تركيا ميراث نجاحاتها في مزاحمة حتى إيران في القضية الفلسطينية حين دعمت الحروب الأهلية العربية بصيغة حزبية إخوانية – إسلامية. وحتى الرصيد الأولي الذي كسبته من دعمها الحروب الأهلية العربية بددته كلياً في حربها على القضية الكردية التي تشكل جوهر كل خطوة تركية في الشرق والغرب. ويمكن النظر اليوم إلى التشوش التركي تجاه غزة إلى القيود التي أوقعت نفسها فيه مع الدول الكبرى والإقليمية ثمناً لحربها المفتوحة على تجليات القضية الكردية، فخلال الشهرين الماضيين أسقطت الولايات المتحدة طائرة مسيرة تركية في الأجواء السورية لاقترابها من القواعد الأميركية بشكل خطير، وهذه ضريبة جانبية لتكريس تركيا كل رصيدها الدولي لقضية واحدة، هي القضية الكردية، تحاول إنهاءها منذ مئة عام دون جدوى.
إن هذه الاستراتيجية قائمة منذ مطلع الثمانينيات، إذ تؤدي سياسات الحرب التركية إلى تصفير كل رصيدها الدبلوماسي منذ ذلك الحين، وهذا ما ساهم بقوة في وصولها إلى لحظة الإفلاس في غزة، فلا هي جزء من حراك «المقاومة» الذي تهيمن عليه إيران، حتى لو كانت تركيا جزءاً من صناعة الحرب الأخيرة وفق مقاطع «Hızlı ver Hızlı»، ولا هي جزء من دبلوماسية التسوية بقيادة مصر ودول الخليج.
لقد صاغ داوود أوغلو، الذي ارتدى الكوفية الفلسطينية فور اندلاع الحرب الأخيرة بين «حماس» وإسرائيل، تصوراً لإعادة بناء سياسة شرق أوسطية وفق حاجة تركيا. ورغم إزالته من فريق الحكم من قبل أردوغان، فإن إرثه ما زال حياً في العديد من المقاربات. ويكاد تحذيره من فخ أن تنسلخ تركيا عن أوروبا وعن الشرق الأوسط معاً أقرب للتحقق من أي وقت كان، ما لم تقدّم أنقرة شيئاً لا يمكن لأحد آخر تقديمه. فقد كتب في نسخة 2001 من «العمق الاستراتيجي» (ص 168 – 169):
«ضمن الوضع الجديد، يتوجب على تركيا أن تعيد النظر في سياستها تجاه الشرق الأوسط. لقد فقدت تركيا الأحزمة الاستراتيجية الأكثر قوة في منطقة الشرق الأوسط في الربع الأول من القرن العشرين، وعاشت بعيدة عن المنطقة بشكل عام في ربعيه الثاني والثالث، وطورت سلسلة علاقات متأرجحة بين صعود وهبوط مع دول المنطقة خلال الربع الأخير من القرن نفسه، وهي اليوم مضطرة لأن تعيد تقييم علاقاتها مع المنطقة من جديد بشكل جذري. كما أن شبكة العلاقات المتوترة التي نسجتها تركيا مع أوروبا بشكل خاص، جعلت الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أمراً شبه مستحيل؛ كما جعلت موضوع تطوير استراتيجية شاملة حيال الشرق الأوسط أمراً لا بد منه. أما إذا انسلخت تركيا عن أوروبا وعن الشرق الأوسط في الوقت نفسه، فلن يكون في مقدورها أن تنجح في سياساتها الإقليمية أو القارية».