بعد لوزان: تركيا والكرد، الهندسة الاجتماعية وتكوين الدولة

خاص/ المركز الكردي للدراسات

تُعدّ القضية الكردية “الوجه الاخر” لتركيا الجمهورية، وكانت كذلك بالنسبة للسلطنة العثمانية، إذ أن قصة السلطنة والجمهورية هي قصة تعاملهما مع الكرد، وقصة الكرد هي -في جزء مهم منها- قصة تعامل السلطات معهم، سواء بِعَدِّهَم جزءاً من التكوين الاجتماعي والإثني أو جزء من القوة/الأدوات الصلبة للسلطنة أو موضوعاً وهدفاً لسياسات فرض السلطة والاحتواء الخ.

المفارقة أن الكرد كانوا “قوة تكوين دولة” رأى قادتها أنها لا يمكن أن تقوم إلا باحتوائهم هم أنفسهم، بما هم قوة اجتماعية وروح إثنية وسياسة ودولنة بذاتهم، وإعادة إدراجهم في سياق أو فضاء اجتماعي وسياسي وإثني “تركي” سواء بعدهم أتراكاً أو طوراً من أطورا الهوية والمعنى التركي؛ الأمر الذي تطلب أنواعاً مختلفة من السياسات، مثل: الهندسة الإثنية، والإدماج الاجتماعي والإثني، والاحتواء متعدد الأشكال والأـنماط، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية والأمنية.

تركز هذه الورقة على فضاء أو حيز التقاطع والتداخل الجغرافي والاجتماعي والتاريخي والثقافي واللغوي بين الكرد والترك وإلى حد ما الأرمن والعرب، وهو الأناضول، كون قصة الكرد مع الفضاءات الأخرى تبدو مختلفة وتتطلب حيزاً بحثياً مختلفاً.

تتألف الورقة من مقدمة وسبعة محاور: أولاً- الهندسة الاجتماعية والإثنية، ثانياً- الهندسة الديمغرافية الإثنية، ثالثاً- اللحظة العثمانية، رابعاً- تركيا وحزب العمال الكردستاني، خامساً- سياسات الاحتواء ، سادساً- سياسات الإلغاء، سابعاً- الشرطان الدولي والكردي.

أولاً- الهندسة الاجتماعية والإثنية

تتميز تركيا بتكوين فسيفسائي من الانتماءات الإثنية والجماعات الثقافية وتضم شبكة معقدة من أشكال التعدد اللغوي والديني والقومي والسلالي، وهذه ظاهرة تاريخية في منطقة الشرق الأوسط.

حاولت الدولة الجديدة “إعادة تشكيل البنى الاجتماعية والإثنية في إطار سياسة “دمج”  و”صهر” لمختلف التكوينات والهويات واللغات وغيرها في إطار هوية ولغة تركية واحدة، و”هندسة” و”تصميم مجتمع” يكون على صورتها، أي “مجتمع تركي” لـ دولة تركية””.i يتعلق الأمر بمستويين من الهندسة الاجتماعية:

  • الأول “تأسيسي”

كان الكرد جزءاً من استهدافاته أو أحد موضوعاته الرئيسة، من خلال سياسات “تماثلية” و”دمجية” في الهوية الثقافية والإثنية التركية، وكذلك سياسات الهجرة والتهجير الداخلي (إلى داخل تركيا)، انظر الخريطة (1و2)، والخارجي (إلى دول الجوار والشتات).ii وهذا لم يقتصر على الكرد، إذ انه طال أيضاً الأرمن والعرب واليونانيين، إلخ،iii كما كان الكرد جزءاً من أدواته أيضاً، وهذا يحيل إلى ما يقال عن دور الكرد في عمليات اضطهاد الأرمن في بدايات القرن العشرين قبيل الانهيار العثماني.ivv

  • الثاني أمني – احتوائي

وهو مستمر بكيفية أو أخرى، ويتم على مستويات عديدة، بدءاً من التهجير القسري إلى مناطق أخرى داخل تركيا أو خارجها، أو التجميع القسري وإعادة التوطين في مناطق محددة داخل الإقليم الكردي، أو المحافظة على نمط من السياسات العملية التي تؤدي بالكردي إلى اختيار الهجرة من تلقاء نفسه، أو دفعه لتبني هذا الخيار، سواء لأسباب العمل أو الأمان إلخ ولنا عودة إلى ذلك في الفقرات الاتية.

ثانياً- الهندسة الديمغرافية الإثنية

اعتمدت السلطات التركية منذ عشرينيات القرن العشرين قوانين أدت إلى نزع ملكية مساحات واسعة في جنوب الاناضول، في المناطق الكردية وغيرها، ونقلت قبائل واعيان وزعامات كردية من الشرق إلى قلب الأناضول، مثلما نقلت أتراكاً وعرباً وتركماناً إلى مناطق مختلفة من الإمبراطورية. وأحلت السلطات “أتراكاً” بدلاً من الكرد الذين أجلتهم أو هجرتهم.

ونشطت السلطات في ذلك من أجل خلخلة التكوين الإثني واحتواء أي تطورات كردية مناهضة للسلطة المركزية. وقمعت السلطات بشدة الثورات الكردية التي نهضت ضدها، وحدث الكثير من القتل وتدمير القرى والمدن والتهجير الجماعي. وفي الفترة (1925-1928) هدمت أكثر من (10) آلاف منزل، وقتل أكثر من (15) ألف شخص، وأبعدت (500) ألف شخص.vi في اذار/مارس 1932 أصدر المجلس الوطني الكبير مثلاً قانون التنظيمات الحرفية نص على: “لا يحق لمن كانت لغته غير التركية … إنشاء أو إعادة تشكيل منظمات حرفية أو كتابية أو طبقية”vii.

في عام (1934) شرعت السلطات قانون “إعادة التوطين”، حيث أخذ بالاعتبار وجود ثلاث مناطق في تركيا:

  • الأولى ذات أكثرية كردية، وكان من الصعب على الحكومة السيطرة عليها، حيث تم إجلاء عدد كبير من السكان وتدمير القرى وتعطيل إمكانية الحياة فيها، كما تتكرر الإشارة، من أجل منع سكانها من العودة إليها.
  • الثانية هي المناطق ذات الأكثرية التركية والتي سينقل إليها الكرد المهجرون بغية إعادة توطينهم فيها أو دفعهم للتوطن فيها.
  • الثالثة هي المناطق المختلطة أو التي لم يكن الأتراك فيها غالبية صريحة، حيث تم توطين الكرد فيها بحيث لا يشكلون أكثر من (5) بالمئة من السكان فيها.viii ولم تكن إعادة التوطين بسيطة بل رافقتها عمليات عسكرية وأمنية ومذابح وإبعاد وتهجير واستيعاب قسري في كل الجهات.ix

ثالثاً- اللحظة العثمانية

لكن ما حدث في اللحظة الجمهورية، كان استمراراً لما بدأ في خلال سيطرة “الاتحاد والترقي” على السلطنة في السنوات الاخيرة من السلطنة، وحتى قبل ذلك، ويمكن العودة مثلاً إلى تهجير كبير حدث في العام 1834 (هروتي ص 187). وقامت السلطنة/الاتحاديين بنقل السكان الكرد من مناطق جنوب شرق الأناضول إلى مناطق أخرىx.

وفي عام 1909 أصدر السلطان محمد رشاد الخامس مرسوما يبيح تتريك السكان وتهجيرهم وتوزيعهم بين الترك كذا … يقضي المرسوم بنفي الكرد من مناطق تواجدهم الكثيفة إلى مناطق ذات أغلبية من الترك، على ألا تزيد نسبة الكرد الوافدين أو المهجرين عن 5% من نسبة الترك في المناطق الجديدة، وبشرط أن يقطن الزعماء والأعيان كذا في المدن التركية فيما يتم توزيع الرعايا الكرد على القرى البعيدة. وبلغ عدد الكرد المهجرين 700 ألف كردي حسب بيانات إدارة المهجرينxi.

أثارت قرارات السلطان محمد رشاد احتجاجات كردية واسعة، واعتراضات وانتقادات أوربية، فقام السلطان بتشكيل خلية لـ”إدارة الأزمة”، بدأت بحملة سياسية وإعلامية حول الأخوة الإسلامية، وشكل هيئة وزارية (أسس أردوغان هيئة مشابهة، كما أسس لجنة حكماء!) تألفت من شيخ الإسلام حيدري إبراهيم زاده وعيوق باشا وزير الأشغال وعوني باشا وزير البحرية والأمير أمين عالي بدرخان (جمعية تعالي كردستان) وعضوان من مجلس الأعيان هما مراد بدرخان وعبد القادر أفندي.

اقترحت اللجنة بعد اجتماعات عدة منح كردستان “الاستقلال الذاتي” ضمن الجامعة العثمانية، وضرورة الشروع في تنفيذ مقتضى هذا الاقتراح فوراًxii. ولكن الصدر العظم لم يقم بأي إجراء، في الوقت الذي كان فيه مصطفى كمال يتواصل مع الكرد بكيفية مختلفة، كما كان الكرد انفسهم يتواصلون مع الأرمن (الجنرال شريف باشا مع الارمن في مؤتمر الصلح عام 1919 واتفاقه مع الأرمن)  واليونان، والبريطانيين للغرض نفسه.

رابعاً- تركيا وحزب العمال الكردستاني

مع انطلاقة الحركة الكردية (حزب العمال الكردستاني) في سبعينيات القرن العشرين قامت السلطات بإجلاء آلاف السكان من القرى والبلدات من مناطق كردية.xiii  وأقر قانون الطوارئ عام 1983،xiv وأعلنت حالة طوارئ في مناطق كردية نشط فيها الحزب عام 1987.

تتحدث الدراسات عن تدمير 3-4 آلاف قرية وتجمعاً سكانياً كردياً ليس نتيجة مواجهات وعمليات عسكرية، وإنما كإجراء عقابي للسكان الذين اعتبرتهم السلطات متعاونين أو متعاطفين مع الحركة الكردية، وربما جاء بعض التدمير كجزء من سياسات إعادة تجميع وتوطين السكان من أجل سهولة مراقبتهم والتفاعل معهم واحتواء حركتهم الخ

وتم إخلاء وتدمير 833 قرية و2382 تجمعاً سكانياً بإجمالي 3215 تجمعاً في 14 محافظة أو ولاية في شمال كردستان /تركيا، هي: سمسور /آديامان، آغري، باتمان، جوليك /بينغول، بدليس،آمد / دياربكر، إيلازيغ (خربوط)، جولمرك /هكاري، ماردين، موش، سرت، شرناخ، ديرسم ، وان، حيث تضم جميعها 12737 قرية وتجمعاً سكانياً. وهذا يعني ان السلطات دمرت أو أخلت حوالي 25 بالمئة من تلك التجمعات، حسب معطيات منظمات حقوق الإنسان التركية والكردية.xv

ومن الصعب تحديد أعداد الناس الذين تم إجلاؤهم، ولكن هناك تقديرات مختلفة، ومتفاوتة. وذكر تقرير للمنظمة الكردية لحقوق الإنسان نشر في العام 2002 أن 3-4 مليون من السكان تم إجلاؤهم أو إبعادهم من أماكن سكنهم الأصلية إلى مناطق أخرى.xvi وتذكر تقارير أخرى أرقاماً أقل أو أكثر من ذلك.xvii وإذا ما أخذت السياسة العامة المناهضة للكرد، والمشروعات الحكومية مثل مشروع “غاب” والمشروعات ذات الطابع العسكري، والبيئة النابذة الخ فإن التقديرات تصبح أكبر من ذلك بكثير، إلا أننا نركز هنا على ما يتصل بالإجلاء والإخلاء القصدي المتصل مباشرة بالموضوع الكردي أو بالحركة الكردية.

القرى الكردية التي تم إخلاؤها وتدميرها للفترة 1991-2001
السنة 1991 1992 1993 1994 1995 1996 1997 1998 1999 2000 2001
العدد 109 295 874 1531 243 68 23 30 30 3

المصدر:

Joost Jongerden, Village Evacuation and Reconstruction in Kurdistan, 1993-2002, Etudes Rurales, Juillet-December, 2010, p.80.(pp.77-100).

خامساً- سياسات الاحتواء 

يهمنا هنا المستوى الثاني، ويتعلق باحتواء “حزب العمال الكردستاني”، عملية كانت في غاية التعقيد. وقد وصف خبراء ومحللون ذلك كأنما هو مطاردة لـ”السمك في البحر”، الأمر الذي تطلب بالنسبة لتركيا اتباع سياسات مركبة يمكن تركيز أهم مفرداتها في النقاط الآتية:

  • مواصلة سياسات الهوية و”التتريك” في الإعلام والتعليم والأسماء للأفراد والتجمعات السكنية والقرى، إلخ.
  • تهجير السكان الكرد من قراهم، وإعادة توطين بعضهم في مراكز محددة، بحيث “يسهل” التعاطي معهم ومراقبتهم، وأحياناً استهدافهم من قبل الجيش أو “حراس القرى”.
  • خلق مناطق خالية من السكان، بحيث يتم تفخيخها بالألغام لتكون بمثابة حواجز أمنية وعسكرية أو مناطق قابلة للأعمال العسكرية والحربية ضد المقاتلين الكرد.
  • تدمير آلاف القرى التي كانت تؤيد الحركة الكردية، وتهجير سكانها إلى مراكز بعيدة خارج مناطق كردستان الشمالية سواء على تخومه أو في مناطق تركيا الأخرى. (انظر الخريطة 1و2).
  • “تسهيل” الهجرة إلى الخارج.
الخريطة (1): التهجير الداخلي في تركيا. ملاحظة: الخريطة لا تظهر الهجرة والتهجير من المناطق العربية في تركيا. المصدر: http://www.internal-displacement.org/publications/global-overview-2010-europe-turkey.pdf
الخريطة (2): السكان الكرد في تركيا، حسب المقاطعة، عام (1965). المصدر: Ibrahim Sirkeci, Ibrahim Sirkeci. “Exploring the Kurdish Population in the Turkish Context” Genus 56.1-2 (2000): 149-175, 161, Available at: http://works.bepress.com/sirkeci/14. (Access, 14-8-2011).

سادساً- سياسات الإلغاء

أن مشروع الدولة التركية ككل مشروع “مستورد” لا ينسجم مع البنى المجتمعية والثقافية في الأناضول، وككل مشروع منفذ بقوة السياسة والأمن، سوف يواجه تحديات تعرض استقراره وربما بقاءه وجدواه لتحديات كبيرة. ماذا فعلت “الكمالية” بشأن الهوية؟

اعتبرت أن جميع التكوينات المجتمعية والأفراد هم أتراك (Turks) سواء من كان تركي الأصل من المقيمين تاريخياً أو من المهاجرين (Muhacir) وكذلك الجماعات المحلية التي تبنت مع الزمن الثقافة التركية وارتضت نمط العيش والولاء لتركيا. واعتبر مصطفى كمال في حوار مع صحيفة محلية في آمد /دياربكر (Diyarbakir) وهي منطقة كردية في عام (1933) أن “الشعب في آمد ووان(wan) وأرضروم (Erzurum) وطرابزون (Trabzon) واسطنبول وتراقيا (Thrac) ومكدونيا (Macedonia) كلهم أبناء العرق نفسه، وهم جميعاً فروع من معدن ثمين واحد”.xviii

واعتبر كمال في خطاب أمام الكرد في آمد أنهم يتحدرون من الأتراك (Oghus Tuks)، وهذا يعني أن كل الشعب (ما عدا جماعات إثنية مثل الأرمن والغجر) انحدر من الأتراك.

المسألة لم تكن مجرد “تتريك” لغوي، أو “تهجير”، ذلك أن خطاب الهوية “الكمالي” كان بالغ العنف. وألقى وزير العدل محمود عزت بوزكورت (Mahmut Esat Buzkurt) خطاباً أكد فيه على موقع الترك في الدولة، قال: “إن سادة هذه البلاد هم الترك، وأولئك الذين هم غير الترك الحقيقيين (Oz Turk) فإن لهم حقاً وحيداً في أرض الترك، وهو حق أن يكونوا خدماً وعبيداً”.xix

بعد ذلك سوف يُصنَّف الكرد، مثلاً، “أتراكاً حقيقيين”، وستُعتَبَر أي ممانعة بمثابة انحراف عن التطور والاندماج ويجب تقويمها سياسياً وأمنياً، وفي حال تطورت الممانعة إلى رد الاعتبار لهوية كردية أو غيرها (غير الهوية الرسمية) فسوف تُعدُّ تلك الممانعة حالة مَرَضيَّة يجب معالجتها من خلال القوة القاهرة أو من خلال سياسات ديمغرافية (التهجير والنقل القسري للسكان إلى مقاطعات أخرى تسهل مراقبتهم وضبط حركتهم فيها) كجزء من السياسة العامة.

عدَّت الدولةُ ثورةَ ديرسيم (Dersim) عام (1937) ورماً سرطانياً وحركةً معادية للتقدم وضد سياسات التعليم والتربية الحديثةxx، وان انتفاضات أبناء القرى والعشائر خلال سنوات عديدة هي سلوك غير متحضر ونزوع إلى الفوضى وتآمر على علمانية الدولة إلخxxi وهكذا كان الصراع، حسب الإيديولوجيا “الكمالية”، بين: هوية حديثة تقدمية، وهويات رجعية متخلفة أو انفصالية شريرة وتآمرية. واستخدمت الهوية الحديثة كل ما يمكن استخدامه لقمع وإلغاء الهويات الأخرى.xxii

سابعاً- الشرطان الدولي والكردي

لم يكن للغرب أن يعترض على تشكيل دول في الشرق الأوسط “على شاكلته”، والأهم أنها قامت على أنقاض إمبراطورية عثمانية كانت مصدر تهديد جدي له خلال عدة قرون، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن سياسات الهوية وبناء الأمة، على قسوتها، لم تُواجَه بمقاومة فَعَّالة أو متناسبة، خلا استثناءات محدودة، على الصعيد الكردي على وجه الخصوص، خلال العقود الأولى لتجربة الدولة، ويعود ذلك لأسباب عديدة منها مثلاً أن الأطراف والتكوينات التي كان يُفترض بها أن تُمانع لم تكن تمتلك القوة والموارد ولا التجربة التنظيمية للقيام بذلك.

والواقع أن الفواعل الكردية لم تلق الدعم والتحفيز الخارجي اللازم والكافي لتتمكن من فعل شيء بهذا الصدد، بل على العكس، إذ ان الدول الكبرى التي سبق أن وافقت على مشروع الدولة الكردية في اتفاقية سيفر (1920) ( أو: دولة كردية صغيرة ومعزولة مكونة من ست ولايات في كردستان الشملية، كما أشار إلى ذلك الباحث حسين جمو في الأبحاث التي نشرها في المركز الكردي للدراسات)، انقلبت على موقفها وسياساتها حيال الكرد، وكان موقفها اللاحق في لوزان (1923) نسخاً أو مسخاً له، بكل ما عناه ذلك من تنصل من الوعود بإعطاء شعوب الإمبراطورية العثمانية السابقة “حق تقرير المصير”، ومنهم الكرد والأرمن والعرب.

ان الفواعل التي يفترض بها أن تعمل على تحقيق الدولة الكردية وقعت تحت تأثير الوعود “الكمالية” بتشكيل دولة تعددية أو منحها الحكم الذاتي، ومنها من اعتقد أن وضع الدولة الجديدة هو وضع مؤقت وقد دخلت فيه من باب الضرورة، أي ضرورة وجود دولة تقوم بواجبات الأمن والاستقرار الاجتماعي بعد سنوات طويلة من العنف والاضطرابات والحروب.

وثمة فواعل كردية دخلت في مشروع الدولة الجديدة لأنه المشروع الذي يعيد بناء دولة دستورية خليفية وكان من بين هؤلاء مساعدون لـ مصطفى كمال نفسه!xxiii واعتقد أكثر الناس أنهم بصدد مشروع “دولة مؤقتة”، ولم يكن يخطر في بال الكثيرين أنها ستمضي في المسار الذي مضت فيه.

في الختام

تمثل سياسات الهندسة الإثنية والقومية الوجه الاخر لتركيا الجمهورية وإلى حد ما السلطنة العثمانية في عقودها المتأخرة. وقد ينسحب ذلك في جوانب منه على سياسات “الدولنة” أو “بناء الدولة” في المنطقة العربية. إلا أن “الدولنة” و”السياسات الإثنية” لم تحقق تقدماً أو نجاحاً مهماً في تحقيق الاستقرار والتنمية، بل إن ما حدث هو العكس، إذ إن تجربة الدولة تواجه عثرات وإخفاقات كبيرة، ولا تزال غير مستقرة، وتفتقر للشرعية الاجتماعية، وتقود أو تحكم مجتمعات متفجرة أو  مفخخة بالعنف.

أخفقت السياسات الإثنية وسياسات “بناء الدولة” في قراءة الواقع الاجتماعي والتفاعلات والاستجابات الاجتماعية والإثنية، الأمر الذي وضع الدولة في مواجهة إرادات قومية وإثنية تريد أن تعبر عن نفسها في السياسات العليا و”الدولنة”، إن لم يكن في خلق كيانيات استقلالية، فعلى الأقل في إقامة دول ديمقراطية تكون انعكاساً لمجتمعات تعددية وديمقراطية، وفق تعبير مركزي في خطاب الزعيم الكردي عبد الله أوجلان.

وأخيراً،

ثمة حالة من التداخل المعقدة بين الترك والكرد في تركيا، قل بين تركيا والكرد، وصعوبة الاستمرار في سياسات الاحتواء من جهة الدولة وسياسات التشكل الدولتي أو الانفصال من قبل الكرد، الأمر الذي يتطلب سياسات على أسس تعددية ديمقراطية ما أمكن، ولو ان دون ذلك صعوبات وإكراهات كثيرة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد