القضيتان الكردية والأرمنية في العصر الحديث: اتصال وانفصال!
موفق نيربية
تسكن وقائع وفرضيات تاريخ شرق تركيا لمئات السنين إمارة أو مملكة اسمها” كوردوين” التي تتوافق جزئياً مع حدود كردستان الحالية بطبعاتها المتعدّدة، والمتمدّدة حسب الباحث المعني في كلّ مرّة. كانت كوردوين تلك تمتدّ في المنطقة الجبلية التي تقع ديار بكر في غربها وموش شرقها وجنوب غرب بحيرة وان.
اندمجت كوردوين القديمة مرتين كمملكة تابعة في مملكة أرمينيا. كانت الفترة الأولى في القرن الأول، حيث تم دمج كوردوين بعد ذلك في الجمهورية الرومانية وظلت في أيدي الرومان لأكثر من أربعة قرون. في أواخر القرن الرابع الميلادي، أصبحت جزءاً من أرمينيا للمرة الثانية عام ٣٨٤ وظلت كذلك حتى عام ٤٢٨ م. وإلى جانب كوردوين، حكمت أرمينيا أيضاً موكسين- أو ميكس- حول ما هو معروف حالياً باسم” بخشه ساراي” التي يسكنها الكرد اليوم بكثافة.
أشار الأرمن إلى سكان كوردوين باسم كوردوك، والكاف الأخيرة علامة جمع بالأرمنية. وجد الاسم طريقه إلى الإغريقية، مع شكل هيليني” كاردوتشوي”، علماً أن النصف الأول بمعنى القلب، إشارةً إلى شجاعة ذلك الشعب؛ وهذا ليس مُتّفقاً عليه بالإجماع.
على العموم، هنالك رأي غالب بإعادة أصول الكرد إلى الميديين القدماء، وآراء أخرى عديدة، كما يحصل لمعظم شعوب هذه الأرض. هنا سيتمّ التركيز على المواضيع المتعلّقة بالقضية الأرمنية والإبادة الجماعية ضدّ الأرمن، بالتشابك مع الفاعلية الكردية، وانعكاسها ذلك على القضيّتين. تنعكس صوفية الكرد وفروسيّتهم وعشائريّتهم، ومسيحية الأرمن وتميّزهم القومي من جهة ثانية، ووقوع الطرفين تاريخياً بين مطاحن الأمبراطوريات الكبرى، على تلك العلاقة أيضاً؛ مع الإقرار بوطأة الذاكرة، وخصوصاً في الحالة الأرمنية.
في عهد الإمبراطورية العثمانية، ومنذ ما قبل القرن التاسع عشر، كانت هنالك غارات شنها كردٌ على الأرمن الأقرب إلى النمط الزراعي أو الريفي. كان ذلك الجوّ العدائي يحظى برعاية سلطانية إلى هذا الحدّ أو ذاك. وتتبّع دوافع الأحداث المتنوّعة صعب بسبب الطبائع والدوافع القبلية، علماً بأنه كلّما زادت قوة هذا العامل- ومعها العامل الصوفيّ أحياناً-، زاد معها ولاء العشائر للخلافة، وإمكانية استخدام الأخيرة لها وتوظيفها في الحدّ من طموحات الأرمن أو اضطهادهم، الذي كان ينفخ فيه الارتياب بعلاقتهم مع الدول الغربية المتحفّزة لاقتسام جلد الدبّ. بلغت تلك الظاهرة ذروتها في عهد السلطان عبد الحميد الثاني.
لم تحدّ تلك العلاقات من نزوع كردٍ كثر إلى التعبير القومي المستقلّ، كان أهمّ ما ظهر منه وأبكره مع تمرّد الشيخ عبيدالله ١٨٧٧-١٨٨٠، الذي كان من أهمّ عوامله الخوف الذي ابتدأ بالتعاظم من نوايا غربية لتأييد قيام دولة أرمنية مستقلة تبتلع الكرد. لافتٌ هنا أن الشيخ عبيد الله كان يدرك استخدام السلطنة لتمرّده، ويحاول تلافي آثاره الضارة، كما قال في إحدى خطبه.: “إذا كان الباب العالي حتى الآن قد دعم الكرد بكل الطرق، فقد تم ذلك بسبب الرغبة في مواجهة رعاياه المسيحيين في الأناضول”. لكنه على الرغم من ذلك، كان يحمل موقفاً متشدداً من الأرمن والآشوريين، ويعارض حقهم في تقرير المصير، ويعلن أنه سيذهب حتى “إلى تجنيد النساء لمحاربتهم”، حسب تعبيره. ولم يكن موقفه هذا ليخفي ما قاله في رسالة إلى شيخ آخر أنه “يحب الأرمن أكثر من الفرس والأتراك”. هذا يشرح جانباً من المعادلة المعقّدة آنذاك.
منحت تلك الانتفاضة الكردية السكان الأرمن مزيداً من الشعور القومي، مع إدراك لأهمية استيعاب العناصر الأخرى أيضاَ: “بدأ السكان الأرمن والآشوريون والكرد في أرمينيا إدراك أنهم جميعاً من سكان أرمينيا، ولديهم نفس المصالح ، وأن اضطهاد تركيا يزعجهم جميعاً بنفس القدر”. وافتتح الأرمن مدارس كردية في المدن المختلطة مثل موش وبدليس. كما كانت هناك محاولات لفتح مدارس أرمنية في المناطق المأهولة بالسكان الكرد، مع اعتقاد النخبة الأرمنية القويّة بضرورة محاولة كسب الكرد لمنعهم من الذوبان في الإمبراطورية العثمانية وسياساتها. دعا حزب الهنشاق -الاشتراكي الديمقراطي، والطاشناق -الاتحاد الثوري الأرمني كذلك إلى التعاون مع الكرد.
في عام ١٨٩١، وبتأثير الخوف من مداخلات الغرب ومن ازدياد قوة النخب الأرمنية وصوتها، تأسست وحدة الفرسان” الحميدية” على اسم السلطان؛ وهي ميليشيا غير نظامية، جيّدة التسليح والقدرات، ملائمة لطبيعة الكرد وعنفوانهم القتالي. زاد ذلك من أوار العداوات بين الطرفين، مدعوماً بنظام ضريبي يحابي طرفاً على طرف، ووقع الاشتباك مع ارتفاع الحرارة، وسقط أول القتلى الكرد. اعتبرت السلطنة ذلك” ثورة أرمنية” ودعموا هجمات انتقامية كردية.
هنا يشير إلى بعض الشبه ما بين توتّرات جبل لبنان ما بين الإقطاعيين الدروز والفلاحين الموارنة، وبين الإقطاعيين الكرد على طراز القِنانة المعروف والفلاحين الأرمن. رغم ذلك أيضاً، وربّما بسببه، لم يكن الكرد جميعهم منسجمين مع ذلك الخط والموقف، وكانت تلك الحالة سبباً لتشديد مراقبة الكرد من قبل السلطنة ومنعهم من الاتّحاد مع الأرمن في موقف واحد، كانت له شعبيته بين الطرفين، بل هاجمت عسكرياً العشائر أو التجمعات التي تهرّبت من القتال مع السلطنة ضدّ الأرمن، أو أثارت بينهم وأجّجت صراعاتهم ومنافساتهم.
قاوم الأرمن بقوة، لكن آلافاً منهم سقطوا على أيدي عسكر السلطان النظاميين و”الحميدية” في وقت واحد، في منطقة ساسون خصوصاً. وتعمّق الشرخ الذي كان تعميقه مطلوباً أكثر فأكثر. في ذلك الفصل- المجزرة سقط أكثر من ثمانية آلاف أرمني.
كانت أحداث ساسون شرارة لسلسلة من الهجمات والاشتباكات، سقط فيها كرد، وكثير من الأرمن، كما حصل عند الهجوم على وان صيف ١٨٩٦، الذي دافع فيه الأرمن ونظّموا مقاومتهم من دون نتيجة تُذكر، إلّا في حقل ازدياد الشعور القومي.
هنالك الكثير من تفاصيل ما حدث بعد ذلك، لا يهمّنا هنا إلّا أن نلامس طبيعة الوحدة والتنوّع في تلك المناطق من الأناضول، ما بين الأرمن والكرد. كانت الحرب العالمية الأولى مرحلة هامة في الصراع، رأى فيها الأتراك في الأرمن أداة للغرب من ناحية، وللروس من ناحية أخرى. وكان لمعاهدة سيفر بعد هزيمة العثمانيين، ” الحرب الوطنية التركية” بقيادة مصطفى كمال، وصولاً إلى معاهدة لوزان، آثاراً كبرى على مصائر الأرمن والكرد معاً.
فقد ضمنت المعاهدة الأولى إقامة كيان للأرمن في” أرمينيا الغربية” من السلطنة السابقة، وآخر للكرد في كردستان يقلّ عن الأوّل مساحةً. ثمّ جاءت المعاهدة الثانية لتمحو الخريطة الأولى، ولا تتكلّم إلّا عن تركيا وحدودها الجديدة. بذلك خسر الأرمن والكرد معاً: خسر الطرف الأوّل أرضه وحلمه، وخسر الطرف الثاني حلمه على الأقلّ.
بعد هزيمة السلطنة في”سفر برلك”، اتّحد الترك والكرد في وجه الأرمن، انطلاقاً من روح دينية بشكلٍ رئيس، وروح قومية بشكلٍ ثانوي؛ ولكن العامل الحقيقي الأكثر تأثيراً كان الخوف من القومية الأرمنية التي كادت تكون أمة أو دولة، كما ظهر في بعض المؤشّرات.
لا بدّ أيضاً من الإشارة إلى أن علمانية الأتاتوركية قد كانت سبباً إضافياً بعد ذلك في خذلان الكرد، وخمود سبب وحدتهم مع الترك، بتراجع العامل الإسلامي والصوفي عن الواجهة… وربّما كان هذا سبباً في كون تمرّدات تلك الفترة تحمل هذين العاملين على أعلامها وخطابها.
ما أرت قوله هنا أيضاً للبحث والتاريخ، وعن مكر الأخير، إن خوف الكرد من آمال الأرمن القومية، كان سبباً مهماً من أسباب تضييع الحقوق، أو إضعاف عوامل ملاحقة الحلم الكرديّ- القوميّ الخاص، بالاستقلال وتقرير المصير، وبضعف الحركة وتجاذباتها في المستقبل، وهشاشتها النسبية أمام الخصم الأتاتوركي العنيف…الأمور التي انعكست بقوة على التاريخ اللاحق.