ترحيل اللاجئين السوريين: وصفة انتخابية مظلمة

شورش درويش

أعاد حزب الجيد، أواخر الشهر الماضي، طرح قضية اللاجئين السوريين إلى حيّز النقاش السياسي والتنافس الانتخابي. إذ تقدّم «الجيّد» بمقترحٍ برلماني يقضي بإعادة اللاجئين السوريين بشكلٍ فوريّ إلى بلادهم، ودائماً ضمن أجندة تسعى إلى كسب المزيد من أصوات الأتراك الغاضبين من الأوضاع العامّة في البلاد، ذلك أن أبرز حزبين في المعارضة (الطاولة السداسية) وهما: «الشعب الجمهوري» و«الجيد» أجادا اللعب على قضية اللاجئين ورصفاها إلى جانب القضايا الفعلية التي تسببت بتردي الأوضاع الاقتصادية.
بطبيعة الحال، أفضت الدعاية الموجهة ضد اللاجئين وتنامي خطاب كراهية الأجانب إلى بروز وصفةٍ انتخابية مظلمة تتبعها غالبية الأحزاب التركية. ويأتي إنحياز حزب العدالة والتنمية إلى صوت الأتراك الغاضبين رغبةً منه في الإبقاء على أصوات قواعده الحزبية المؤيّدة لخطط الترحيل. لكن اعتماد الحكومة التركية على سياسة كسب الوقت للوصول إلى اللحظة الانتخابية دفعها إلى اتخاذ سياسة ملتبسة ومزدوجة أيضاً تجاه اللاجئين. فهي من جهة تريد صرف أنظار الأتراك عن موضوع اللاجئين حال طرحه في البرلمان أو في الإعلام، فيما تنشّط الحكومة خطط الترحيل القسريّ لتهدّء مخاوف عموم ناخبيها، إذ أُجبرت مئات اللاجئين السوريين، بمن فيهم أولئك الذين يتمتعون بحق الحماية، على التوقيع على أوراق عودة «طوعية» بحسب ما أعلنت منظمة «هيومن راتس ووتش» في تقريرٍ مفصّل صدر عام 2022. كما تزايدت أعداد السوريين في مراكز الاعتقال والاحتجاز وتعريض المحتجزين للضرب وسوء المعاملة على يد مسؤولين أتراك، على الرغم من أن مراكز الترحيل مموّلة من قبل الاتحاد الأوربي، فيما ركّز التمويل على «تحسين المعايير» وضمان نقل اللاجئين (ترحيلهم) «بأمان وكرامة».
في خضم اشتداد الاستقطاب وتنامي خطاب كراهية الأجانب، تعهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إعادة توطين مليون لاجئ سوري، من أصل 3.7 مليون، في سوريا بعد أن تعهد في مايو/أيار 20222 ببناء مساكن من الطوب تستوعب عشرات الآلاف منهم، على أن تعيد أنقرة 500 ألف سوري حتى نهاية 2022، في مخالفةٍ صريحة لمبدأ العودة الآمنة والطوعية للاجئين، لاسيما العودة إلى مناطقهم الأصلية. لكن، على الرغم من المساعدات المهولة التي قدّمتها جمعيات قطرية وكويتية وفلسطينية، لم تنجح سياسة بناء المساكن في استيعاب مشكلة اللاجئين وإعادة التوطين، لتتراجع أنقرة عن هذا الحل لصالح حلٍّ بديل أخر (في الواقع كان حزب الشعب الجمهوري طرحه في وقت سابق) يتمثّل بإعادة اللاجئين بعد المصالحة مع دمشق، وبالتالي إعادتهم عبر العمل الدبلوماسي. غير أن هذا التصوّر للتخلّص من عبئ ملف اللاجئين يجابه بسلّة مسائل سياسية تفرضها دمشق على الجانب التركي، من ذلك، انسحاب تركيا من الأراضي السورية التي احتلّتها منذ عام 2016 فصاعداً، والتوقف عن دعم الفصائل المسلّحة التي تصنّفها دمشق إرهابية.
لم يبنَ انزياح حزب العدالة والتنمية وتحالف الشعب لأفكار الترحيل وسياسات التضييق على اللاجئين والتسامح مع الاعتداءات عليهم، على ضغوط المعارضة فحسب، أو تبدّل مزاج ناخبي العدالة والتنمية أنفسهم إزاء السوريين، بقدر ما بنيت سياسات الحكومة على إداركها فوات زمن العبارات الشاعرية «أنتم المهاجرون ونحن الأنصار» المقامة على وعيٍ إمبراطوري زائف يسعى إلى تجميع عناصر «الأمّة العثمانية» في حيّزٍ اسمه تركيا. كما كان لفشل مساعي تحويل اسطنبول، بوصفها متروبول الإسلام زمن الدولة العلية، إلى مركزٍ جديد يجمع جماعات الإسلام السياسي المشرقية، ومن ثمّ خروجها من يد حزب العدالة والتنمية بعد هزيمة انتخابات 2019، دوره في تقويض الجانب الرمزي والدعائي لمشروع الحزب الحاكم في تشكيل قطبٍ إسلامي، الأمر الذي انعكس على مجمل استراتيجيات الحزب الكبرى وتراجعه إلى حيث الحفاظ على قواعده الانتخابية، وما يتطلّبه ذلك من قبول بصيغ التضييق على اللاجئين واحتجازهم وترحيلهم.
جدير بالإشارة أنه في أواخر 2017 وبداية 2018، علّقت اسطنبول وتسعة مقاطعات أخرى على الحدود مع سوريا تسجيل طالبي اللجوء الوافدين حديثاً، أي أن إغلاق اسطنبول جاء قبل خسارة حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية في جولتي الانتخابات في مارس/آذار ويونيو/حزيران 2019. والحال، أن حزب أردوغان هو الذي باشر التضييق على اللاجئين هناك.
فقد اللاجئون السوريون إمكانية المفاضلة المبنية على خياري فوز المعارضة أو بقاء الحكومة. ففي كلتا الحالتين، يغفو السوريون على احتمالات الترحيل. وإذا كان برنامج حزب الشعب الجمهوريّ يتلخّص في عبارة «سنرسل إخواننا وأخواتنا السوريين خلال عامين» ومرسوماً وفق جدولٍ زمني تقديري قائم على مشروع التطبيع النهائي مع دمشق، فإن الحكومة التركية مقبلة على تنفيذ هذه السياسة من دون تحديد جداول زمنية لذلك، وهو ما يعني أن المحصلة واحدة.
داخل هذا المزاج والضغط الشعبي على الأحزاب، استطاع حزب الشعوب الديمقراطي، ورديفه الانتخابي حزب اليسار الأخضر، أن يتمايزا عن بقية الأحزاب التركية في ضفّتي المعارضة والحكومة، من خلال تجديد التزامهما بمحاربة العنصرية ومعاداة اللاجئين وتقديم الخدمات «لكل شخص يعيش في البلاد»، بما في ذلك اللاجئين، فضلاً عن ضمان حصولهم على الحقوق الاجتماعية الأساسية وسلامة حياتهم وممتلكاتهم. وتتمثّل الخطوة الأهم في تعهد الحزبين في اجتماعٍ لهما في أنقرة التعهد بإغلاق مراكز الترحيل.
ابتعاد الحزب عن ممالأة الشارع التركي الغاضب ودعمه قضايا الحداثة الاجتماعية والسياسية، وضمناً قضايا اللجوء ونُظم الحماية، قد يؤثّر على منسوبه الانتخابي. لكن في المقابل، يكرّس المضي في هذا الاتجاه صورة الحزب الداعم للقضايا الإنسانية، كالالتزام بحل قضايا الأقليات ودعم مطالبات الجماعات النسوية والمساواة الجندرية وقضايا البيئة والمهمّشين. ولعل تبنّي هذه المسائل يضع «الشعوب»/«اليسار الأخضر» في خانة الطرف الوحيد الداعم لنضال قوى المجتمع المدني، ومن يتبنّى القضايا التي قد تعتبر خاسرة قياساً إلى خطابات التعبئة ضد اللاجئين وانتعاش الخطاب الشعبوي والذكوري، والأفظع من ذلك: خطاب الحرب الذي يستهدف كل دول الجوار. غير أن المراهنة على ما هو أبعد من الانتخابات والمساهمة في تغيير وجه تركيا، يدفع «الشعوب» و«اليسار الأخضر» إلى الإصرار على السياسات ذات المنحى اليساري الليبرتاري.
تشير التوقعات إلى أن اللاجئين، بوصفهم الحلقة الأضعف في تركيا، سيتعرّضون إلى أشكالٍ مختلفة من العنف بعيد الانتخابات. ويعزز من هذه المخاوف، بقاء الأوضاع الاقتصادية في هذا المستوى من السوء، فيما تشير المعطيات إلى تنامي قلق اللاجئين من الترحيل القسري قبل الوصول حلٍ سياسي للمسألة السورية. ولئن كان «الشعوب»/«اليسار الأخضر» يقدّم نفسه بوصفه آخر قلاع الدفاع عن اللاجئين، فإن قوّة إنفاذ مشاريع الترحيل مرتبطة على الدوام بالسلطة، أي بالحكومة الحالية أو المقبلة.
صحيح أن الأصوات الاعتراضية للترحيل وكراهية اللاجئين لن تعطّل القرارات الحكومية مهما بلغ مداها داخل البرلمان، غير أن وجود هذه الأصوات كفيلٌ بفضح الانتهاكات الحكومية وإخلال الدولة لالتزاماتها الأممية والأوروبية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد