شورش درويش
يمكن القول أن السويداء بلغت نقطة اللاعودة مع تأييد شيخيّ العقل، حكمت الهجري وحمود الحناوي، لحركة الاحتجاجات وقطعهم لحالة الصمت المديدة. لم تعد لغة المشايخ تستبطن أي معانٍ يمكن تأويلها، فقد بدت أكثر وضوحاً وانحيازاً للمحتجين ومناوئة للنظام. ففي ظل تباين الاتجاهات والمواقف حلّت مشيخة العقل جهةَ مخاطبةٍ تجاوزت وظيفتها الدينية إلى ما هو سياسيّ أيضاً، الأمر الذي أوجد مرجعية طارئة غير تقليدية تسعى لتمثيل محتجّي الجماعة المعروفيّة بعقّالها وجهّالها.
لعلّ كل مايجري في السويداء جاء بعد صبرٍ طويل بلغته المحافظة المنقسمة على أهواء سياسية متباينة وعائلات وقرى لا يمكن النظر إليها ككتلة واحدة؛ فكثيراً ما يتم النظر إلى الأقليات الإثنية أو الدينية بأنها موحّدة وتحمل رأياً وموقفاً موحداً، هذا التنميط يمكن تفنيده حال النظر للجماعات على نحو أكثر قرباً. ففي حالة السويداء ما يزال الدروز منقسمين أفقياً وعامودياً. ولعل هذا الانقسام هو أمر طبيعي داخل المجتمع الدرزيّ فقد تجاوز الدروز منذ زمن بعيد نسبياً مركزية العائلات الإقطاعية وتخلّصوا من «نظام عشائري تراتبي انطوى على توزيع متفاوت للهيبة والسلطة الاجتماعية» على ما قاله حنا بطاطو في مؤلّفه «فلاحو سوريا»، ونشطوا تالياً داخل الأحزاب السياسية، قومية ويسارية. كان الانخراط في الحياة الحزبية والانقلابية والبيروقراطية السورية خروج الدروز الثاني عن طوق العزلة التاريخيّ، بعد خرجوهم على الدولة العثمانية وانضمامهم لاحقاً لجهود فيصل الأول لتشكيل إقليم عربي على أنقاض السلطنة، ثم خروجهم عن نموذج الدويلات الهشّة التي رسمها الجنرال غورو قبل أكثر من مئة عام حين وقف الجنرال الفرنسي أمام خيارين حددهما له مستشاره كايكس: إما بناء أمة سورية غير موجودة بعد، أو تغذية وتأجيج كل الظواهر التي تؤيد تدخّل فرنسا. وقتذاك، انحاز غورو للخيار الثاني وشرع في تقسيم مستعمرته الجديدة إلى أربع دويلات هي حلب ودمشق ودويلتي العلويين وجبل الدروز بعد فصل لبنان ابتداءً، في محاولة لتقسيم القوميين العرب والتخلّص من عناء بناء أمة جديدة.
لكن الانقسام الدرزي الداخليّ تلاشى في محطات تاريخية سابقة. ففي وقت كانت العائلات الدرزية داخلة في عملية تنافس بينيّة، ترك العامل الخارجي أثره في إرساء التلاحم الاجتماعي. فمحاولات الإخضاع العثمانية والفرنسية ومحاولات الأنظمة الحاكمة، مثلت عاملاً موحّداً للدروز. هذا قد يتكرّر في مواجهة النظام الذي لم يعد يشكّل مصدر استقرار داخلياً واعتباره خطراً خارجيّاً يتهدد المجتمع الدرزي.
ثمة عزلة اضطرارية عاشتها السويداء منذ عام 2011، أو ربما كانت انعزالاً عن مجرى الأحداث السورية الدامية عكست رغبة متعاظمة لدى الكثيرين في النأي بالنفس عن حرب أهلية موصوفة لا تخطئها العين ولا العقل. لكن عزلة السويداء كانت مشروطة: عدم الانخراط في الحرب في مقابل الاحتفاظ بالشباب وعدم سوقهم للتجنيد. كان هذا الاتفاق غير المعلن أفضل ما حققته السويداء، إذ لا ثارات ولا تفضيلات في حرب اتخذت كل ملامح الحرب الطائفية في زمان ما، وحرباً مفتوحة وذات صبغة قومودينية قادتها تركيا في مواجهة كرد سوريا.
في الأثناء، تُظهر احتجاجات ساحة الكرامة مقداراً من التباين بين ما يريده المحتجّون. وبمعزل عن ما يشبه الإجماع على تطبيق القرار 2254 كمخرج محتمل للأزمة السورية، فإن أصواتاً شرعت تطالب بإدارة ذاتية للمحافظة وبمعبر خاص مع الأردن، فيما على العكس من ذلك أعلنت أصوات أخرى رفضها للإدارة الذاتية في السويداء وطالبت بحل سوريّ شامل. وبغضّ النظر عن أن المطالبة باللامركزية لا تتعارض مع الحل السوري الشامل بل قد تشكّل قاطرة لحل موضعيّ يكسر تغوّل النظام المركزي المتصلّب، فإن وجهات النظر الرافضة لللامركزية إنما تعكس ارتياباً درزياً من تهمة طاولت الكرد بشأن ما يزعم أنه نزوع انفصالي، فضلاً عن المخاوف المتصلة بذلك، كأن يعود الدروز إلى أزمنة العزلة التي تغلّبت عليها عبر اندماجٍ جزئيّ في الكيان السوري.
لعل تغلّب المحتجين على الهوى الطائفيّ الذي عصف بسوريا وصدّع مجتمعها، كان أحد الاختبارات التي اجتازتها السويداء. فالتنديد العريض بحزب البعث وإغلاق مقرّاته ووصف النظام بالبعثي استبدالاً لوصفه بالطائفيّ على ما تورطت فيه المعارضة الإسلاموية ورهط من المتحلّقين حول جماعة الإخوان المسلمين، خلّص الدروز من التورّط في خطابٍ طائفيّ، عدميّ ومكلف. وذلك على الرغم من أن معظم المحتجّين يعلمون أن النظام نفسه قلّص حضور البعث في مجمل سوريا حتى غدا حزباً بلا أي ملامح أو تأثير. فهل كان لحزب البعث دورٌ يستوجب كل هذا الاعتراض عليه في السويداء على الرغم من الحضور الملحوظ للتيارات الحزبيّة الإيديولوجية في المحافظة؟
ربما نجحت السويداء أيضاً، ولو بصعوبة بالغة، في اختيار العلم الواجب رفعه في الاحتجاجات، واختيارهم راية الخمس حدود وعدم رفع علمي أحد قطبي الحرب الأهلية، العلم ذو النجمتين أو ذو النجمات الثلاث، على الرغم مما يحمله الأمر من تلميحات ترى في الدروز جماعة مُنمازة ومنفصلة عن سياقي النظام والمعارضة وتموضعهم تالياً كطرفٍ ثالث، أو أنهم يؤثرون المحليّ والديني عن ما هو سوريّ. لكن، رفع الراية الدرزية لا يقلل من طبيعة حركة الاحتجاجات بوصفها حركة معارضة للنظام ولمسؤوليته عن تردي الأوضاع المعيشية والسياسية.
اختبرت حركة الاحتجاج أيضاً احتمالية الانزياح لردّ فعل عنفيّ إثر إطلاق حرس مقر لحزب البعث الرصاص الحيّ على متظاهرين اقتحموا المقر. وإذا كانت نجحت في ضبط النفس، فإن احتمال انفلات الأوضاع معقود على ما سيقرّره النظام للتعامل مع الاحتجاجات سواء باعتماد النظام وصفاته العنفيّة المجرّبة أو بإطباقه الحصار على كامل المحافظة وتنفيذ وعيده الخالد: الجوع أو الركوع. إنّ اختبار الانزياح للعسكرة مرتبط أيضاً بقدرة مشيخة العقل على إقناع المحتجين التزام ضبط النفس. هذا اختبار كبير ومرشّح لأن تبلغه السويداء حال استمرار الحركة الاحتجاجية إلى ما لا نهاية، ذلك أن النظام أثبت خلال أكثر من عقد على الحرب الأهلية بأنه من قماشة الأنظمة التي تعتبر الحوار مع أي حركة احتجاج هزيمة نكراء.
واقعياً، لم يعد أمام السويداء سوى اجتراح الدروس مما جرى في سوريا خلال اثني عشر عاماً من العنف والقسوة والتدمير والتهجير. ويزيد في تعقيد المشهد حضور اللاعبين الدوليين والإقليميين في الداخل السوري وتعاظم أدوارهم وتعارض مصالحهم. واقعياً أيضاً، يمكن القول أن ما ينتظر السويداء هو اختبارات صعبة قادمة. وإذا كانت نجحت، حتى اللحظة، في الحفاظ على سلميّة احتجاجاتها وتأمين تمثيل مرجعيّ يعبّر عن مطالب محتجّيها، ونأت بنفسها عن الاصطفافات الدولية والإقليمية، فإنّ ذلك قد لا يدوم مستقبلاً على ما قالته أحوال سوريا وجماعاتها الأهلية خلال العقد الماضي.