لوزان.. أسئلة تمهيدية عن كردستان الصغرى وأرمينيا الكبرى

حسين جمو

لا يخلو أي كتاب يتناول القضية الكردية، أو أي شأن كردي على صلة بالسياسات الدولية، من ذكر معاهدة لوزان الموقعة بتاريخ 24 تموز 1923. وقلّما تجاوزت الدراسات، التي لا تحصى كمّاً، من “الرواية السائدة” بخصوص هذه المعاهدة، التي ينظر إليها كتتويج لجهود الدبلوماسية التركية الناشئة بقيادة فريق تفاوضي على رأسه عصمت باشا (إينونو).

لقد حفرت “الرواية السائدة” عن لوزان خطاً عميقاً في الوعي السياسي الكردي الحديث، وينظر لها كتطور مفاجئ وغادر من الجانب التركي في مسيرة العلاقات المشتركة. أضف أن رواية لوزان السائدة هي الرواية البريطانية التي تظهر كيف أحرج رئيس الوفد البريطاني اللورد كرزون خلال المفاوضات نظيره عصمت باشا حين بات يسأله عن الكرد وكيف أن مقولة عصمت أنه لا فرق بين الكرد والترك، كذبة غير مقبولة. لكن لا توجد في حقيقة الأمر رواية كردية سائدة لـ”بيئة معاهدة لوزان”. ما الذي كان يحدث قبل التوقيع على المعاهدة أو خلال التفاوض؟

في العام 1918 طرح الرئيس الأميركي وودرو ويلسون مبادئه الـ 14 وأصبحت برنامج عمل دولي للعديد من الحركات القومية في الشرق الأوسط. في التاريخ الكردي الحديث الذي تمت صياغته أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، بدأ الكرد يرددون برومانسية عن عظمة مبادئ ويلسون التحررية. والمفارقة أن الطبقة الكردية القيادية في فترة طرح مبادئ ويلسون كانت تعارضها بالإجماع، وبشكل قاطع. فقد نص المبدأ الثاني عشر على:

 “ضمان سيادة الأجزاء التركية من الدولة العثمانية، وإعطاء القوميات الأخرى غير التركية التي تخضع للدولة العثمانية حق تقرير المصير وفرصة للتطور المستقل”.

استفادت القوى العربية من مبادئ ويلسون للتحرر من السيطرة العثمانية. وتبنت الحركة القومية الأرمنية هذا المبدأ لبناء دولة مستقلة على غرار العرب. لكن الموقف الكردي كان مفككاً تجاه هذه المبادئ، والجهة الأكثر تأييداً لها كانت عائلة بدرخان (ينظر جوردي غورغاس – الحركة الكردية التركية في المنفى – ص21، 22)، وهذه المبادئ هي التي مهدت لخريطة معاهدة سيفر التي سنأتي على ذكرها. أما الغالبية الكردية المرتابة من “مبادئ ويلسون” استندت على التحركات الدبلوماسية الأميركية لتطبيق المبدأ الـ12 وكان ينصب بشكل كامل على ضمان تأسيس دولة أرمنية تضم 6 ولايات يعتبرها الكرد جزءاً من كردستان.

لقد أدت الإبادة الجماعية ضد الأرمن عام 1915 إلى تفادي الكرد في المرحلة التالية استعادة النقاشات التي كانت سائدة بخصوص القضية الأرمنية، وهذا الإخفاء أدى إلى تقديم فهم قاصر للأجيال الكردية الحالية حول كيفية مرور معاهدة لوزان بينهم بدون معارضة كردية مسلحة فورية، أو سبب عدم حماسهم لمعاهدة سيفر عام 1920 التي رسمت على الخريطة حدود دولة كردية. وبكلمات أكثر تحديداً، بدون فهم القضية الأرمنية سيبقى التاريخ الكردي بدءاً من عهد التنظيمات العثمانية عام 1839 وحتى معاهدة لوزان 1923، ناقصاً وغير قابل للفهم. لذلك يلجأ معظم الكتّاب الكرد التقليديين، عن غير قصد، إلى جلد الذات الكردية بأن هذا الشعب وقادته كانوا جهلة وينخدعون بسهولة بوعود الترك. ستكون مثل هذه الخلاصة في تصوير الخسارات الكردية مدعاة لبناء وعي قومي مزيّف فارغ من دروس التجربة التاريخية. القضية الأرمنية كانت قنبلة انفجرت في يد الكردي، وكل ما جاء لاحقاً ينبغي إعادة قراءته في ضوء هذا الانفجار الذي ساهم فيه الكرد والأرمن بعدم تغليبهم تسوية مشتركة لمسألة الأراضي والسيادة على تلك الرقعة الجغرافية الواحدة التي تحمل اسمين: أرمنستان وكردستان.

في خريف عام 1913، وجه الأمير الكردي عبدالرزاق بدرخان، رسالة للكرد حذر فيها من مخطط دولي واسع يجبر الدولة العثمانية على التنازل عن قسم كبير من أراضيها في شمال أفريقيا والأناضول بعد الهزيمة الساحقة لها في حروب البلقان. كان المتداول حينها أن القوى الكبرى وضعت أركان تأسيس دولة أرمنية في حدود الولايات الست المذكورة التي يشكل الكرد نسبة 80% من سكانها بحسب رسالة بدرخان. ويشير عبدالرزاق بدرخان إلى أنه “إذا امتنعت الحكومة العثمانية عن التفريط بالكرد، ستفقد القسطنطينية وآسيا الصغرى” (هوكر طاهر توفيق – الكرد والمسألة الأرمنية – ص 758، 760).

في تلك الحقبة، أي بين انقلاب الاتحاد والترقي وحتى إعلان الجمهورية التركية، كانت قوات الفرسان (المعروفة باسم الألوية الحميدية) أكبر قوة مسلحة كردية. وحاول زعماء الكرد جاهدين إحباط محاولات الحكومة العثمانية المقربة من الأرمن بين عامي 1908 – 1911، تجريد هذه القوات من السلاح. وقد أشار عبدالرزاق بدرخان إلى هذه المساعي ليس كاستهداف لفرسان عشائريين منفلتين كما جرى تصوير هذه القوات لاحقاً في التاريخ المعاصر من قبل معظم الكتاب والأكاديميين الكرد، بل إنه حذر من “تجريد الكرد من السلاح” (هوكر طاهر توفيق – ص 761).

لقد تناثرت السجالات الخاصة بالتوتر بين الكرد والأرمن تحت وطأة عوامل عديدة، من بينها أن الحصيلة كانت مأساوية وجذرية في وحشيتها ضد الأرمن. خلال جدالات بديع الزمان سعيد الكردي (النورسي) مع عشائر منطقة وان، جوبه بقلق يتصدر تفكير العوام خوفاً من سيطرة الأرمن على كردستان بمباركة من الدول الأوروبية، وقد أورد النورسي مقتطفات عديدة من هذه الهواجس وإجاباته على استفساراتهم في كليات رسائل النور، وأغلبها في مجلد “صيقل الإسلام”.

النورسي حذر قبل هذه الجولة بين عشائر وان، من حل قوات الفرسان الكردية. فكتب مقالاً نشرته جريدة شورى أُمّتْ (شورى الأمة) بتاريخ 19 تشرين الثاني 1908، انتقد فيها قرار الحكومة إغلاق مدرسة العشائر التي تخرج منها معظم الضباط الكرد في الجيش والألوية الحميدية. وشبه في مقاله مدرسة العشائر بـ”النافذة” التي تم إغلاقها، وشبه الألوية الحميدية بالباب. وحذر سعيد بتوصيف مثير للانتباه، كيف أن إغلاق المدرسة قد زعزع ولاء وإخلاص الكرد للدولة، فما الذي سيحدث إذا سدت الأبواب، أي حل الألوية؟

إذاً، “الرواية الكردية السائدة” عن تاريخ الكرد التحرري يضم صفحات مجهولة ومشوشة، مثل الحرج من الاعتراف بأن الكرد عملوا بكل قوة لإفشال ما يسمى “مبادئ ويلسون التحررية”. لذا، لا بد من الانتقال إلى طرح أسئلة محفزة للبحث والاستفزاز المعرفي من قبيل: هل هناك تسوية مخفية في معاهدة لوزان بين الكرد والترك؟ هل تجاوز الفريق التركي حدود التفاهم واستغل المعاهدة كسيف على رقاب الكرد؟ هل كان من الأفضل بناء “كردستان الصغرى” في مناطق آل بدرخان التاريخية والتنازل عن الولايات الست (وان، بدليس، أرضروم، سيواس، خربوط ودياربكر) لأرمينيا الكبرى؟ ما الذي حدث حقاً منذ الانقلاب الدستوري 1908 حتى نهاية حرب الاستقلال 1922؟ هل كان وارداً أن يتنازل القادة الأتراك عن كردستان للكرد بعد أن ارتكب هؤلاء القادة الأتراك أبشع جريمة في العصر (إبادة الشعب الأرمني) بقرارات رسمية موثقة في مراسلات طلعت باشا وقادة الاتحاد والترقي في الحكم؟ هل القالب الأوروبي لتأسيس الدولة القومية الحديثة أسست لمجازر متبادلة في الشرق العثماني المنهار؟

لقد كتب صالح بدرخان في مقالة له بمجلة “روزى كرد”، العدد الثالث سنة 1913، بعنون “القلم قبل السيف” أن الشعب الكردي هو الآن مثل الشخص الأصم والأبكم الذي لحق به أذى كبير، ولكنه لا يستطيع التعبير عن ذلك، او حتى طلب المساعدة.

في كل الأحوال، ما سنقدمه في هذه الصفحات حكاية أوسع لـ”لوزان” من الرواية السائدة. من أين يجب أن نبدأ لفهم ما حدث في لوزان التي أنهت الشعب الكردي قانونياً؟ هل نبدأ من معاهدة سيفر التي سبقتها بثلاث سنوات؟ هل نعود إلى الحرب العالمية الأولى والمقاومة المشتركة ضد الهجوم الروسي العنيف وما رافقه من صدامات مع قوات الطاشناق الأرمنية؟

الواقع أن لوزان فصل من رواية طويلة بدأت قبل ألف عام، وهو فصل ما زال مفتوحاً. كانت هناك ما يشبهها خلال الأعوام الألف الماضية في العلاقات الكردية التركية.

إذاً، لا يمكن تقزيم لوزان إلى معاهدة قانونية بين الدولة العثمانية المنهارة والدول الأوروبية، إنما هي حصيلة ألف عام من العلاقات المعقدة والمضطربة والمتجاورة بين ثلاثة شعوب: الكرد والترك والأرمن. بدون استكمال صورة العنصر الأرمني من المتعذر استيعاب هذه المعاهدة كردياً، لأنه إلى اليوم يطرح الجيل الكردي الشاب كيف أن أجدادهم انخدعوا بسهولة بهذه البنود الغبية من شدة وضوحها. وهم حين يطرحون هذا السؤال المشروع ولا يلقون إجابة، لأنهم أزاحوا العنصر الأرمني في المعادلة، وبالتالي، ستصبح لوزان غير مفهومة بالنسبة لهم. هل هذا يكفي للإحاطة بالمعاهدة والعثور على إجابات للأسئلة الملحة؟ لا يكفي، ولا بد من العودة أكثر، إلى ما قبل الصدام الكردي الأرمني عام 1896، إلى معاهدة برلين عام 1878. لكن هناك جذور للحكاية تعود إلى فترة أقدم، إلى حرب القرم 1853 – 1856. هل تبدأ الحكاية من هنا؟ بل أقدم من ذلك، إلى مرسوم التنظيمات عام 1839.

سؤال من أين نبدأ يأخذنا إلى تاريخ أبعد كلما افترضنا أن البداية في واحد منه، وهذه الإحالة من تاريخ إلى آخر حقيقي وواقعي، لذلك من الأفضل أن نذهب إلى البداية، إلى عام 1042 حين شاهد الكرد في عاصمتهم ميافارقين للمرة الأولى رجالاً على خيولهم على أبواب المدينة، وقيل إن هؤلاء الرجال من الأتراك، فكان اللقاء الأول والصدام الأول بين الشعبين في عمق الأراضي الكردية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد