طارق حمو
الهجمات التركية بالمسيّرات والطائرات الحربية على البنى التحتية في مناطق شمال شرق سوريا، تمثل تصعيداً، ورفعاً لحالة التوحش إلى أقصى مداياتها، ضمن منهجية شاملة وثابتة في الحرب المستمرة على هذه المناطق وأهلها. آلة الحرب التركية تشن الآن عمليات تدمير وتخريب تطال المنشآت المدنية والمرافق العامة من محطات الكهرباء والماء والوقود ومخازن الحبوب والسدود، والمشافي والمدارس والمباني والجسور والطرق، وحتى دور العبادة. إنها سياسة الأرض المحروقة، أو “حرق ما فوق وما تحت الأرض”، مثلما أعلن ذلك صراحة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في تصريح/ تمهيد، قال فيه بأن الدولة التركية ستدمر البنية التحتية وكل سبل العيش والحياة في مناطق شمال شرق سوريا.
والحجة التي ساقها فيدان ( وزير الاستخبارات السابق، ومهندس ارسال الجهاديين إلى سوريا، وصاحب سيناريو: “تمرير” عناصر تطلق صواريخ من الجهة السورية على تركيا، لخلق مبرر التدخل العسكري!)، كانت الهجوم الذي نفذه مقاتليّن في حزب العمال الكردستاني، واستهدف مقر وزارة الداخلية التركية في أنقرة. لقد زعم فيدان مباشرة، وبعد الهجوم المباغت الذي شكلّ، ضمن السياق الداخلي التركي، اختراقاً ورسالة تحذير، بأن المنفذيّن قدما من مناطق الإدارة الذاتية، مخترعاً سيناريوهاً غريباً، تلقفته وسائل الإعلام التركية، واشتغلت عليه تضخيماً وتحويراً. وبدأت الحكومة في البناء على هذا السيناريو، واطلاق هجمات مكثفة ومتواصلة لتدمير كل مقومات الحياة لملايين البشر في مناطق شمال شرق سوريا.
ولعل من المفيد الإشارة إلى العادة التركية في “فبركة” السيناريوهات الكاذبة والاستناد عليها لشن حملات الاحتلال والتخريب لتحقيق مكاسب سياسية في البلادوتصدير الأزمات الداخلية للخارج. وكانت الحكومة التركية قد قدمت فتاة بأسم “أحلام البشير“، قالت أنها هي من نفذت الهجوم الذي وقع في ميدان تقسيم في اسطنبول في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، وأسفر عن مقتل وجرح العشرات، زاعمة بأنها عضو في وحدات حماية الشعب، وجاءت من مناطق شمال شرق سوريا. وقد كشف الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية في مقابلة له مع موقع “مونيتور” في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 عن حقيقة “فتاة الانفجار”، ونشر معلومات موثقة عنها وعن عائلتها المنتمية إلى تنظيم “داعش”، ومن بينها حيثيات مقتل ثلاثة من أشقائها في صفوف مقاتلي التنظيم (قتلوا في: الرقة ومنبج والعراق)، ووجود شقيق آخر لها يقود إحدى فصائل ميليشيا “الجيش الوطني” المدعومة من تركيا، وكيف ان “أحلام البشير“ هذه، كانت نفسها متزوجة من ثلاثة رجال كانوا عناصراً في تنظيم “داعش”. وعقب نشر تلك المعلومات، بدأت السلطات التركية في التكتم على مجريات التحقيقات، وتلاشى الضجيج، وكفت وسائل الإعلام عن الإشارة إلى القصة.
الهجمات التركية المكثفة منذ 04/ 10/2023 والمستمرة حالياً، تهدف إلى تدميرالبنية التحتية والخدمية في مناطق الإدارة الذاتية (بلغت حتى ساعة كتابة هذه السطور 172 موقعا، بينها محطة السويدية، أكبر محطّة في إقليم الجزيرة، وتلبّي احتياجات أهالي الإقليم من الغاز والكهرباء، كما وتغذّي محطات المياه الموجودة في باقي المدن بالكهرباء). خطط الحرب والتخريب لدى تحالف العدالة والتنمية والحركة القومية في أنقرة، تقوم على تدمير المنطقة، وتخريب مصادر الحياة فيها، بغية دفع الأهالي إلى الهجرة، والتضييق على مؤسسات الإدارة الذاتية، واظهار عجزها عن بناء ما تهدم، وبالتالي محاولة خلق حالة من التذمر والرفض وسط المواطنين. إنها جرائم حرب ضد الانسانية، لا تنكر الدولة التركية مسؤوليتها عنها، ولا تنفي الإعلان صراحة عن أهدافها في تخريب وتدمير المنطقة، والقضاء على سبل ومصادر العيش فيها. وعليه لا يمكن تصديق حجج وأعذار الدولة التركية والسيناريوهات المختلقة التي تقدمها، حول “التهديد” الذي تشكله الإدارة وقوات سوريا الديمقراطية عليها. والتحالف الدولي لمكافحة “داعش“، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، يعلم حقيقة السياسة التركية التي تهدف إلى تدمير الإدارة الذاتية وتمكين الفوضى والإرهاب فيها، فضلاً عن تحققه من اكاذيب السيناريوهات الرسمية التركية المفتعلة حول هوية منفذي بعض الهجمات المشبوهة في اسطنبول وأنقرة. ولم يحدث وأن تسلم التحالف من تركيا أي أدلة تثبت علاقة للادارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية بما حصل في تركيا من هجمات. ولعل المتابع للمواقف الصادرة من التحالف والولايات المتحدة، سيعلم بأن هناك شكوكاً قوية ومستمرة في الروايات والاتهامات التركية حيال الإدارة وقوات سوريا الديمقراطية.
لا يمكن التسليم بالمروية التركية حول “تورط” الإدارة وقوات سوريا الديمقراطية في الهجمات التي وقعت في تركيا، والتي تأتي دائماً قبل الانتخابات، وتكون ضعيفة “الحبكة” الإعلامية والإخراج العملياتي، وتحمل بشكل واضح بصمات الاستخبارات التركية. إنها مجرد أسلوب من أساليب “غرفة عمليات الحرب الخاصة”، بهدف تبرير التدخل العسكري التركي في مناطق شمال شرق سوريا، وتدمير الادارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، وتهجير سكان تلك المناطق، وتمكين الجماعات المسلحة الخارجة على القانون فيها. ولا يحتاج المرء إلى الكثير من الحذاقة والفهم السياسي لكي يعلم حقيقة الأهداف التركية، ويتحقق من كذب السيناريوهات المفبركة تلك. فتركيا التي احتلت عفرين ورأس العين، هجرّت أهلها الكرد، وصادرت دورهم وأراضيهم، واستجلبت مئات آلاف المستوطنين، بغية إحداث التغيير الديمغرافي، بعد تهجير واجتثاث الكرد. هذا ما يحدث في المناطق التي احتلتها تركيا في عملياتها الاحتلالية في أعوام 2016 و2018 و2019، أما في بقية مناطق الإدارة الذاتية، فنحن نرى اليوم مقدار التخريب والدمار التي تحدثه آلة الحرب التركية.
مئات المنظمات الأهلية والجمعيات المدافعة عن حقوق الانسان ادانت تخريب تركيا للبنية التحتية في مناطق شمال شرق سوريا، وأصدرت بيانات موجهة للمجتمع الدولي تشرح الكارثة الانسانية الناجمة من هجمات آلة الحرب التركية، مطالبة بالتدخل السريع والضغط على أنقرة لوقف عدوانها على المدنيين ومصالحهم ومصادر حياتهم (بيان: 151 جمعية أهلية ومنظمة مجتمع مدني لإدانة الهجمات التركية، وبيانات عشرات القوى الحقوقيةوالسياسية والعشائرية الكردية والعربية والسريانية والأرمنية والإيزيدية). كما وتظاهر المئات من المواطنين أمام ممثلية الأمم المتحدة في قامشلو وأمام قاعدة عسكرية لقوات التحالف للتنديد بهجمات الدولة التركية، والمطالبة بوقفها، في ما تتواصل مظاهرات الجالية الكردية حول العالم.
قوات سوريا الديمقراطية، وفي اطار استراتيجيتها في حق الرد ضمن الدفاع المشروع عن النفس، نفذت عدة هجمات خاطفة ونوعية ضد قواعد جيش الاحتلال التركي في العديد من المناطق المحتلة، أسفرت عن مقتل وجرح عشرات الجنود الأتراك ومرتزقة “الجيش الوطني”. وقد أعلنت قوات سوريا الديمقراطية بأنها ستنتقم للمدنيين الأبرياء وستواصل عملياتها ضد نقاط الاحتلال التركي. وكانت قوات تحرير عفرين قد أعلنت، هي الأخرى، عن تنفيذ هجمات طالت جنود الجيش التركي في منطقة إعزاز المحتلة. والواضح بأن هجمات الرد واستهداف المواقع العسكرية التركية، ستتواصل طالما استمر الجيش التركي في تخريب البنية التحتية وقتل مواطني الإدارة الذاتية. والعالم كله، وعلى رأسه التحالف الدولي لمحاربة “داعش” يعلم بأن قوات سوريا الديمقراطية لا تستهدف سوى النقاط والمواقع العسكرية وجنود ومرتزقة الجيش التركي، وإنه لم يحدث وأن قصفت أي مدني أو جهة داخل الأراضي التركية، وهو ما يظهر، مرة أخرى، كذب ودجل الحكومة التركية في اتهامها للإدارة وقوات سوريا الديمقراطية بالتورط في التفجيرات التي حصلت داخل المدن التركية.
وكخلاصة لقراءة لهجمات الابادة التركية يمكن تثبيت النقاط التالية:
أولاً: إن هجمات المسيّرات والقصف المدفعي، وعمليات توغل مرتزقة “الجيش الوطني” في مناطق الإدارة الذاتية، كانت متواصلة قبل الهجوم الواسع الهادف لتخريب البنية التحتية، والذي جاء بحجة الرد على “تورط الإدارة” في عملية أنقرة. وعليه لا يمكن لأي حصيف تصديق الحجج والأعذار التركية.
ثانياً: إن الحكومة التركية أعلنت صراحة بأن “بنك الأهداف” لديها سيضم كل البنى التحتية من سبل العيش والحياة في مناطق الإدارة الذاتية، وإن الهدف هو التخريب والتدمير، كتوطئة وتمهيد لإزالة كل مظاهر الحياة، وبالتالي دفع المواطنين إلى الهجرة ومغادرة المنطقة.
ثالثا: إن التحالف الدولي والولايات المتحدة الأميركية يعلمان كذب السيناريوهات التركية، وتحققا من زيفها وفبركتها، وهما يعيان بأن الهدف شحن الداخل التركي وتحقيق مكاسب سياسية والتهرب من حالة الانسداد والتراجع، بالاضافة إلى الهدف الأكبر وهو تخريب الإدارة ودفع الناس للهجرة، وتمكين الفوضى والميليشيات الخارجة على القانون، وعلى رأسها “داعش” فيها.
رابعاً: إن الهدف التركي هو تطبيق نموذج التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي وإزالة الكرد من مناطقهم التاريخية، كما حدث في كل من عفرين ورأس العين، وتسليم تلك المناطق لأدواتها في الجماعات المسلحة المأجورة. فالاستراتيجية التركية تقوم الآن على تدمير وتخريب المناطق التي لا تستطيع احتلالها مباشرة.
خامساً: قوات سوريا الديمقراطية وقوات تحرير عفرين، سيمارسان حق الدفاع عن النفس، وسيواصلان شن الهجمات المباغتة ضد نقاط الجيش التركي، متمسكين بعقيدتهما في استبعاد المدنيين والمناطق الآهلة في الجانب التركي. والهجمات الأخيرة أثبتت قوة وفاعلية العمليات الخاطقة الدقيقة، وأوصلت رسالة للجانب التركي بأن جرائم الإبادة والتخريب لن تمر دون عقاب ودفع الثمن.