شورش درويش
قبل توجهه إلى فيلنيوس، لتوانيا، حيث عقدت قمّة حلف شمال الأطلسي الأخيرة، أعطى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان موافقته على ضم السويد للناتو، لكنه علّقها مؤقّتاً عبر إحالة الموافقة النهائية للبرلمان، ما يعني أن هناك مناورة أخرى عنوانها شراء الوقت بغية تحقيق مسألتين أكيدتين من ثلاث كان يسعى إليهم أردوغان: تشديد السويد قوانينها وإجراءاتها بالضد من المنشقين والمعارضين لاسيما الكرد، وموافقة واشنطن على صفقة تزويد أنقرة بالأسلحة خاصةً مقاتلات F16 التي أحجمت إدارة بايدن عن المضيّ فيها بعد التعاون العسكري التركي الروسي في مجال التسليح وخرقها لأحد المحاذير الأمريكية، فيما المسألة الثالثة المستحيلة، التي طرحها الرئيس التركي في فيلنيوس، فقد تمثّلت برغبته ضمّ بلاده للاتحاد الأوروبي، وهي واحدة من أحلام تركيا غير القابلة للتحقيق في المدى المنظور.
لكن الضوء الأخضر التركي هذا، عنى في زاوية أخرى، احتمالية تهدّم أو تراجع العلاقات التركية الروسية التي تنامت بشكل غير مسبوق، ووصلت إلى درجة أن تصبح الدولتان في حلف صامت لا يحظى بأي تسمية رسمية، سوى الاسم المجازي حيث أنه “تحالف بوتين-أردوغان”. وأبرز مناطق التباين والخلاف قد تكون في أوكرانيا وسوريا، والدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى.
دواعي إصلاح تركيا علاقاتها بالغرب
في الشهر التالي للانتخابات هوت الليرة التركية بمقدار 30% في ظل التضخّم الذي تعانيه تركيا رغم رفعها أسعار الفائدة وانصياع الحكومة لوصفة السياسات الاقتصادية التقليدية المدعومة غربياً. في الواقع نجح أردوغان خلال الانتخابات الأخيرة في صرف انتباه الناخبين الأتراك عن سؤال الاقتصاد الضاغط، وتركيزه على السياسات الخارجية وعداء الغرب المزعوم لبلاده، ولعل لحظة الحقيقة جاءت مع نجاحه في الانتخابات ما عنى وجوب إعادة العلاقة مع أوروبا وواشنطن وحاجته إلى دفقة استثمارية جديدة لوقف نزيف الليرة والتعافي من نتائج الزلزال والتفرّغ تالياً للانتخابات البلدية المقبلة، ومعلوم أن المدن الكبرى التي بات الحزب الحاكم يخسرها، لاسيما الساحلية، تميل في مجموعها للاستثمارات الغربية ونمط التعاون مع أوروبا.
لم تعد سياسة تبادل العداء مع الغرب، بما في ذلك تعطيل توسعة الناتو، مجدية بعد مرور الانتخابات، كما أن حاجة أنقرة إلى واشنطن في مجال التسلّح، خاصة مع دعم واشنطن غير المحدود لليونان، بات أكثر إلحاحاً. سياسة تنويع مصادر السلاح وكسر قواعد الناتو عبر شراء منظومة S-400 الروسية تسببت في استبعاد أنقرة عن برنامج تصنيع مقاتلات F-35 الشبحية، وحالت دون حصولها على مقاتلات F-16، وذلك تبعاً لقانون “مكافحة أعداء الولايات المتحدة” (CAATSA) الذي يحظر على الدول الحليفة شراء الأسلحة من خارج منظومة الناتو، وبالتالي تم فرض عقوبات على إدارة الصناعات الدفاعية التركية.
ورغم عدم ربط واشنطن موافقة أردوغان الأولية على انضمام السويد بإتمام صفقة طائرات F-16، إلّا أن المعطيات تشير إلى حصول صفقة في هذا الاتجاه. ويبدو أن خطوة أردوغان بإحالة موافقة الانضمام للبرلمان كانت عملية قتلٍ للوقت إلى حين إبرام صفقة المقاتلات المعطّلة.
بطبيعة الحال، يتمتّع أردوغان بحظ وافر لجهة أن تنقّله بين الجبهات المتعارضة، وانتقاله بين واشنطن وموسكو وبين الغرب والشرق، لم يستحضر اتهامه بارتكاب أخطاء سياسية كارثية تنعكس على الاقتصاد ومكانة تركيا الدولية، وبالتالي يوصف لعبه المستمر بأنه اتقان في انتهاز الفرص وتطويع الخصوم. بكلمات أخرى: تتلخّص سياسة أردوغان في افتعاله المشكلات التي يعتبرها موالوه نجاحات مبنية على قدرة تركيا في افتعال المشكلات، ثم يقوم هو نفسه بالعدول عن سياساته وحل تلك المشكلات فيعتبر موالوه أيضاً أنه نجح في تحقيق الانتصار عبر التفاوض وحل تلك المشكلات. في إزاء ذلك، فإن مضيّ أردوغان في هذه السياسات المتقلّبة، والتي تُلطّف إلى درجة اعتبارها “استدارات”، لم يعد ممكناً لأن الوضع الداخلي التركي لم يعد قادراً على احتمال الكوارث السياسية والاقتصادية التي نتجت عنها في السابق ، كما أن المنطقة والتحالفات التي تعتبر تركيا جزءاً منها لم تعد تطيق مثل هذه الألعاب الاستعراضية، وقد تكون عودة تركيا لبيت الطاعة الغربي إشعاراً بانتهاء صلاحية سياسة اللعب في كل اتجاه لتحقيق مكاسب شخصية وحكومية لا تعود بالنفع على مجمل البلاد.
روسيا بين الاستياء والتفهّم
لا يمكن قراءة عودة تركيا إلى الحضن الأطلسي بأنه أمر “تتفهمه” موسكو على ما قاله الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، فالأشد وضوحاً وواقعية كان ما قاله فيكتور بونداريف، رئيس لجنة الدفاع والأمن إن موسكو تشعر “بطعنة في الظهر”. يبدو أن سرعة الطعنة أربكت موسكو التي لم تتعافى بعد من طعنة بريغوجين الداخلية (يمكن تسميتها طعنة من الأمام)، وكل ذلك على وقع استنقاع الأوضاع في أوكرانيا وتقدّم القوات الأوكرانية.
في الواقع، توقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يكافأ على دعمه أردوغان خلال الانتخابات التركية الأخيرة على الأقل، إذ تم تأجيل سداد مبلغ 20 مليار دولار ثمناً للغاز الروسي المسال إلى تركيا، الأمر الذي غطّى على مصائب الحكومة التركية الاقتصادية قبيل الانتخابات، كما أن موافقة روسيا على تمرير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود أوحى للعالم بأن حياد تركيا وتموضعها بين الأطلسي وروسيا مفيد بعض الشيء. غير أن الكرملين أعلن تعليق “مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب” في 17 تموز/ يوليو 2023، ما عنى سحب ورقة تبرير تأخر تركيا عن ركب الناتو التي تذرّعت باضطلاعها بدور الوسيط وأنها باتت النسغ الذي يؤمن الخبز لقرابة 400 مليون من سكان الكوكب، ممن يعتمدون في ذلك على الحبوب الأوكرانية.
يرى البعض أن أنقرة لم تعدم وسيلة الرد على موسكو، إذ قامت بنقل قادة كتيبة آزوف الأوكرانية على متن طائرة الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي، الأمر الذي أغضب الكرملين، فبحسب بيسكوف، كان يجب “أن يبقى قادة الكتيبة في تركيا حتى انتهاء الصراع”. غير أن الكرملين أيضاً قدّم تبريراً لفعلة تركيا تلك بالقول “أن الغرب مارس ضغوطاً كبيرة على تركيا قبل قمة حلف شمال الأطلسي”. فعلياً، تتسم التصريحات الروسية في أنها مزيج من الغضب والاستياء من جهة، وإبداء التفهّم من جهة أخرى، لكن، وفي كل الأحوال، لا تخلو كلمات المسؤولين الروس من التوبيخ لحليف بوتين الشخصي.
تكشف مسألة الاحتفاظ بقادة كتيبة آزوف مقدار الثقة المتبادلة بين بوتين وأردوغان، ذلك أن اتفاق الاحتفاظ لم يكن بروتوكولياً أو منصوصاً عليه في أوراق رسمية بين البلدين، بل جاء نتيجة الثقة المتبادلة بين رجلين فقط هما بوتين وأردوغان وعبر اتصالات هاتفية بينهما، الأمر الذي يكشف المنحى السلطوي لدى الزعيمين اللذين يتفقان ويبرمان الصفقات بشكل شخصيّ. لكن هذه الثقة المتبادلة يبدو أنها في طريقها لأن تملأها الشكوك المتبادلة وقلق يساور كلا الزعيمين فيما خص الخطوة القادمة لكلٍّ منهما.
ثمة احتمال في انزياح علاقة روسيا بتركيا، رغم الوشائج الاقتصادية القائمة والسوق السوداء النشطة بين الطرفين؛ فتصريحات أردوغان المتتالية فيما خص ترحيبه بانضمام أوكرانيا للناتو، لم يسبق لأي عضوٍ آخر أن طالب بها، كما أن نهاية صلاحية اتفاقية نقل الحبوب ستؤثّر على شكل العلاقة، فضلاً عن أن اختتام لقاء أستانا 20 الذي أُعلن فيه نهاية زمن هذه المنصّة، التي شكّلت أبرز صور التنسيق الروسي التركي، تعكس شيئاً من تهدّم علاقة التنسيق في سوريا أيضاً، رغم القول ببقاء أعمال اللجنة الرباعية الخاصة بالتطبيع بين أنقرة ودمشق. أضف أن تصريح أردوغان الأخير بأنه “لن ينسحب من سوريا” كشف عن مواجهة جديدة عنوانها العودة إلى “اللا تطبيع” مع دمشق، رغم سيولة التصريحات الداعية للتطبيع والمصالحة التي سبقت الانتخابات التركية والتي عكست حضوراً روسياً نافذاً في قلب المشهد التركي. قد لا يعني كل ذلك حدوث تصعيد عسكريّ جارف بين أنقرة وموسكو في سوريا بالنظر إلى أحوال البلدين غير المستعدين للخوض في مواجهة موجعة، إلّا أن المشهد السوري قد يشهد معركة فرض إرادات واستبدال للتحالفات القائمة منذ أن ترسخّت العلاقة الروسية التركية نهاية عام 2015.
يبقى أن علاقة تركيا بروسيا معقودة على قدرة النظام الروسي على التعافي من أزمة الحرب في أوكرانيا، وصورتها التي اهتزت بفعل انقلاب بريغوجين، ما يعني أن تركيا ستراقب قدرة روسيا على لثم جراحها، وفي حال نجاحها مرة أخرى في استعادة قوّتها، فقد نشهد استدارةً أردوغانية أخرى باتجاه موسكو، يدخل في ذلك أيضاً حجم المغريات التي سيقدّمها الغرب لتركيا في هذه الأثناء كي لا تعود إلى حضن موسكو حتى وإن كان بارداً.