بطولات الديجتال كثمرة للذكاء الاصطناعي 

د. آزاد أحمد علي
لعل أولى نتائج الذكاء الاصطناعي بدأت تظهر على نطاقٍ مجتمعي وجغرافي واسع. إذ أن ظاهرة الذكاء الاصطناعي التي تم الحديث عن خطورتها وفعاليتها منذ أمدٍ بعيد، تتسع في تطبيقاتها وتؤثر بصيغةٍ أو أخرى على سلوكيات الانسان والمجتمعات المعاصرة. لقد تُرجم الذكاء الاصطناعي في تطبيقاتٍ عملية فعالة ومؤثرة، حتى بتنا نستخدمها ونخضع لنتائجها الأولية بشكلٍ يومي. وتحولت هذه التطبيقات – وضمن مستواها الراهن المحدود نسبياً – إلى قوةٍ مؤثرة. وربما ما نتطرق إليه في حقل استخدامات التواصل الاجتماعي وانعكاساتها يفصح عن عمق تأثير الفضاء الإلكتروني على المجتمع والأفراد. لذلك، من الممكن أن نفسر بعض حالات التفاعل الحاد مع الأحداث العامة ضمن الفضاء الإلكتروني بتقمص ما يشبه «بطولات الديجتال»، والتي يمكن إدراجها كأحد أصغر الأمثلة على التأثير التقني المباشر على سلوكية الأفراد ضمن أوساطٍ اجتماعية واسعة.
وإذا اقتصرنا على بعض الجوانب السياسية فقط، فمن منظورٍ تقليدي يبدو أن الفرق شاسعٌ بين السجالات السياسية الجادة في سياقاتها المحددة، وبين الاسترسال والفضفضة السياسية على شبكة الانترنت. الفارق أيضاً كبير بين المساهمة الجادة في الشأن العام، وعملية النثر السهل للانتقادات والاتهامات بشكلٍ مستمر. فالحديث في المواضيع السياسية ينبغي له أن يركّز على البرامج والخطط، وعلى السياقات، والإحصائيات، والمنجزات والمعضلات الموضوعية التي تواجه خطط وسياسات الكيانات والمجموعات المنظمة، على أقل تقدير.
لقد قام العديد من الأفراد بتسميم البيئة السياسية الكوردية في سوريا طوال عشرات الأعوام. حدث ذلك في أجواءٍ تسودها الأمية المعرفية. وجاءت مرحلة ثرثرة الديجتال لتعيد تدوير تلك الحالة الطارئة
أما النقاشات العصبوية والحزبوية التي تضيق وتضيق لتتحول الى مستويات الشخصنة وتصفية الحسابات بين هذا وذاك، باتت سلوكية ممجوجة وتتسبب في أضرارٍ نفسية أكثر بكثير من فوائدها، إن وجدت، كحالات رأي موضوعية. لقد قام العديد من الأفراد بتسميم البيئة السياسية الكوردية في سوريا طوال عشرات الأعوام. حدث ذلك في أجواءٍ تسودها الأمية المعرفية. وجاءت مرحلة ثرثرة الديجتال لتعيد تدوير تلك الحالة الطارئة بعيداً عن المعرفة العلمية، مسببةً تلوثاً اجتماعياً وتشويشاً فكرياً، بل فوضى.
بات معروفاً لدى المهتمين أن المناقشات الجادة لا تناسب الفضاء الإلكتروني، بسبب مساحة الانتشار ومستوياته. فالفضاء الأزرق ربما وظيفته التواصل السريع والمعرفة المختزلة، وليست إعادة إنتاج ما لفظه الواقع الفيزيائي الاجتماعي الرتيب.
تمجيد هذا الطرف أو ذاك الشخص، أو على العكس، تخوينهم في الفضاء الالكتروني العام له سلبيات كبيرة، بسبب تجاوز احترام الخصوصية، ولنقل بسبب اقتحام الحالة العامة عبر الخصوصيات وعدم احترام السياقات.
كما أن بعض نشطاء الفضاء الافتراضي يتوهمون بفعالية تأثير آرائهم بفضل تقنية التواصل العابرة للحدود والمسافات. لكن على العكس، أثبتت الدراسات أن تأثير الفكر والرأي السياسي يحتاج إلى المزيد من اليقين والاستقرار في العلاقات بين الأفراد والجماعات، وأن الموقف والرأي الذي يفترض أنه نُشر على نطاقٍ واسع بفضل وسائل التواصل الاجتماعي يتبخر بسرعةٍ أكبر من الحالة التي يتم تأسيسها على أرض الواقع الاجتماعي نفسه.
فبطولات الديجتال الوهمية تأتي من الاستخدام غير المناسب والمنسجم لأداة شديدة الخطورة من قبل مستوياتٍ عمرية واجتماعية وثقافية شديدة التباين. كما أنها تخلق بيئة متخيلة موازية للواقع، وغير متفاعلة معه.
لذلك، فإن الكثير من النشاطات والحالات على الشبكة العنكبوتية تتحول الى مجرد ثرثرة ديجتال، وحالات تقمصٍ لبطولاتٍ وفعاليات وهمية، إن لم تكن مضيعة للوقت وهدر للطاقات.
والمؤسف أن السمة الغالبة على ما يصنف ضمن «السجالات السياسية» لكورد سوريا تحولت بفضل الانترنت إلى محض ثرثراتٍ مكررة وجوفاء، تعيد إحياء حالة سلبية ترسخت منذ أكثر من أربعة عقود. إذاً، الفارق الجوهري بين السياسية بوصفها عملا منتجاً وبين الثرثرة الإلكترونية الحديثة هو تماماً مثل الفارق بين الإنجازات السياسية والقانونية التي تقدم الخدمات للمجتمع، وبين التوهم في إنجاز شيءٍ ما، وأسوأها تقمص حالات بطولة متخيلة وطائرة بين موجات الأثير. ويبدو أن الخلل ليس في تقنيات الذكاء الاصطناعي فحسب، وإنما في حالات الخلل الاجتماعي والسياسي نفسه.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد