مصادر القوة الأميركية – سياسة خارجية لعالم متغير

*جيك سوليفان

تحظى العناصر الأساسية للقوة الوطنية، مثل الديموغرافيا والجغرافيا والموارد الطبيعية، بأهمية كبيرة. لكن التاريخ يظهر أن هذه العناصر ليست كافية لتحديد البلدان ذات المستقبل الأفضل، بل القرارات الاستراتيجية التي تتخذها تلك البلدان وكيفية تنظم نفسها داخلياً وما الذي تستثمر فيه واصطفافاتها وما هي الحروب التي تخوضها، وأيها تردعها وأيها تتجنبها.
عندما تولى الرئيس جو بايدن منصبه، أدرك أن السياسة الخارجية الأميركية وصلت إلى نقطة انعطاف، حيث سيكون للقرارات التي يتخذها الأميركيون اليوم تأثيراً كبيراً على المستقبل. إن نقاط القوة الأساسية التي تتمتع بها الولايات المتحدة كثيرة. مثلاً، تتمتع الولايات المتحدة بعددٍ متزايد من السكان وموارد وفيرة ومجتمع مفتوح يجذب المواهب والاستثمار ويحفز الابتكار وإعادة الابتكار. لذلك، يجب على الأميركيين أن يكونوا متفائلين بشأن المستقبل. لكن السياسة الخارجية الأميركية تطوّرت في عصر يتحول بسرعة غير مسبوقة، والسؤال الآن هو ما إذا كانت البلاد قادرة على التكيف مع التحدي الرئيسي الذي تواجهه: المنافسة في عصر الاعتماد المتبادل.
شهدت فترة ما بعد الحرب الباردة تغيرات كبيرة، لكن القاسم المشترك طوال التسعينيات والسنوات التي تلت أحداث 11 سبتمبر كان غياب المنافسة الشديدة بين القوى العظمى. وكان هذا في الأساس نتيجة للتفوق العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة، على الرغم من تفسيره على نطاق واسع على أنه دليل على اتفاق العالم على الاتجاه الأساسي للنظام الدولي. لقد انتهت الآن حقبة ما بعد الحرب الباردة بشكل نهائي واشتدت المنافسة الاستراتيجية وأصبحت تمس كل جانب من جوانب السياسة الدولية تقريباً، وليس المجال العسكري فقط. فالاقتصاد العالمي يغير كيفية تعامل البلدان مع المشاكل المشتركة مثل تغير المناخ والأوبئة، ويطرح أسئلة جوهرية بشأن ما سيأتي في المستقبل.
يجب تكييف الهياكل القديمة لمواجهة التحديات التي ستواجهها الولايات المتحدة من الآن وحتى عام 2050. ففي الحقبة السابقة، كان هناك إحجام عن معالجة الإخفاقات الواضحة للسوق التي هددت مرونة الاقتصاد الأميركي. نظراً لعدم وجود منافس للجيش الأميركي، وكرد فعل على أحداث 11 سبتمبر، ركزت واشنطن على الجهات الفاعلة غير الحكومية والدول المارقة، ولم تركز على تحسين موقعها الاستراتيجي والاستعداد لعصر جديد يسعى فيه المنافسون إلى استنساخ تفوقها العسكري، إذ لم يكن هذا هو العالم الذي واجهته سابقاً. كما افترض المسؤولون إلى حد كبير أن العالم سوف يتوحد لمعالجة الأزمات المشتركة، كما فعل في عام 2008 مع الأزمة المالية، بدلاً من الانقسام، كما حدث في مواجهة جائحة تحدث مرة واحدة كل قرن. في كثير من الأحيان، تعاملت واشنطن مع المؤسسات الدولية على أنها مجرد جماد دون معالجة الأمور التي أدّت إلى حصرها بجهات معينة بدلاً من تمثيل المجتمع الدولي.
وكان التأثير العام هو أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة ظلت القوة المتفوقة في العالم، إلا أن بعض قدراتها الأكثر حيوية ضمرت. علاوة على ذلك، مع انتخاب دونالد ترامب، أصبح للولايات المتحدة رئيساً يعتقد أن تحالفاتها كانت شكلاً من أشكال الرفاهية الجيوسياسية، وتم الترحيب بالخطوات التي اتّخذها والتي أضرّت بهذه التحالفات. بينما قيمت كل من بكين وموسكو التحالفات الأميركية بشكلٍ صحيح، معتبرة إياها مصدراً للقوة الأميركية وليس عائقاً. وبدلاً من العمل على تشكيل النظام الدولي، انسحب ترامب منه.
وهذا ما واجهه بايدن عندما تولى منصبه. لقد كان مصمماً ليس فقط على إصلاح الضرر المباشر الذي لحق بتحالفات الولايات المتحدة وقيادتها للعالم الحر، بل أيضاً على متابعة المشروع طويل الأمد لتحديث السياسة الخارجية الأميركية لمواجهة تحديات اليوم. وبرزت هذه المهمة بشكلٍ صارخ مع الغزو الروسي غير المبرر لأوكرانيا في 2022، فضلا عن عدوانية الصين المتزايدة في بحر الصين الجنوبي وعبر مضيق تايوان.
إن جوهر السياسة الخارجية لبايدن هو إرساء أسس جديدة للقوة الأميركية بحيث تكون البلاد في وضعٍ أفضل لتشكيل العصر الجديد بطريقة تحمي مصالحها وقيمها وتعزز النفع العام. وسوف يتحدد مستقبل البلاد من خلال أمرين:
• قدرتها على الحفاظ على مزاياها الأساسية في المنافسة الجيوسياسية.
• قدرتها على حشد العالم لمواجهة التحديات العابرة للحدود الوطنية من تغير المناخ والصحة العالمية إلى الأمن الغذائي والنمو الاقتصادي الشامل.
في الأساس، يتطلب هذا تغيير الطريقة التي تفكر بها الولايات المتحدة بشأن القوة. لقد تولت هذه الإدارة السلطة وهي تعتقد أن القوة الدولية تعتمد على اقتصادٍ محلي قوي، وأن قوة الاقتصاد لا تقاس بحجمه أو كفاءته فحسب، بل أيضا بمدى كونه نافعاً بالنسبة لجميع الأميركيين وخلوه من التبعيات الخطيرة. لقد فهمنا أن القوة الأميركية تعتمد أيضاً على تحالفاتها. لكن هذه العلاقات، التي يعود تاريخ الكثير منها إلى أكثر من سبعة عقود، كان لا بد من تحديثها وتنشيطها لمواجهة تحديات اليوم.

الجبهة الداخلية

بعد الحرب الباردة، قللت الولايات المتحدة من أهمية الاستثمار في الحيوية الاقتصادية في الداخل. وفي العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، اتبعت البلاد سياسة الاستثمار العام الجريء، بما في ذلك في البحث والتطوير وفي القطاعات الاستراتيجية. وعززت هذه الاستراتيجية نجاحها الاقتصادي. ولكن مع مرور الوقت، ابتعدت الولايات المتحدة عنها. لقد صممت سياسات تجارية وقانوناً ضريبياً لم يركز بشكل كافٍ على كل من العمال الأميركيين ودول العالم. وفي خضم الوفرة التي شهدتها نهاية التاريخ، لفت العديد من المراقبين إلى أن المنافسات الجيوسياسية من شأنها أن تفسح المجال أمام التكامل الاقتصادي. وكان أغلبهم يعتقدون أن البلدان الجديدة التي تدخل النظام الاقتصادي الدولي سوف تعدل سياساتها بحيث تلعب وفقاً للقواعد. ونتيجة لذلك، بات الاقتصاد الأميركي يعاني من نقاط ضعف عديدة. وبينما ازدهرت على المستوى الكلي، تم إفراغ مجتمعات بأكملها في الداخل. تخلت الولايات المتحدة عن زمام المبادرة في قطاعات التصنيع الحيوية، وفشلت في القيام بالاستثمارات اللازمة في بنيتها التحتية، وتلقت الطبقة الوسطى ضربة قوية.
أعطى بايدن الأولوية للاستثمار في الابتكار والقوة الصناعية في الداخل، وهو ما أصبح يعرف باسم «اقتصاد البيديوم». ولا تهدف هذه الاستثمارات العامة إلى تحديد الفائزين والخاسرين أو إنهاء العولمة، فهي تعمل على تمكين الاستثمار الخاص بدلاً من الحلول محله، وتعزز قدرة الولايات المتحدة على تحقيق النمو الشامل وبناء القدرة على الصمود وحماية الأمن القومي.
وسنّت إدارة بايدن قوانين استثمار جديدة بعيدة المدى بأكبر قدر منذ عقود، بما في ذلك قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف الذي وافق عليه الحزبان، وقانون CHIPS والعلوم، وقانون الحد من التضخم. وعملت على تعزيز الإنجازات الجديدة في الذكاء الاصطناعي والحوسبة والتكنولوجيا الحيوية والطاقة النظيفة وأشباه الموصلات، مع حماية مزايا الولايات المتحدة وأمنها من خلال ضوابط التصدير الجديدة وقواعد الاستثمار، بالشراكة مع الحلفاء.
وأحدثت هذه السياسات فرقاً، وزادت الاستثمارات واسعة النطاق في إنتاج أشباه الموصلات والطاقة النظيفة بمقدار 20 ضعفاً منذ عام 2019. وتشير تقديراتنا الآن إلى أن الاستثمار العام والخاص في هذه القطاعات سيبلغ إجماليه 3.5 تريليون دولار على مدى العقد المقبل، فيما تضاعف الإنفاق على بناء التصنيع منذ نهاية عام 2021.
وفي العقود الأخيرة، أصبحت سلاسل التوريد الخاصة بالمعادن الحيوية في الولايات المتحدة تعتمد بشكل كبير على الأسواق الخارجية التي لا يمكن التنبؤ بها، والتي تهيمن الصين على الكثير منها. ولهذا السبب، تعمل الإدارة الأميركية على بناء سلاسل توريد مرنة ودائمة مع الشركاء والحلفاء في القطاعات الحيوية – بما في ذلك أشباه الموصلات والطب والتكنولوجيا الحيوية والمعادن الحيوية والبطاريات – حتى لا تكون الولايات المتحدة عرضة لانقطاع الإمدادات أو تقلّب الأسعار. يشمل هذا النهج المعادن التي تعتبر مهمة لجميع جوانب الأمن القومي، مع الإدراك بأن قطاعات الاتصالات والطاقة والحوسبة لا تقل أهمية عن قطاع الدفاع التقليدي. كل هذا وضع الولايات المتحدة في موقع يمكّنها من استيعاب محاولات القوى الخارجية بشكلٍ أفضل للحد من وصول الولايات المتحدة إلى المدخلات الحيوية.
عندما تولت الإدارة الأميركية الحالية السلطة، تبيّن أنه على الرغم من أن الجيش الأميركي هو الأقوى في العالم، إلا أن قاعدته الصناعية عانت من سلسلة من نقاط الضعف التي لم تتم معالجتها. وبعد أعوامٍ من نقص الاستثمار وشيخوخة القوى العاملة وتعطل سلسلة التوريد، أصبحت قطاعات الدفاع المهمة أضعف وأقل ديناميكية. تعمل إدارة بايدن على إعادة بناء تلك القطاعات، وتفعل كل شيء بدءاً من الاستثمار في القاعدة الصناعية للغواصات وحتى إنتاج ذخائر أكثر أهمية حتى تتمكن الولايات المتحدة من صنع ما هو ضروري للحفاظ على الردع في مناطق التنافس. تستثمر الولايات المتحدة في الردع النووي لضمان استمرار فعاليته بينما يقوم المنافسون ببناء ترساناتهم مع الانفتاح على مفاوضات الحد من الأسلحة المستقبلية إذا كان المنافسون مهتمين بهذا الأمر. كما أن الولايات المتحدة تتشارك أيضاً مع المختبرات والشركات الأكثر ابتكاراً لضمان استفادة القدرات التقليدية المتفوقة للولايات المتحدة من أحدث التقنيات.
لكن في عالم أكثر تنافسية، لا شك في أن واشنطن بحاجة إلى كسر الحاجز بين السياسة الداخلية والخارجية، خاصةً أن الاستثمارات العامة الكبرى تشكل عنصراً أساسياً في السياسة الخارجية. وفعل ذلك الرئيس دوايت أيزنهاور في الخمسينيات، ونحن نفعل ذلك مرة أخرى اليوم، ولكن بالشراكة مع القطاع الخاص وبالتنسيق مع الحلفاء، مع التركيز على التكنولوجيات المتطورة اليوم.

تحالفات قائمة

لقد كانت تحالفات الولايات المتحدة وشراكاتها مع الديمقراطيات الأخرى أعظم ميزة دولية لها، إذ ساعدت في خلق عالم أكثر حرية واستقراراً وفي ردع العدوان أو عكس مساره. وكان الهدف بأن لا تضطر واشنطن أبداً إلى المضي قدماً بأمرٍ ما بمفردها. لكن هذه التحالفات بنيت لعصر مختلف. وفي الأعوام الأخيرة، لم تعد الولايات المتحدة تستغل هذه الفرص بالقدر الكافي.
كان بايدن واضحاً منذ لحظة توليه منصبه بشأن الأهمية التي يوليها للتحالفات الأميركية، خاصةً في ضوء تشكك سلفه فيها. لكنه أدرك أنه حتى أولئك الذين دعموا هذه التحالفات على مدى العقود الثلاثة الماضية غالباً ما يتجاهلون الحاجة إلى تطويرها من أجل المنافسة في عصر الاعتماد المتبادل. وبناء على ذلك، قمنا بتعزيز هذه التحالفات والشراكات بطرق مادية تعمل على تحسين الموقع الاستراتيجي للولايات المتحدة وقدرتها على التعامل مع التحديات المشتركة.
على سبيل المثال، قمنا بحشد تحالف عالمي من الدول لدعم أوكرانيا في دفاعها عن نفسها ضد حرب عدوانية غير مبررة ورفع كلفة الحرب على روسيا. لقد توسع حلف الناتو ليشمل فنلندا، وسرعان ما ستتبعها السويد، وهما دولتان محايدتان. كما قام الحلف بتعديل موقفه على جناحه الشرقي ونشر القدرة على الرد على الهجمات السيبرانية ضد أعضائه واستثمر في دفاعاته الجوية والصاروخية. وعملت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على تعميق التعاون بشكل كبير في مجالات الاقتصاد والطاقة والتكنولوجيا والأمن القومي.
من خلال «AUKUS» – الشراكة الأمنية الثلاثية بين الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة – قمنا بدمج القواعد الصناعية الدفاعية للدول الثلاث لإنتاج غواصات مسلحة تقليدياً تعمل بالطاقة النووية وزيادة التعاون في القدرات المتطورة مثل الذكاء الاصطناعي والغواصات المستقلة. إن الوصول إلى مواقع جديدة من خلال اتفاقية التعاون الدفاعي مع الفلبين يعزز الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي سبتمبر/أيلول الماضي، سافر بايدن إلى هانوي ليعلن رفع الولايات المتحدة وفيتنام علاقاتهما إلى شراكة استراتيجية شاملة. وأطلقت المجموعة الرباعية، التي تضم الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان، العنان لأشكالٍ جديدة من التعاون الإقليمي في مجالات التكنولوجيا والمناخ والصحة والأمن البحري. كما أننا نستثمر أيضاً في شراكة القرن الحادي والعشرين بين الولايات المتحدة والهند. على سبيل المثال، من خلال المبادرة الأميركية الهندية بشأن التكنولوجيا الحسّاسة والناشئة ومن خلال الإطار الاقتصادي للازدهار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، نعمل على تعميق العلاقات التجارية والتفاوض على اتفاقيات هي الأولى من نوعها بشأن مرونة سلسلة التوريد واقتصاد الطاقة النظيفة ومكافحة الفساد والتعاون الضريبي مع 13 شريكاً متنوعاً في المنطقة.
تعمل الإدارة على تعزيز الشراكات الأميركية خارج آسيا وعبر الروابط الإقليمية التقليدية. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، في أول قمة لزعماء الولايات المتحدة وأفريقيا منذ عام 2014، قدمت الولايات المتحدة سلسلة من الالتزامات التاريخية، بما في ذلك دعم عضوية الاتحاد الأفريقي في مجموعة العشرين وتوقيع مذكرة تفاهم مع أمانة منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية. وهو جهد من شأنه أن يخلق سوقا مشتركة على مستوى القارة التي تضم 1.3 مليار نسمة وبحجم اقتصاد 3.4 تريليون دولار. وفي وقت سابق من عام 2022، قمنا بتحفيز العمل في نصف الكرة الغربي بشأن الهجرة من خلال إعلان لوس أنجلوس بشأن الهجرة والحماية وأطلقنا شراكة الأميركتين من أجل الرخاء الاقتصادي، وهي مبادرة لدفع التعافي الاقتصادي في نصف الكرة الغربي. كما شكلنا تحالفاً جديداً مع الهند وإسرائيل والولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة يُعرف باسم «I2U2»، فهو يجمع بين جنوب آسيا والشرق الأوسط والولايات المتحدة من خلال مبادرات مشتركة بشأن المياه والطاقة والنقل والفضاء والصحة والأمن الغذائي. وفي سبتمبر/أيلول من هذا العام، انضمت الولايات المتحدة إلى 31 دولة أخرى في مختلف أنحاء أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية وأفريقيا وأوروبا لإنشاء شراكة التعاون الأطلسي للاستثمار في العلوم والتكنولوجيا وتعزيز الاستخدام المستدام للمحيطات ووقف تغير المناخ. وقمنا بتشكيل شراكة إلكترونية عالمية جديدة تضم 47 دولة ومنظمة دولية لمواجهة قضية برامج الفدية.
لقد خلقت قمة الديمقراطية، التي دعا إليها الرئيس الأميركي لأول مرة في عام 2021، أساساً مؤسسياً لتعميق الديمقراطية وتعزيز الحكم ومكافحة الفساد وحقوق الإنسان وجعل الديمقراطيات الزميلة شريكة في الأجندة إلى جانب واشنطن مع مجموعة الدول التي تدعم رؤية واشنطن لعالم حر ومنفتح ومزدهر وآمن واسعة وقوية. وسوف نعمل مع أي دولة مستعدة للدفاع عن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة حتى عندما ندعم الحكم الشفاف والخاضع للمساءلة وندعم الإصلاحيين الديمقراطيين والمدافعين عن حقوق الإنسان.
نحن نعمل أيضاً على تنمية تحالفات الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا. الولايات المتحدة أقوى في كل منطقة بسبب تحالفاتها في المنطقة الأخرى. فالحلفاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ هم من أشد المؤيدين لأوكرانيا، في حين يساعد الحلفاء في أوروبا الولايات المتحدة في دعم السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان. وتساهم جهود الرئيس الأميركي لتعزيز التحالفات أيضاً في أكبر قدر من تقاسم الأعباء منذ عقود. تطلب الولايات المتحدة من حلفائها أن يكثفوا جهودهم بينما تقدم المزيد أيضاً. تسير ما يقرب من 20 دولة من دول حلف الناتو على الطريق الصحيح لتحقيق هدف إنفاق 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع في عام 2024، وهو ما يشكل ارتفاعاً من سبع دول فقط في عام 2022. وتعهدت اليابان بمضاعفة ميزانيتها الدفاعية وتقوم بشراء صواريخ «توماهوك» أميركية الصنع، والتي تعزز ردعها للمنافسين المسلحين نووياً في المنطقة. وكجزء من «AUKUS»، تقوم أستراليا بأكبر استثمار فردي في القدرة الدفاعية في تاريخها بينما تستثمر أيضاً في القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية، وأصبحت ألمانيا ثالث أكبر مورد للأسلحة إلى أوكرانيا، وهي تعمل على وقف اعتمادها على الطاقة الروسية.

صفقة أفضل

لقد أظهرت السنة الأولى لجائحة كوفيد-19 أنه إذا انسحبت الولايات المتحدة من قيادة الجهود الرامية إلى حل المشاكل العالمية، فلن تقوم أي دولة أخرى بعمل ذلك. في عام 2020، كان العديد من قادة العالم بالكاد يتحدثون عن حلول جماعية. وبدلاً من التنسيق الوثيق، بذلت البلدان جهودا متباينة جعلت الوباء أكثر خطورة. لقد اعتقد الرئيس بايدن وفريقه دائماً أن الولايات المتحدة لديها دور حاسم تلعبه في تحفيز التعاون الدولي، سواء في الاقتصاد العالمي أو الصحة أو التنمية أو البيئة. لكن التجربة الصادمة للأزمة العالمية في غياب القيادة العالمية أثّرت في رؤية بايدن للعالم. عندما نظرنا إلى المجموعة المروعة من التحديات العالمية، أدركنا أننا لن نضطر إلى استرجاع قيادة الولايات المتحدة فحسب، بل سنحتاج أيضاً إلى رفع مستوى أدائنا وأن نقدم للعالم، خاصةً الجنوب العالمي، عرضاً ذا قيمة أفضل.
إن قسماً كبيراً من العالم ليس منشغلاً بالمنافسات الجيوسياسية. فمعظم البلدان تريد أن تعرف أن لديها شركاء يمكنهم مساعدتها في معالجة المشاكل التي تواجهها، والتي يبدو بعضها وجودياً.
لقد حافظت الولايات المتحدة على قيادتها طويلة الأمد في مجال التنمية العالمية، وحافظت على استثماراتها الحيوية في الصحة والأمن الغذائي، وظلت المزود الرائد للمساعدات الإنسانية والمساعدات الغذائية الطارئة في وقت الحاجة العالمية غير المسبوقة لها. يقود بايدن الآن جهداً عالمياً لرفع الطموحات إلى مستوياتٍ أعلى. تعطي الولايات المتحدة الأولوية لدفع التقدم نحو أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة. وهي تعمل على توسيع نطاق بنوك التنمية متعددة الأطراف وتعبئة القطاع الخاص ومساعدة البلدان على إطلاق العنان لرأس المال المحلي. وكحجر زاوية في هذا الجهد، تعمل الإدارة الأميركية على تحديث البنك الدولي حتى يتمكن من معالجة تحديات اليوم بالسرعة الكافية وعلى نطاق واسع. ونحن نعمل مع الشركاء لزيادة تمويل البنك بشكل كبير، بما في ذلك البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، ونضغط أيضاً من أجل إيجاد حلول لمساعدة البلدان الضعيفة على معالجة الديون غير المستدامة بسرعة وشفافية، وتحرير الموارد لها للاستثمار في مستقبلها بدلاً من تسديد أقساط الديون المرهقة.
في الأعوام الأخيرة، كانت مبادرة الحزام والطريق الصينية هي المهيمنة، وتخلّفت الولايات المتحدة في الاستثمار على نطاق واسع في البنية التحتية في البلدان النامية. والآن، تعمل الولايات المتحدة على تعبئة مئات المليارات من الدولارات من رأس مالها من خلال شراكة مجموعة السبع للبنية التحتية العالمية والاستثمار لدعم البنية التحتية المادية والرقمية والطاقة النظيفة والصحة في جميع أنحاء البلدان النامية.
لقد قادت الولايات المتحدة الصحة العالمية، وهي تستثمر أكثر من أي وقت مضى للقضاء على الأوبئة مثل فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) والسل والملاريا باعتبارها تهديدات للصحة العامة بحلول عام 2030. وتبرعت بما يقرب من 700 مليون جرعة لقاح ضد فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) لأكثر من 115 دولة وما يقرب من نصف جميع صناديق الاستجابة العالمية للأوبئة. وتساعد الولايات المتحدة 50 دولة على الاستعداد لحالة الطوارئ الصحية المقبلة والوقاية منها والاستجابة لها. من المرجح أن أغلب الناس لم يسمعوا عن حالات تفشي مرض فيروس ماربورغ أو إيبولا في الآونة الأخيرة، لأننا تعلمنا الدروس من وباء إيبولا في غرب أفريقيا عام 2014 واستجبنا قبل أن ينتشر المرض في شرق ووسط وغرب أفريقيا.
لا تستطيع أي دولة أن تقدم عرضاً ذا مصداقية للعالم إذا لم تكن جادة فيما يتعلق بتغير المناخ. لقد ورثت إدارة بايدن فجوة هائلة بين الطموح والواقع بما يتعلق بتخفيف الانبعاثات الكربونية. تقود الولايات المتحدة الآن عملية الترويج العالمي لتكنولوجيا الطاقة النظيفة على نطاق واسع. ولأول مرة، ستفي البلاد بالتزامها الوطني بموجب اتفاق باريس للحد من صافي انبعاثات الغازات الدفيئة والالتزام العالمي بتوفير 100 مليار دولار سنوياً للدول النامية للتعامل مع تغير المناخ. وأطلقت الولايات المتحدة مبادرات مشتركة مثل شراكة التحول العادل للطاقة مع إندونيسيا، والتي من شأنها تسريع انتقال قطاع الطاقة في ذلك البلد بدعم من المصادر العامة والخاصة.

اختيار المعارك

في التسعينيات، هيمنت على سياسة الدفاع الأميركية أسئلة بشأن ما إذا كان يجب التدخل في البلدان التي مزقتها الحروب لمنع وقوع كوارث. بعد أحداث 11 سبتمبر، حوّلت الولايات المتحدة تركيزها إلى الجماعات الإرهابية. بدا خطر الصراع بين القوى العظمى بعيداً. وبدأ ذلك يتغير مع غزو روسيا لجورجيا في عام 2008 وأوكرانيا في عام 2014، وكذلك مع التحديث العسكري السريع الذي قامت به الصين واستفزازاتها العسكرية المتزايدة في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان. لكن أولويات واشنطن لم تتكيف بالسرعة الكافية مع التحديات المتمثلة في ردع عدوان القوى العظمى والرد عليه بمجرد وقوعه.
كان بايدن مصمماً على التكيّف مع ذلك، وأنهى مشاركة الولايات المتحدة في الحرب في أفغانستان، وهي أطول حرب في التاريخ الأميركي، وحرر الولايات المتحدة من الحفاظ على القوات العسكرية في الأعمال العدائية النشطة لأول مرة منذ عقدين. كان هذا التحول مؤلماً بلا شك، خاصةً بالنسبة لشعب أفغانستان والقوات الأميركية والموظفين الآخرين الذين خدموا هناك. لكنه كان ضرورياً لإعداد الجيش الأميركي لمواجهة التحديات المقبلة. وجاء أحد هذه التحديات بسرعة أكبر مما توقعنا، مع الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022. لو أن الولايات المتحدة كانت لا تزال تقاتل في أفغانستان، كان من المحتمل جداً أن تفعل روسيا كل ما في وسعها الآن على مساعدة حركة طالبان ومنع واشنطن من تركيز اهتمامها على مساعدة أوكرانيا.
وحتى مع تحول أولوياتنا بعيداً عن التدخلات العسكرية الكبرى، فإننا نظل على استعداد للتعامل مع التهديد الدائم المتمثل في الإرهاب الدولي. لقد تحركنا في أفغانستان، وعلى الأخص من خلال العملية التي قتلت زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، وقمنا بإبعاد أهداف إرهابية أخرى من ساحة المعركة في الصومال وسوريا وأماكن أخرى. وسوف نستمر في القيام بذلك، ولكننا سنتجنب أيضاً الحروب طويلة الأمد التي يمكن أن تقيّد القوات الأميركية والتي لا تفيد كثيراً في تقليل التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة.
وفيما يتعلق بالشرق الأوسط بشكل عام، ورث الرئيس بايدن منطقة كانت تتعرض لضغوط شديدة. أكدت النسخة الأصلية من هذا المقال، المكتوبة قبل الهجمات الإرهابية التي شنتها حركة حماس في إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، على التقدم الذي تم إحرازه في الشرق الأوسط بعد عقدين تميزا بالتدخل العسكري الأميركي الضخم في العراق وحملة حلف الناتو العسكرية في ليبيا والحروب الأهلية المشتعلة وأزمات اللاجئين وظهور دولة الخلافة الإرهابية المعلنة والثورات والثورات المضادة وانهيار العلاقات بين الدول الرئيسية في المنطقة. ولخصت بذلك جهودنا للعودة إلى نهج سياسة أميركية منضبطة تعطي الأولوية لردع العدوان وتهدئة الصراعات وتكامل المنطقة من خلال مشاريع البنية التحتية المشتركة، بما في ذلك بين إسرائيل وجيرانها العرب. دخلت الحرب في اليمن شهرها الثامن عشر من الهدنة، وهدأت الصراعات الأخرى. لقد عمل القادة الإقليميون معاً بشكل علني. وفي سبتمبر/أيلول، أعلن الرئيس بايدن عن ممر اقتصادي جديد يربط الهند بأوروبا عبر الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل.
أكدت النسخة الأصلية من هذا المقال على أن هذا التقدم كان هشاً وأن التحديات الدائمة لا تزال قائمة، بما في ذلك التوترات بين إسرائيل والفلسطينيين والتهديد الذي تشكله إيران. لقد ألقت هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول بظلالها على الصورة الإقليمية برمتها، والتي لا تزال تداعياتها تتكشف، بما في ذلك خطر حدوث تصعيدٍ إقليمي كبير. لكن النهج المنضبط الذي اتبعناه في الشرق الأوسط يظل جوهر موقفنا وتخطيطنا ونحن نتعامل مع هذه الأزمة.
وكما أظهر الرئيس بايدن عندما سافر إلى إسرائيل في زيارة نادرة في زمن الحرب بتاريخ 18 أكتوبر/تشرين الأول، فإن الولايات المتحدة تدعم بقوة إسرائيل التي تحمي مواطنيها وتدافع عن نفسها ضد الإرهابيين. ونحن نعمل بشكل وثيق مع الشركاء الإقليميين لتسهيل التوصيل المستدام للمساعدات الإنسانية للمدنيين في قطاع غزة. وأوضح الرئيس مراراً وتكراراً أن الولايات المتحدة تؤيد حماية حياة المدنيين أثناء النزاع واحترام قوانين الحرب. إن «حماس»، التي ارتكبت فظائع تذكرنا بأسوأ ويلات «داعش»، لا تمثل الشعب الفلسطيني ولا تدافع عن حقه في الكرامة وتقرير المصير. نحن ملتزمون بحل الدولتين الذي يحقق كل ذلك. في الواقع، كانت مناقشاتنا مع المملكة العربية السعودية وإسرائيل بشأن التطبيع تتضمن دائماً مقترحات مهمة للفلسطينيين. وإذا تم الاتفاق، فإنه سيضمن بقاء الطريق إلى حل الدولتين قابلاً للتطبيق، مع اتخاذ خطوات مهمة وملموسة في هذا الاتجاه من قبل جميع الأطراف المعنية.
ونحن حذرون من خطر تحول الأزمة الحالية إلى صراعٍ إقليمي. لقد أجرينا اتصالاتٍ دبلوماسية واسعة النطاق وعززنا وضع قوتنا العسكرية في المنطقة. منذ بداية هذه الإدارة، تصرفنا عسكرياً عند الضرورة لحماية الأميركيين. ونحن ملتزمون بضمان عدم حصول إيران أبدا على سلاح نووي. وبينما يجب ألا تكون القوة العسكرية أبداً الملاذ الأول، فإننا نقف على أهبة الاستعداد لاستخدامها عند الضرورة لحماية الولايات المتحدة ومصالحها في هذه المنطقة المهمة.

نهجنا في أوكرانيا مستدام

إن الأزمة في الشرق الأوسط لا تغير حقيقة أن الولايات المتحدة بحاجة إلى الاستعداد لعصر جديد من المنافسة الاستراتيجية، لا سيما من خلال الردع والرد على عدوان القوى العظمى. عندما اكتشفنا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستعد لغزو أوكرانيا، واجهنا تحدياً. فالولايات المتحدة لم تكن ملتزمة بموجب معاهدة بالدفاع عن أوكرانيا. ولكن إذا لم يتم الرد على العدوان الروسي، فسوف تختفي دولة ذات سيادة. لقد سعينا إلى تجنب الأزمة من خلال التوضيح لروسيا أن الولايات المتحدة سوف ترد من خلال دعم أوكرانيا وإظهار الاستعداد للانخراط في محادثات حول الأمن الأوروبي، حتى على الرغم من أن روسيا لم تكن جادة في القيام بذلك. كما استخدمنا النشر العلني المتعمد والمصرح به للمعلومات الاستخبارية لتحذير أوكرانيا وحشد شركاء الولايات المتحدة وحرمان روسيا من القدرة على خلق ذرائع كاذبة لغزوها.
عندما غزا بوتين أوكرانيا، طبّقنا سياسة لمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها دون إرسال قوات أميركية إلى الحرب. أرسلت الولايات المتحدة كميات هائلة من الأسلحة الدفاعية إلى الأوكرانيين وحشدت الحلفاء والشركاء للقيام بالمثل، وقامت بتنسيق المهمة اللوجستية الهائلة لتوصيل تلك القدرات إلى ساحة المعركة. وتم تقسيم هذه المساعدة إلى 47 حزمة مختلفة من المساعدات العسكرية حتى الآن، والتي تم تصميمها للاستجابة لاحتياجات أوكرانيا مع تطورها على مدار الصراع.
لقد تعاونا بشكل وثيق مع الحكومة الأوكرانية بشأن متطلباتها وعملنا من خلال التفاصيل الفنية واللوجستية للتأكد من أن لدى قواتها ما تحتاجه. وقمنا أيضاً بزيادة التعاون الاستخباراتي مع أوكرانيا، فضلاً عن جهود التدريب، وفرضنا عقوبات بعيدة المدى على روسيا للحد من قدرتها على شن الحرب.
كما أوضح الرئيس بايدن بشكل واضح أنه إذا هاجمت روسيا أحد حلفاء الناتو، فإن الولايات المتحدة ستدافع عن كل شبر من أراضي الحلفاء، وتدعم ذلك بنشر قوات جديدة. لقد بدأنا عملية مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها لمساعدة أوكرانيا على بناء جيش قادر على الدفاع عن نفسه في البر والبحر والجو وردع أي عدوان في المستقبل. إن نهجنا في أوكرانيا مستدام. وعلى النقيض من أولئك الذين يقولون خلاف ذلك، فهو يعزز قدرة الولايات المتحدة على مواجهة كل الطوارئ في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

المنافسة القادمة

من الواضح أن العالم أصبح أكثر قدرة على المنافسة، وأن التكنولوجيا سوف تشكل قوة تخريبية، وأن المشاكل المشتركة سوف تصبح أكثر حدة بمرور الوقت. لكن ليس من الواضح على وجه التحديد كيف ستظهر هذه القوى. لقد تفاجأت الولايات المتحدة في الماضي (مع أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962 وغزو العراق للكويت في عام 1990)، ومن المرجح أن تتفاجأ في المستقبل، بغض النظر عن مدى الجهود التي تبذلها الحكومة لتوقع ما هو آت. لقد أصابت وكالات الاستخبارات الأميركية كثيراً، بما في ذلك التحذير الدقيق من الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022. تم تصميم استراتيجيتنا للعمل في مجموعة واسعة من السيناريوهات. ومن خلال الاستثمار في مصادر القوة الداخلية وتعميق التحالفات والشراكات وتحقيق النتائج في مواجهة التحديات العالمية والبقاء منضبطين في ممارسة القوة، ستكون الولايات المتحدة مستعدة لتعزيز رؤيتها لعالم حر ومنفتح ومزدهر وآمن، بغض النظر عن المفاجآت. لقد خلقنا، على حد تعبير وزير الخارجية دين أتشيسون، «مواقف قوة».
إن عصر المنافسة القادم سيكون مختلفاً عن أي شيء شهدناه من قبل. كانت المنافسة الأمنية الأوروبية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عبارة عن منافسة إقليمية إلى حد كبير بين قوى متوسطة الحجم وقريبة، وانتهت في نهاية المطاف إلى كارثة. اندلعت الحرب الباردة التي أعقبت الحرب الأكثر تدميراً في تاريخ البشرية بين قوتين عظميين كانت مستويات الاعتماد المتبادل بينهما منخفضة للغاية. وانتهى ذلك بشكل حاسم لصالح واشنطن. المنافسة اليوم مختلفة جذرياً. إن الولايات المتحدة والصين مترابطتان اقتصادياً. إن المنافسة عالمية حقاً، ولكنها ليست صفرية. إن التحديات المشتركة التي يواجهها الجانبان غير مسبوقة.
كثيرا ما نُسأل عن الوضع النهائي للمنافسة الأميركية مع الصين. نتوقع أن تظل الصين لاعباً رئيسياً على الساحة العالمية في المستقبل المنظور. إننا نسعى إلى نظام دولي حر ومنفتح ومزدهر وآمن. نظام يحمي مصالح الولايات المتحدة وأصدقائها ويوفر المنافع العالمية العامة. ولكننا لا نتوقع حالة نهائية تحولية كتلك التي نتجت عن انهيار الاتحاد السوفييتي. سيكون هناك مد وجزر في المنافسة. ستحقق الولايات المتحدة مكاسب، لكن الصين ستحققها أيضاً. يجب على واشنطن أن توازن بين الشعور بالإلحاح والصبر، وفهم أن ما يهم هو مجموع أفعالها، وليس الفوز بجولة واحدة. نحن بحاجة إلى شعور مستدام بالثقة في قدرتنا على التفوق على أي بلد. لقد قلبت السنتان والنصف الماضية الافتراضات بشأن المسارات النسبية للولايات المتحدة والصين.
لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بعلاقات تجارية واستثمارية كبيرة مع الصين. لكن العلاقة الاقتصادية مع الصين معقدة لأن البلاد في حالة تنافس. لن يكون هناك أي اعتذار لردعنا الممارسات التجارية غير العادلة التي تضر بالعمال الأميركيين. نشعر بالقلق من أن الصين يمكن أن تستفيد من انفتاح واشنطن لاستخدام التقنيات الأميركية ضد الولايات المتحدة وحلفائها. وعلى هذه الخلفية، فإننا نسعى إلى التخلص من المخاطر والتنويع. نريد حماية عدد معين من التكنولوجيات الحساسة من خلال قيود مركزة وخلق ما أسماه البعض «ساحة صغيرة وسياجاً عالياً». لقد واجهنا انتقادات من مختلف الجهات بأن هذه الخطوات تجارية أو حمائية، وهذا غير صحيح. هذه خطوات تم اتخاذها بالشراكة مع الآخرين وتركز على مجموعة ضيقة من التقنيات، وهي خطوات تحتاج الولايات المتحدة إلى اتخاذها في عالم أكثر تنازعاً لحماية أمنها القومي مع دعم الاقتصاد العالمي المترابط.
وفي الوقت نفسه، نعمل على تعميق التعاون التكنولوجي مع الشركاء والحلفاء ذوي التفكير المماثل، بما في ذلك الهند ومن خلال مجلس التجارة والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو منتدى تم إنشاؤه في عام 2021. وسنواصل الاستثمار في قدرات الولايات المتحدة وجهودها في سلاسل التوريد الآمنة والمرنة. وسنواصل تعزيز أجندة تثبّت حقوق العمال في السعي للحصول على عمل لائق وآمن وصحي في الداخل والخارج لخلق فرص متكافئة للعمال والشركات الأميركية.
في بعض الأحيان، ستكون المنافسة شديدة، ونحن مستعدون لذلك. إننا نتصدى بقوة للعدوان والإكراه والترهيب وندافع عن القواعد الأساسية على هذا المنحى بشكل شبيه لحرية الملاحة في البحر. وعلى حد تعبير وزير الخارجية أنتوني بلينكين في خطاب، فإن «المصلحة الذاتية المستنيرة للولايات المتحدة في الحفاظ على هذا النظام وتعزيزه لم تكن أعظم من أي وقت مضى». ندرك أيضاً أن منافسي الولايات المتحدة، خاصةً الصين، لديهم رؤية مختلفة جذرياً.
لكن تحتاج واشنطن وبكين إلى معرفة كيفية إدارة المنافسة لتقليل التوترات وإيجاد طريقة للمضي قدماً في مواجهة التحديات المشتركة. ولهذا السبب، تعمل إدارة بايدن على تكثيف الدبلوماسية الأميركية مع الصين والحفاظ على قنوات الاتصال الحالية وإنشاء قنوات جديدة. لقد استوعب الأميركيون بعض الدروس المستفادة من أزمات العقود الماضية، خاصةً احتمال الانزلاق إلى الصراع. ويشكل التفاعل رفيع المستوى والمتكرر أهمية بالغة لتوضيح الفهم الخاطئ وتجنب سوء التواصل وإرسال إشارات لا لبس فيها ووقف الانحدار الذي قد يؤدي إلى أزمة كبرى.
ولسوء الحظ، بدت بكين في كثير من الأحيان وكأنها استخلصت دروساً مختلفة بشأن إدارة التوترات، وخلصت إلى أن حواجز الحماية يمكن أن تغذي المنافسة بنفس الطريقة التي تشجع بها أحزمة الأمان القيادة المتهورة. (وهو اعتقاد خاطئ، فكما أن استخدام أحزمة الأمان يقلل الوفيات الناجمة عن حوادث المرور إلى النصف، فإن التواصل وتدابير السلامة الأساسية تقلل من خطر وقوع حوادث جيوسياسية). ولكن في الآونة الأخيرة، كانت هناك علامات مشجعة تشير إلى أن بكين قد تدرك أهمية ربط أحزمة الأمان. وسيكون الاختبار الحقيقي هو ما إذا كانت القنوات قادرة على الصمود عندما تتصاعد التوترات حتماً.
وعلينا أن نتذكر أيضاً أنه ليس كل ما يفعله المنافسون يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة. أدى الاتفاق الذي توسطت فيه الصين هذا العام بين إيران والمملكة العربية السعودية جزئياً إلى خفض التوترات بين هذين البلدين، وهو أمر تريده الولايات المتحدة. ولم يكن بوسع واشنطن أن تحاول التوسط في هذه الصفقة، نظراً لعدم وجود علاقات دبلوماسية أميركية مع إيران، ولا ينبغي لها أن تحاول تقويضها. ولنأخذ مثالا آخر، تنخرط الولايات المتحدة والصين في منافسة تكنولوجية سريعة وعالية المخاطر، ولكن يتعين على الجانبين أن يكونا قادرين على العمل معاً في مواجهة المخاطر التي تنشأ عن الذكاء الاصطناعي. القيام بذلك ليس علامة على التذبذب. إنه يعكس تقييماً واضحاً بأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يشكل تحديات فريدة للبشرية وأن القوى العظمى تتحمل مسؤولية جماعية للتعامل معها.
ومن الطبيعي أن الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة والصين لن تتعامل مع كليهما، سعياً إلى الاستفادة من المنافسة، في حين تسعى إلى حماية مصالحها الخاصة من أي آثار غير مباشرة. ترى العديد من هذه الدول نفسها كجزء من الجنوب العالمي، وهو التجمع الذي لديه منطق خاص به ونقد خاص للغرب يعود تاريخه إلى الحرب الباردة وتأسيس حركة عدم الانحياز. ولكن، خلافاً لما حدث خلال الحرب الباردة، سوف تتجنب الولايات المتحدة إغراء أن ترى العالم من خلال منظور المنافسة الجيوسياسية فقط أو التعامل مع هذه البلدان كأماكن للتنافس بالوكالة. وبدلاً من ذلك، ستواصل التعامل معهم وفقاً لشروطهم الخاصة. وينبغي على واشنطن أن تكون واقعية بشأن توقعاتها عند التعامل مع هذه الدول، وأن تحترم سيادتها وحقها في اتخاذ القرارات التي تخدم مصالحها الخاصة. ولكن يجب أيضاً أن يكون واضحاً بشأن ما هو الأكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة. وهذه هي الطريقة التي سنسعى بها إلى تشكيل العلاقات معهم: بحيث يكون لديهم في المحصلة حوافز للتصرف بطرق تتفق مع المصالح الأميريكية.
في العقد المقبل، سيصرف المسؤولون الأميركيون وقتاً أطول مما قضوه على مدى السنوات الثلاثين الماضية في التحدث مع البلدان التي يختلفون معها، وغالباً حول قضايا جوهرية. لقد أصبح العالم أكثر تنافساً، ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تتحدث إلا مع أولئك الذين يشاركونها رؤيتها أو قيمها. وسنواصل العمل على تشكيل المشهد الدبلوماسي الشامل بطرق تعزز المصالح الأميركية والمصالح المشتركة. على سبيل المثال، عندما أعلنت الصين والبرازيل ومجموعة من سبع دول أفريقية أنها ستواصل جهود السلام لإنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا، فإننا لم نرفض هذه المبادرات من حيث المبدأ. لقد دعونا هذه الدول إلى التحدث مع المسؤولين الأوكرانيين وتقديم ضمانات بأن مقترحاتهم للتسوية ستكون متسقة مع ميثاق الأمم المتحدة.
وبعض البذور التي نزرعها الآن – الاستثمارات في التكنولوجيا المتقدمة، على سبيل المثال، أو غواصات «AUKUS» – سوف تستغرق سنواتٍ عديدة لتؤتي بثمارها. ولكن هناك أيضاً بعض القضايا التي يمكننا أن نعمل على حلها الآن، أو ما نسميه «الأعمال غير المكتملة». ويتعين علينا أن نضمن وجود أوكرانيا ذات سيادة وديمقراطية وحرة. ويتوجب علينا تعزيز السلام والاستقرار في مضيق تايوان. ويتعين علينا أن نعمل على تعزيز التكامل الإقليمي في الشرق الأوسط مع الاستمرار في كبح جماح إيران. علينا تحديث القاعدة العسكرية والصناعية الدفاعية للولايات المتحدة. ويتوجب علينا أن نفي بالتزاماتنا المتعلقة بالبنية الأساسية والتنمية والمناخ تجاه الجنوب العالمي.
لقد وصلت الولايات المتحدة إلى المرحلة الثالثة من الدور العالمي الذي تولته بعد الحرب العالمية الثانية. في المرحلة الأولى، وضعت إدارة هاري ترومان الأساس للقوة الأميركية لتحقيق هدفين: تعزيز الديمقراطيات والتعاون الديمقراطي واحتواء الاتحاد السوفياتي. وتضمنت هذه الاستراتيجية، التي نفذها الرؤساء اللاحقون، بذل جهد شامل للاستثمار في الصناعة الأميركية، خاصةً في التقنيات الجديدة، من الخمسينيات إلى السبعينيات. بدأ هذا الالتزام بالقوة الوطنية من خلال الاستثمار الصناعي في التآكل في ثمانينيات القرن العشرين، ولم تكن الحاجة إليه ملحوظة بعد الحرب الباردة. وفي المرحلة الثانية، مع عدم وجود منافس نظير للولايات المتحدة، سعت الإدارات المتعاقبة إلى توسيع النظام القائم على القواعد بقيادة الولايات المتحدة وإنشاء أنماط من التعاون في القضايا الحاسمة. لقد حول هذا العصر العالم إلى الأفضل بعدة طرق، فأصبحت العديد من البلدان أكثر حرية وازدهاراً وأماناً وتم خفض الفقر العالمي، واستجاب العالم بفعالية للأزمة المالية في عام 2008، ولكنها كانت أيضاً فترة من التغيير الجيوسياسي.
تجد الولايات المتحدة نفسها الآن في بداية العصر الثالث، عصر تتأقلم فيه مع فترة جديدة من المنافسة في عصر الاعتماد المتبادل والتحديات العابرة للحدود الوطنية. وهذا لا يعني القطيعة مع الماضي أو التنازل عن المكاسب التي تحققت، لكنه يعني إرساء أسس جديدة للقوة الأميركية. ويتطلب هذا إعادة النظر في الافتراضات الراسخة إذا أردنا أن نجعل الولايات المتحدة أقوى وأفضل استعداداً لما ينتظرنا في المستقبل. إن نتيجة هذه المرحلة لن تحددها قوى خارجية فقط، بل سوف يتم تحديد ذلك أيضاً إلى حد كبير من خلال خيارات الولايات المتحدة الخاصة.

مستشار الأمن القومي الأميركي

المصدر:فورين بوليسي

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد