طارق حمو
بدأت التشكيلة الواسعة من داعمي «فزعة العشائر» في دير الزور (ميليشات النظام وإيران، مجموعات الجيش الوطني التركي، وجبهة تحرير الشام القاعدية) بالتفكك وعودة كل طرف فيها إلى هويته الحقيقية، مع إتمام قوات سوريا الديمقراطية حملة تطهير المنطقة من المسلحين وإعادة الاستقرار إلى القرى القليلة التي شهدت أعمال التخريب والنهب. الآن، وبعد إنتهاء عملية «توطيد الأمن»، وبدء الوساطات العشائرية المحلية لتجاوز المرحلة السابقة، بما في ذلك إصدار عفو عام عن من تورط في أعمال التمرد وإشاعة الفوضى، عمدت ميليشيات النظام وإيران في 25 سبتمبر/ أيلول الجاري، للتسلل إلى بلدة ذيبان، لشن هجوم تخريبي جديد، التفت عليه وأحبطته قوات سوريا الديمقراطية سريعاً، موقعة في صفوف المسلحين المرتزقة أكثر من 50 قتيلاً وجريحاً. من جانبها لجأت الدولة التركية إلى تكثيف هجماتها على قوات سوريا الديمقراطية انتقاماً من فشل مخطط الصراع الأهلي بين الكرد والعرب، والذي أرادت له أن يكون معول هدم الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا.
في الأسبوعين الماضيين، شهدت مناطق شمال شرق سوريا وشنكال واقليم كردستان عمليات اغتيال وهجمات بالمسّيرات، استهدفت عدداً من المقاتلين والكوادر الأمنية والإدارية الكردية. كما تعرضت مناطق منبج وعين عيسى وتل تمر وشهبا إلى قصف مركّز من قبل قوات الاحتلال التركي ومحاولات اختراق من جانب مسلحي «الجيش الوطني». وكانت سلسلة هجمات المسيّرات التركية أسفرت عن استشهاد ثلاثة مقاتلات من وحدات حماية المرأة (نوجان أوجلان، جاندا جودي، وشرفين سردار) في استهداف وقع في منبج في 15 سبتمبر/أيلول، وعن استشهاد ثلاثة من مقاتلي وحدات مقاومة شنكال (ديندار أفستا، بيران بير، جيا فقير) في استهداف وقع في منطقة شنكال، واستشهاد قيادي في وحدات حماية الشعب (أصلان قامشلو)، وضابط في قوى الأمن الداخلي (أيمن جولي) في هجومين منفصلين وقعا في القامشلي، وكل تلك الهجمات في 17 سبتمبر/ أيلول. كذلك وقع هجومان منفصلان في اقليم كردستان في 18 سبتمبر/أيلول، كان الأول عملية اغتيال طالت مقر المؤتمر الوطني الكردستاني في أربيل، وأسفرت عن استشهاد (دنيز جودت بولبون)، بينما الثاني كان هجوماً بالمسيّرات استهدف مطار عربت الزراعي في منطقة السليمانية، وأسفر عن استشهاد ثلاثة من عناصر جهاز مكافحة الإرهاب التابع للاتحاد الوطني الكردستاني (هيوا قادر حسين وايفان عدنان حسين وريبر أنور محمد).
تهدف الدولة التركية من وراء عملياتها العسكرية الواسعة والمركّزة إلى تحويل مناطق شمال شرق سوريا، وأيضاً مناطق شنكال واقليم كردستان، إلى مناطق عمليات عسكرية غير أمنة لأي شكل من أشكال الحياة الطبيعية. فالحرب التركية تأخذ أوجهاً عديدة، منها استهداف الكوادر العسكرية والسياسية بالمسيّرات وعمليات الاغتيالات، ودعم الميليشيات المسلحة وتوجيهها، وقصف وحرق مناطق «حق الدفاع المشروع» بقنابل النابالم والأسلحة الكيماوية الموضعية لإنهاء قوات حزب العمال الكردستاني. إنها حرب شاملة على كافة المستويات والصعد، تستغل فيها تركيا الملفات الدولية والصراعات القائمة بين المحاور لتستفيد من البازار الدولي في مقايضة مواقفها بالصمت والتواطئ، للاستفراد بالكرد وتدمير وتخريب مناطقهم. ومن هنا، تأتي الاتصالات التركية مع كل من روسيا وإيران والنظام السوري بهدف استحصال المواقف والتنازلات للنيل من مناطق شمال شرق سوريا والتنسيق بين المليشيات المتعددة الولاءات لاستخدامها في الهجوم على قوات سوريا الديمقراطية في أرياف الحسكة ودير الزور وحلب.
وكان مظلوم عبدي القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية قد أشار إلى هذه النقطة في حديثه الأخير لمجلة «المجلة» السعودية في 23 سبتمبر/أيلول عندما قال بأن هناك تنسيقاً تركياً ـ سورياً ـ إيرانياً ضد قوات سوريا الديمقراطية، وانهم رصدوا تعاوناً وتشاوراً بين الأطراف الثلاثة في دعم المسلحين وتدريبهم، وارسالهم للهجوم على مواقع قوات سوريا الديمقراطية، وخاصة في مناطق ريف دير الزور الشرقي. وكانت قوات سوريا الديمقراطية قد ردت على الهجمات التركية بعمليات عسكرية نوعية استهدفت مواقع مسلحي «الجيش الوطني» في منبج أسفرت عن مقتل وجرح عشرات المسلحين. كما شنت «قوات تحرير عفرين» عمليات نوعية طالت نقاط الجيش التركي ومرتزقته أسفرت، هي الأخرى، عن مقتل وجرح العشرات. وتأتي العمليات الهجومية هذه في إطار الاستراتيجية الجديدة لقوات سوريا الديمقراطية في الرد على كل استهداف تركي بعمليات انتقامية نوعية، موجهة ودقيقة، تطال نقاط الجيش التركي المحتل ومواقع المسلحين التابعين له.
وكخلاصة لقراءة المشهد الحالي يمكن تثبيت النقاط التالية:
أولاً: إن تحالف حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية ماض في توسيع الحرب الشاملة ضد الشعب الكردي داخل وخارج تركيا، وأن هذه الحرب، في الشق الذي يخص شمال شرق سوريا، تأخذ اشكالاً عديدة مثل الاحتلال المباشر ودعم وتوجيه الميليشيات المسلحة المرتزقة، واستغلال العلاقات مع الدول المؤثرة في الملف السوري في محاصرة الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، والسعي إلى تشكيل اللجان الأمنية والعسكرية المشتركة، للإشراف على تنظيم وتنسيق الهجمات والاسناد السياسي والإعلامي لهاً.
ثانياً: إن تركيا لن تتخلى عن الاستثمار في التحريض ضد الشعب الكردي، معتمدة على أدوات اعلامية وسياسية أوكلت لها مهمة إذكاء النزعات «العشائرية العربية»، وبث الأكاذيب لتشويه الإدارة الذاتية وتصوير قوات سوريا الديمقراطية وكأنها «قوات احتلال كردية غريبة». وبموازاة هذا التحريض الموجه، يستمر الدعم اللوجستي للعناصر المسلحة، وإلباسها لبوس «العشائر»، ودفعها إلى الانضمام لميليشيات النظام وايران لخلق الفوضى وزعزعة الأمن والاستقرار في مناطق دير الزور. ومن هنا يأتي تعتيم الإعلام التركي، وذلك السوري المعارض المرتبط به، على حقيقة هوية و«عائدية» العناصر المسلحة التي تهاجم قوات سوريا الديمقراطية وتخرب وتدمر في المنطقة.
ثالثاً: إن النظام السوري، مدعوماً بإيران وأذرعها المحلية، يواصل الرهان على المسلحين المحليين وبعض الشخصيات الاجتماعية العشائرية، ويجد فيهم الفرصة لتقوية وتثبيت «الدفاع الوطني» في دير الزور، واستخدامهم ضد قوات سوريا الديمقراطية بوصفهم «حراكاً أهلياً عشائرياً» يرفض الإدارة الذاتية. وإن هدف النظام، وإيران بالتالي، هو استخدام هؤلاء في «الحرب بالوكالة» التي يشنها، لإحداث الاختراق والتمدد في مناطق قوات سوريا الديمقراطية والوصول إلى مصادر الطاقة فيها.
رابعاً: إن قوات سوريا الديمقراطية أصبحت تمتلك التجربة والخبرة في التعامل مع التطورات على الأرض، وأجرت مراجعة شاملة للأحداث الماضية، وخرجت بنتيجة مفادها الإصلاح والمعالجة الأمنية الدقيقة التي تحقق هدف تحييد العناصر الخارجة على القانون، مع الحفاظ على أمن ومصالح ومكتسبات المواطنين.
خامساً: توفر القناعة لدى قوات سوريا الديمقراطية في الرد العسكري على كل اعتداء واستهداف تركي، واللجوء إلى الضربات النوعية الانتقامية والاستباقية لإجهاض عمليات الارهاب والتخريب التي تستهدفها. والعمليات الأخيرة النوعية في كل من عفرين والباب ومنبج تثبت هذا التوجه الجديد.