عندما يدفع الأرمن الثمن

محمد سيد رصاص

في نوفمبر/تشرين الثاني 2001، اجتمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين مع الرئيس الأذربيجاني حيدر علييف والرئيس الأرميني روبرت كوشاريان لبحث تسوية للنزاع الأذربيجاني- الأرميني الذي تسبب في حرب 1993-1994 وفي تهجيرات متبادلة للأرمن والأذربيجانيين منذ عام 1990وفي احتلال أرميني لسبع مقاطعات أذربيجانية بتلك الحرب التي اشتعلت بعد نزاع استغرق خمسة أعوام على إقليم ناغورنو كاراباخ الذي كان، وأغلبية سكانه من الأرمن، يتمتع بحكم ذاتي داخل جمهورية آذربيجان السوفياتية منذ عام 1923، ثم أعلن نفسه جمهورية مستقلة باسم جمهورية آرتساخ في 10 ديسمبر/كانون الأول 1991 قبل أسبوعين من تفكك الاتحاد السوفياتي.

كان الثلاثة الذين اجتمعوا ذلك اليوم بالكرملين أعضاء في الحزب الشيوعي السوفياتي. فعلييف كان سكرتير الحزب الشيوعي في جمهورية آذربيجان السوفياتية، ثم أصبح في الثمانينيات عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي. وكوشاريان كان في الثمانينيات سكرتيراً لمنظمة الشبيبة الشيوعية في مدينة ستيباناكيرت عاصمة إقليم ناغورنو كاراباخ. وبوتين كان مسؤول محطة الاستخبارات السوفياتية في برلين الشرقية حتى انهيار جدار برلين.

هؤلاء الشيوعيون الثلاثة أصبحوا قوميين بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي وتفرقت فيهم السبل. فكوشاريان قاد العمل العسكري لسيطرة الأرمن على ناغورنو كاراباخ والأقاليم الأذربيجانية السبعة في حرب 1993-1994، وأصبح رئيس وزراء ثم رئيس جمهورية آرتساخ قبل أن يتقلد هذين المنصبين في جمهورية أرمينيا. وعلييف أصبح قومياً تركياً طورانياً متحالفاً مع تركيا بمساندة من الولايات المتحدة وإسرائيل، فيما كان بوتين عندما دخل الكرملين رئيساً للاتحاد الروسي في يناير/كانون الثاني 2000 يحمل برنامجاً لاستعادة القوة الروسية في العلاقات الدولية. وهؤلاء الثلاثة يجسدون فشل البلاشفة والماركسية السوفياتية في إنشاء رابطة ما فوق قومية، عبر الاشتراكية، أريد منها حل مسألة القوميات التي انضوت في الدولة الروسية القيصرية ثم جمعها فلاديمير لينين ومفوض القوميات جوزيف ستالين عام 1922 في اتحاد عابر للقوميات اسمه الاتحاد السوفياتي. وليس من دون دلالة هنا أن تكون عملية انفجار مشكلة إقليم ناغورنو كاراباخ في عام 1988، عندما طالب السكان الأرمن الذين يمثلون غالبية السكان هناك بنقل تابعية الإقليم من جمهورية أذربيجان السوفياتية إلى جمهورية أرمينيا السوفياتية، هي أول انفجار قومي في الجسم السوفياتي بعد ضعف قبضة المركز في موسكو واهتزازه زمن ميخائيل غورباتشوف، فيما كان التوتر القومي يهال فوقه تراب كثيف كان اسمنته القبضة الحديدية للكرملين منذ زمن ستالين الذي خلف لينين عام 1924 في دولة كان اسمها «دولة إخوة الشعوب».

انتهت حرب 1993-1994 بانتصار عسكري كاسح للأرمن وكان اتفاق إنهائها يضم توقيع جمهورية آرتساخ إضافة إلى أرمينيا وآذربيجان ولكن من دون اعتراف باكو بالواقع على الأرض الذي أنتجته الحرب. وكانت موسكو التي رعت اتفاق إنهاء الحرب داعمة للأرمن الذين كانوا في عداء تاريخي مع الجوار التركي ومع الشقيق السوفياتي السابق الأذربيجاني وفي علاقات فاترة مع الجار الجيورجي. ولم تسعفهم الصداقة المفاجئة من الجار الإيراني الجنوبي الذي توجس من استيقاظ قومية سكانه الأذربيجانيين مع قوة الدولة الأذربيجانية الجديدة بالشمال في العاصمة باكو ذات التفضيل لارتباطها القومي مع تركيا على ارتباطها الشيعي مع إيران. وهي دولة، منذ تأسيسها عام 1991، كانت بنفطها وبكونها معبراً لمشاريع نقل غاز تركمانستان عبر جيورجيا وتركيا إلى القارة الأوروبية، موضع اهتمام واشنطن وأنقرة. وهنا، كان اهتمام موسكو التسعينيات في أرمينيا كمرتكز روسي في منطقة جنوب القفقاس متسقاً مع صداع الكرملين في شمال القفقاش مع التمرد الشيشاني الذي انفجر في حرب مع روسيا 1994-1996، ومع رؤية روسية قديمة منذ أيام القياصرة بأن القفقاس هو الجدار الروسي الجنوبي الغربي ضد الامتدادين الفارسي والعثماني، وبأن ارمينيا هي الجدار الذي يمنع تركيا من التواصل الجغرافي مع «العالم التركي» الذي قال الرئيس التركي الذي توفي في 1993 توركوت أوزال أنه «يمتد من بحر إيجة إلى تركستان الصينية»، وهو ما تتشارك طهران مع موسكو في تلك الرؤية لأرمينيا.

في هذا الإطار، ظل كوشاريان يرى حتى انتهاء رئاسته عام 2008 في موسكو حامية للأرمن، وأدخل أرمينيا عام 2002 في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تعتبر روسيا فيها بمثابة الأخ الكبير لدول دخلت فيها مثل بيلاروسيا وطاجكستان وكازاخستان وقرغيزستان. وهو كان رئيس وزراء أرمينيا عام 1997 عندما تم توقيع معاهدة الأمن والصداقة الروسية- الأرمينية مع قواعد عسكرية روسية في الأراضي الأرمينية. وعلى الأرجح، أنه كان يرى أن صداقة الكرملين هي التي تجعل أرمينيا متفادية لوضعية قطعة اللحم بين الشطيرة التركية- الأذربيجانية، والظهير الروسي هو الذي جعله يتصلب في المفاوضات مع الأذربيجانيين في فرنسا ورومانيا وتشيكيا في فترة 2001-2006 حينما رفض عروضاً بانسحاب القوات الأرمينية من المناطق الأذربيجانية المحتلة خارج نطاق إقليم ناغونو كاراباخ وإعادة المهجرين الأذربيجانيين بالحرب لأراضيهم، وعددهم نصف مليون، مع موافقة باكو على إعطاء الإقليم أعلى درجات الحكم الذاتي في نطاق جمهورية أذربيجان، فيما أصر الأرمن على استفتاء لحق تقرير المصير في الإقليم مع الاحتفاظ بالسيطرة التي دانت لهم منذ 1994 على ممر لاشين الواصل بين الإقليم والأراضي الأرمينية بطول خمسة كيلومترات.

مع رحيل كوشاريان، بدأت تفتر العلاقات بين يريفان وموسكو، ولو ببطء، حينما لم تظهر مفاعيل هذا الفتور حتى النصف الثاني من العشرية الثانية من القرن الجديد، إذ وقعت أرمينيا على اتفاقية الاتحاد الجمركي الأوراسي مع روسيا عام 2015 وهي تضم معهما كازاخستان وقرغيزستان. ولكن غيوم الفتور الأرميني– الروسي لم تمطر إلا بعد أن بدأت تقاربات بوتين وأردوغان منذ عام 2016 بالتوازي مع تقاربات بوتين والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف الذي خلف والده بعد وفاته عام 2003، وهو ما ترجم في ازدياد التعاون العسكري بين موسكو وباكو وتطور كبير في العلاقات الاقتصادية.

عندما تسلم نيكول باشايان منصب رئاسة الوزراء في أرمينيا في ربيع 2018، وضحت سكة التباعد بين أرمينيا وروسيا. ويبدو أن علييف أدرك أن الروس سيقفون معه حينما شن حربه في 2020. وحينما وقعت اتفاقية نوفمبر/تشرين الثاني 2020 بعد شهرين من الحرب في الكرملين برعاية بوتين وبحضور باشايان وعلييف وآخر خفي لأردوغان، فإنها لم تكن سوى استسلاماً أرمينياً اعترفت فيها بخسارة الأقاليم الأذربيجانية السبعة مع ثلث ناغونو كاراباخ وسيطرة باكو على ممر لاشين تحت إشراف قوات حفظ سلام روسية. ونصت المادة التاسعة من الاتفاقية على إنشاء ممر أسماه الأذربيجانيون زانكيزور، وأحياناً ناخاتشيفان، يربط عبر أربع وأربعين كيلومتراً من الأراضي الأرمينية الجنوبية بين أذربيجان ومنطقة ناخاتشيفان الأذربيجانية التي ترتبط بسبعة عشر كيلومتراً من الحدود مع تركيا. وذكرت المادة أن
«جمهورية أرمينيا تضمن النقل الحر بالاتجاهين الواصل بين الجزء الغربي من أذربيجان ومنطقة ناخاتشيفان للأشخاص والعربات والشاحنات وأن تضمن قوات حرس الحدود الروسية من قوات حفظ السلام مراقبة الحركة على الممر». وفي منطقة أذربيجانية محاذية للممر، قال أردوغان في تصريح في أكتوبر/تشرين الأول 2021 أن الممر المزمع إقامته هنا هو «من أجل توحيد العالم التركي بأكمله». واللافت للنظر تأييد روسيا لهذا الممر والخشية الإيرانية منه، في وقت هدد علييف بإقامته بالقوة إن تمنعت أرمينيا عن التعاون والموافقة على إقامته.

وفي مطلع 2023، أغلقت أذربيجان ممر لاشين وهو شريان الحياة لناغورنو كاراباخ وسط صمت روسي وهي صاحبة القوات المشرفة على فتح الممر وفق اتفاقية 2020، بالتزامن مع رفض باشايان اشتراك أرمينيا في المناورات المشتركة لقوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا، ثم إعلانه بمؤتمر صحافي في يريفان في 23 مايو/أيار أن أرمينيا «يمكن أن تفكر في مغادرة المنظمة إن فشل التكتل في احترام التزاماته»، ويبدو أن تشجع علييف على هجوم سبتمبر/أيلول 2023 الذي وجود جمهورية آرتساخ كان قراءة لتصريح باشايان لصحيفة «لا ريبوبليكا» الإيطالية في الثالث من سبتمبر/أيلول الذي تحدث فيه عن «الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته أرمينيا باعتمادها على روسيا في حماية أمنها»، ملوحاً بأن بلاده «ستقوم بتنويع ترتيباتها الدفاعية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي»، إذ كانت ترجمة ذلك اكتفاء قوات حفظ السلام الروسية بمراقبة الهجوم الأذربيجاني الذي انتهى في يوم واحد بالسيطرة على إقليم ناغورنو كاراباخ بأكمله والاكتفاء بمراقبة النزوح الجماعي لسكانه الأرمن المائة والخمسون ألفاً نحو أرمينيا. وعلى ما يبدو، قرر بوتين معاقبة باشايان بعد أن أبدى ميولاً نحو الغرب الأميركي- الأوروبي وصلت به للإعلان في الخامس من سبتمبر/أيلول عن «نية أرمينيا إقامة تدريبات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة».

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد