مؤتمر القوى الديمقراطية.. فرصة لتأسيس إطار سياسي جديد

 

بشار عبود

الحقيقة البيّنة اليوم أنه لا حضور ولا تمثيل حقيقي للقوى الوطنية الديمقراطية في سوريا، فهي في أفضل الأحوال، مجموعة قوى متبعثرة ومشتتة لا وزن لها ولا فاعلية، لا على المستوى السياسي ولا ضمن مشهد العمل المدني.

اختبرت السنوات الماضية أصحاب الأحزاب التقليدية، الدينية منها أو القومية وحتى اليسارية، وأثبتت التجربة مدى عجزهم عن إحداث تغيير حقيقي في واقع أحزابهم القائم على منطق الشللية والإقصاء والأحادية وعدم الاعتراف بالآخر المختلف عنهم بوصفه شريكاً لهم في البلد، وهذا ما أدى تالياً إلى عجزهم عن تفعيل أي تغيير في واقع بلدهم. من هنا تأتي ضرورة وأهمية تشكيل حالة سياسية جديدة تضمن العمل المشترك بين القوى الوطنية كلها، لا سيما في هذه الظروف التي تحتاج فيها الساحة السياسية السورية إلى أحزاب حديثة تقوم على أساس الندّية والمشاركة وتعمل على طمأنة جميع السوريين إلى مستقبلهم في بلدهم.

كيف يمكن إعادة السياسة إلى المجتمع السوري بمعناها المدني الواسع؟

هذا هو السؤال الذي يمكن للقوى الديمقراطية الحية في البلد أن تطرحه على نفسها، فهو يمتلك كل أسباب الشرعية المطلوبة للعمل من أجله، وعليه فإن الديمقراطيين مدعوّون اليوم إلى عدم ترك الساحة، مرة أخرى، للقوى التي تستغل الدين أو الطائفة أو الإثنية أو العشيرة بهدف تحقيق مآربها “ما دون الوطنية”، فمن أبسط واجبات القوى الديمقراطية سعيها لالتقاط أية فرصة ممكنة  لترميم نفسها وتشكيل أحزابها السياسية وجمعياتها المدنية التي سوف تمكّنها من وضع مقدمات لبناء دولة تتسع لجميع مواطنيها، وتساعدها على الوقوف في وجه التطرف الديني والعصبيات الطائفية والمذهبية، بما يسهّل عليها البحث عن مخارج مقبولة من هذا الخراب الذي وصل إليه السوريون على اختلاف ولاءاتهم ومكوناتهم.

في شروط كالتي يعيشها بلدنا، لا يمكن النظر إلى تأسيس الأحزاب الديمقراطية كنوع من الترف الزائد عن الحاجة في المجتمع، فالديمقراطية، وبما تشمله من تطبيقات عملية وحقوقية ودستورية، تعتبر من أهم المقومات التي يمكن الاستناد إليها في تجسيد فكرة المُواطَنَةْ الحاملة لقيم العدالة والمساواة والحرية والضرورية من أجل بناء أي بلد في العالم أجمع. ولا يخفى على أحد كيف تم تقزيم كل هذه القيم على يد النظام باستبداده وبطشه، وعلى يد المعارضة عبر اتخاذها نهجاً دينياً متشدداً طبّقته “بالقوة” في مناطق سيطرتها، مساهمة بذلك في تمكين الثورة المضادة وعزل قوى الثورة الحيّة والحقيقية عن ممارسة أي دور لها في الحياة العامة.

ثمة بارقة أمل تلوح من شمال شرق سوريا، حريّ بالديمقراطيين التقاطها بعناية وذكاء وتفكير عميق، تلك الفرصة التي تتمثّل في مساعي مجلس سوريا الديمقراطية “مسد” لعقد مؤتمر يجمع القوى والشخصيات الوطنية الديمقراطية السورية بحلول الصيف المقبل، بما يهدف إلى تكوين حضور ملموس للديمقراطيين السوريين وتفعيل دورهم في العمل السياسي.

المؤتمر المرتقب، يأتي تتويجاً للقاءات تشاورية سابقة عُقدت على مدار أشهر في عدد من العواصم والمدن الأوروبية، وأخرى تم عقدها داخل الأراضي السورية مع مجموعة من الشخصيات والقوى التي تؤمن بالديمقراطية كحل للقضايا المستعصية في سوريا. لقد شكّلت تلك اللقاءات الحيوية حالة من الدفع باتجاه الأمل لدى معظم المعنييّن بالشأن العام، عبر تطوير آلية جديدة للحوار بين المختلفين، ومن خلال الكشف عن القواسم المشتركة بينهم بما يُمكّنهم من الالتقاء والتوصل إلى مشتركات واقعية وإجراءات عملية تمكّنها من التأسيس لواقع سياسي جديد يحمله تنظيم سياسي جدّي قابل للحياة وقادر على المشاركة السياسية في هذه المرحلة على الأقل.

ثمة بارقة أمل تلوح من شمال شرق سوريا، حريّ بالديمقراطيين التقاطها بعناية وذكاء وتفكير عميق

على الرغم من أهمية عقد مؤتمر القوى الديمقراطية، إلا أن ما سوف يميزه أكثر هو قدرته على إنتاج حالة جدّية تفرض نفسها على الواقع السياسي السوري ككل وتكون قابلة للحياة والاستمرار وقادرة على المشاركة السياسية في هذه المرحلة على الأقل.

رغم المحاولات الشرسة في التّعتيم على القطب الديمقراطي داخل وخارج سوريا، إلا أن الديمقراطية بقيت هاجساً ومطلباً لمعظم شرائح الشعب السوري، وهذا يشجع جميع المشاركين والمعنيين بمؤتمر القوى والشخصيات الديمقراطية المزمع عقده قريباً، أن يضعوا رؤية جادة تخلق مشروعا سياسياً سورياً، منظماً، وطنياً، غير مؤدلج، صبوراً، متوازناً وعقلانياً في علاقته مع السوريين ومع القوى اللاعبة على الأرض السورية، بحيث يستقطب الناس داخل وخارج سوريا، ويكون قادراً على لعب دور في البحث عن حلّ سياسيّ وطنيّ، وأن لا يسمح بتهميش هذه الشريحة الواسعة من السوريين أو تركها تدور بين مروحتي النظام والمعارضة.

إن التفكير في تشكيل سياسي جديد، يفرض نوعاً من العمل الجماعي، وهذا ما لم نعتد عليه حتى الآن في سوريا، لا سيما في ظل الأزمة الحالة. ويمكن القول بأننا أمام استحقاق وطني جدير بمتابعته وبذل الجهد لأجله، على أن يضم كل مكونات المجتمع بطوائفه وقومياته، وأن لا يستبعد فرداً أو جماعة، بل يشكل قطباً جاذباً للجميع وعابراً لمختلف الانتماءات والولاءات ما قبل الوطنية ودون أن يقفز فوقها. وأيضاً أن ينطلق من الواقع المعاش والمتعيّن في مختلف مناطق سوريا، بما يعني الابتعاد عن التوصيف الجاهز وبعيد كل البعد عن الإيديولوجيا الضيقة والمفاهيم الحزبية العقيمة، ويعبر عن نبض الإنسان السوري بتفاصيل حياته اليومية ويرتقي بالوعي الوطني الجمعي كي يكون الانتماء إلى الوطن قائماً على حس المُواطَنة والتشارك الجماعي لا غير.

إذا كان التاريخ ليس أكثر من سجل للحقائق التي ضاعت، لأن أصحابها لم يعتمدوا الطرق العملية والعلمية لتحقيقها، فلا حجة للديمقراطيين بعد اليوم في هذا المؤتمر ليقولوا كلمتهم ضمن مسار سوريا التاريخي الذي تمر به حالياً. هذه فرصة مفصلية لكل الديمقراطيين كي يبدؤوا بفكرة الارتقاء  بالخطاب الوطني إلى خطاب تقني وعملي يصب في جوهر الحراك السياسي لسوريا.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد