شورش درويش
خلال الساعات الماضية نفّذت المسيّرات التركية ضربات على أهداف شملت بنى تحتية ومنشآت حيوية في شمال شرقي سوريا، مستغلّة المزاعم التي تحدث عنها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بأن مقاتلي قوات الدفاع الشعبي، الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني، كانا «مرا من الأراضي السورية»، وهو الأمر الذي نفته قوات سوريا الديمقراطية على لسان قائدها العام مظلوم عبدي في تغريدة نشرها على موقع «إكس» الأربعاء الماضي، مؤكداً أن منفذي «هجوم أنقرة لم يمروا من مناطقنا كما يزعم مسؤولون أتراك، كما أننا لسنا طرفاً في الصراع الداخلي التركي، ولا نشجع على تصاعد وتيرته».
تبدو الرواية التركية عن مرور أو تلقي منفذي الهجوم على مديرية وزارة الداخلية بأنقرة تدريبات في مناطق «قسد»، غير محكمة وتفتقر للأدلة الموضوعية، كما أن الاختيار السريع لبنك الأهداف المتمثّل بالبنى التحتية والمنشآت الحيوية للإدارة الذاتية يكشف عن رغبة تركية سابقة للعملية بوجوب تدمير اقتصاد منطقة الإدارة والإضرار بسبل عيش السكان بالاعتماد على المسيّرات التي لا يلقى نشاطها الكثير من الاعتراض من القوى الدولية المتواجدة على الأرض، لولا أن إسقاط إحداها من قبل القوات الأميركية يعد سابقة في هذا الاتجاه.
الرواية التركية الضعيفة
في نوفمبر/تشرين الثاني العام الفائت، زعمت تركيا أن شابة سورية ألقي القبض عليها كانت مسؤولة عن تنفيذ اعتداء شارع الاستقلال باستنبول. ومن دون سرد محكم للتفاصيل أو تقديم رواية مقنعة، سارعت الحكومة التركية إلى إلصاق التهمة بقوات سوريا الديمقراطية لأجل تبرير عمليات استهدافها وإلحاق أضرار بالبنية التحتية في مناطق سيطرتها. وفي المحصلة، بقيت قصة اعتداء شارع الاستقلال طيّ الكتمان وواحدة من أسرار الدولة التي لم يتم الكشف عن ملابساتها والجهات المتورّطة فيها. وعلى الرغم من نفي «قسد» وقتها الاتهامات التركية على ما قاله القائد العام مظلوم عبدي في تغريدة جاء فيها «إننا نؤكد أن قواتنا ليست لها أي علاقة بتفجير إسطنبول، ونرفض المزاعم التي تتهم قواتنا بذلك»، إلّا أن الإصرار التركي على اتهام «قسد» جاء لأجل تنفيذ سلسلة هجمات على مناطق سيطرة «قسد» بهدف كسب الحكومة التركية المزيد من النقاط في معركتها الانتخابية المقبلة، والتعمية على الجهات الفعلية التي تقف خلف الحادثة.
وفي هذه الغضون، ومع العملية التي أعلن حزب العمال الكردستاني صراحةً تنفيذه لها بداية الشهر الجاري، بعكس اعتداء اسطنبول العام الماضي، سارعت أنقرة عبر وزير خارجيتها إلى القول إن منفّذي العملية جاءا عبر الأراضي الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية. هذه الرواية السريعة ألحقها الوزير بأن البنى التحتية ستكون هدفاً للجيش التركي. لكن، كيف عرفت الحكومة التركية بأن منفّذي الهجوم جاءا عبر الأراضي السورية أو «تلقيا التدريب» فيها؟ هل كانت الجهات الأمنية التركية على علمٍ بالعملية حتى تسنّى لها معرفة خط سير المنفذَين؟ على الرغم من أن منفّذي العملية قاموا بعملية «استشهادية» على ما أعلنه العمال الكردستاني، ولم يتم إلقاء القبض على أي شخص ذي صلة بالحادثة حتى تتبنّى أنقرة هذه الرواية.
يبدو أن الغاية من التصعيد التركي يأتي في سياق أمور تحدث في الداخل التركي، وإذا كان هجوم الكردستاني بمثابة الصاعق الذي فجّر خلافات بين أطياف من الحكومة السابقة واللاحقة المتهمة بالإخفاق الأمني، إلّا أن رغبة الحكومة الجديدة في إثبات حضورها دفعها لاختيار هدفٍ خارجيّ، وهي مناطق شمال شرقي سوريا، لتثبيت صورة الحكومة القوية في أذهان الجمهور التركي. لكن كل ذلك يأتي في ظل غياب شبه تام للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يجيد التقاط هذه المناسبات ليخطب في مؤيديه. فالرئيس لم يقل «أي شيء جديد»، على ما قاله وزير الدفاع يشار غولر للصحافيين رداً على سؤال عما إذا كانت تصريحات أردوغان تشير إلى خطط لعملية جديدة واسعة النطاق عبر الحدود في سوريا.
حرب المسيّرات واختيار بنك الأهداف
في مراحل سابقة، استهدفت المسيّرات التركية منشآت حيوية وبنىً تحتية أضرت باقتصاد السكان في مناطق الإدارة الذاتية. إلّا أن درجة الاستهدافات الأخيرة كانت الأشد بالنظر إلى توسيع نطاق الاستهدافات التي شملت عصب اقتصاد منطقة الإدارة الذاتية: قطاعات النفط ومستودعات الوقود ومعمل للاسمنت ومحطات الكهرباء وبعض المعامل والمنشآت الصناعية، وامتدت إلى قصف محيط مخيم واشوكاني للنازحين غربي الحسكة. وبنظرة تحليلية لطبيعة بنك الأهداف، التي حددتها وزارة الدفاع التركية وأعلن عنها وزير الخارجية التركي، يمكن ملاحظة أن الغاية من الاستهدافات هي تجفيف سبل العيش للمنطقة والتضييق على حكومة الإدارة وجدارتها في تسيير الشؤون العامة على الرغم من المعوّقات التي تعترضها. وبالتالي، فإن عمليات التدمير استراتيجية قد تؤدي في مرحلة لاحقة إلى إفقار المنطقة وتعطيل عمل الإدارة الخدميّ، الأمر الذي قد يتسبب في تململ سكان مناطق الإدارة من جودة الخدمات وانعدام بعضها الآخر.
من منظور آخر، يبدو التصعيد التركي مبنياً أيضاً على ما يشبه التوافق مع إيران، وحتى درجة ما روسيا، على إضعاف الإدارة الذاتية و«قسد»؛ ففي وقت سابق خلال اضطرابات دير الزور، مارست تركيا حرب إشغال في منبج وتل تمر وعين عيسى عبر محاولة دفع مجموعات مسلحة سورية موالية لها بوصفها قوات عشائرية هذه المرة. ولكن بعد أن بلغت الاضطرابات المسلحة في دير الزور مراحلها الأخيرة، جاءت الاستهدافات التركية لوقف مفاعيل تقدم «قسد» في دير الزور وإرباكها من خلال حرب المسيّرات في أقصى الشمال السوري. فمن خلال التجارب السابقة بين تركيا و«قسد»، يمكن ملاحظة نمط من التدخل التركي عبر قوات وكيلة أولاً. وفي حال إخفاقها، كانت تقوم بتولي العمليات العسكرية بنفسها في مناطق نفوذ «قسد». ولعل حرب المسيّرات التي تتبعها تركيا في السنوات الأخيرة وتفضيلها لأهداف كالمنشآت الحيوية والبنى التحتية، يمثل البديل منخفض التكاليف بالقياس مع سياسة الاحتلال المباشر التي قد تستفز واشنطن وموسكو، أو الاعتماد على قوات وكيلة (سورية).
ماذا عن موقفي موسكو وواشنطن؟
لم يصدر عن روسيا أو عن قيادتها العسكرية في سوريا أي موقف يدعو تركيا إلى التوقف عن استهداف مناطق شمال شرقي سوريا، واكتفت كما في حالات سابقة بتسيير دوريات مشتركة في نطاق حدودي ضيّق مع القوات التركية. وعلى الرغم من احتفاظ «قسد» بقنوات تواصل مفتوحة مع القيادة الروسية الميدانية في الشمال الشرقي وحضها وقف الهجمات التركية، فإن ما يبدر عن الجانب الروسي هو أقل من المتوقع. ما يمكن أن يستشف من موقف موسكو هو عدم قدرتها على ضبط تركيا ووضع حدّ لاعتداءاتها في الشمال الشرقي، مع تقديرات تذهب إلى أن موسكو لا تعترض بشكل جدّي على كل سلوك تركي يحرج الولايات المتحدة في سوريا ويدخل علاقة البلدين في حالة إرباك متواصل بسبب تموضع واشنطن إلى جانب «قسد» وتحالفهما في محاربة الإرهاب.
على العكس من ذلك، بدت واشنطن أقرب للطرف الذي يريد تطويق الموقف ووقف التصعيد التركي في شمال شرقي سوريا. ولعل ما قاله نائب الناطق باسم الخارجية الأميركية فيدانت باتيل من أن «الولايات المتحدة قلقة من ازدياد التوترات العسكرية في شمال سوريا» بدا واضحاً، ودعمه تصريح أشد وضوحاً من وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي قال في مكالمة هاتفية مع نظيره التركي يشار غولر إن بلاده تحث على «وقف التصعيد في شمال سوريا وأهمية الحفاظ على الالتزام الصارم ببروتوكولات منع الصراع والتواصل من خلال القنوات العسكرية القائمة».
ولعل إسقاط مقاتلة أميركية من نوع «إف-16» لمسيّرة تركية، قال «البنتاغون» بأنها اقتربت من مناطق تواجد قواتها، يمثّل سابقة في تاريخ علاقة الشريكين في حلف الناتو، وعلى الرغم من نفي أنقرة بأن هذه المسيّرة تخصّها، ربما تهرباً من حرجٍ حكومي تركي ومنعاً لصدام دبلوماسي لا تريده تركيا بعد سعي الأخيرة للعودة إلى مظلة الحلف بشكل قوي بعد موافقة أنقرة على انضمام السويد له مقابل صفقات عسكرية مع واشنطن وحاجة تركيا لدعم أميركي يساعد الحكومة التركية في تجاوز مشكلاتها الاقتصادية.