ما ثمن الحرب التي يشنها أردوغان على الأكاديميين؟

سيلا بن حبيب

كشف الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا و دمّر جنوب ووسط البلاد وشمال غرب سوريا العديد من خطوط الصدع غير تلك الموجودة في الأرض. أظهر الدمار الذي خلفه الزلزال الفساد المستشري، خاصةً فيما يتعلق بتراخيص البناء غير الملتزمة بالمعايير التي وافقت عليها الحكومة على الرغم من اللوائح المشددة التي تم تبنيها بعد زلزال إزميد عام 1999، الذي تسلّم الرئيس رجب طيب أردوغان بموجبه السلطة منذ 20 عاماً. سلّط الزلزال الضوء أيضاً على خط الصدع بين العلماء والأكاديميين في البلاد والنظام القائم على العشوائية وتجاهل المعرفة والخبرة.
حذر العديد من الجيولوجيين والمهندسين والمعماريين الأتراك من أن الزلزال قد يحدث عاجلاً أم آجلاً. قبل ثلاثة أيام من الزلزال، أشارت عضو الأكاديمية التركية للعلوم أستاذ الجيولوجيا ناجي غورور إلى خطوط صدع الزلزال النشطة في مرعش والمناطق المجاورة لها. و تم إخبار الحكومة التركية أن زلزالاً قريباً قد يحدث، إذ تمت مناقشة هذه التوقعات علناً في أكاديمية العلوم.
من المعروف أنه يصعب التنبؤ بالكوارث الطبيعية، مثل الزلازل و الأعاصير. ولكن عندما تحدث، قد تكون أقل تدميراً للبشر والممتلكات إذا تم اتباع إرشادات علمية وتكنولوجية صحيحة. لا يشمل ذلك معايير البناء فحسب، بل أيضاً تجهيز مساحاتٍ فارغة كبيرة في مراكز المدن والبلدات حتى يتمكن الناس من التجمع عندما تهتز المباني أو تتشقق أو تبدأ في الانهيار. على العكس من ذلك، منحت حكومة أردوغان عفواً عن مناطق للمقاولين سمح لهم بتجاهل قوانين السلامة ومعايير البناء.
اعتمد أردوغان منذ بداية حكمه على دعم البنية التحتية لجذب القاعدة الشعبية. أبرز مثال على ذلك مطار إسطنبول الجديد الذي تم افتتاحه في 2018 وحل تدريجياً محل مطار أتاتورك القديم في إسطنبول، وتبلغ طاقته المخطط لها 200 مليون مسافر سنوياً، وبمساحة كبيرة جداً تجعله أحد أكبر المطارات في العالم. لاحظت الكاتبة كايا جينس: «يعتبر كثيرون أن المطار ومشروعي أردوغان الضخمين الآخرين للبنية التحتية، جسرٌ جديد عابر للقارات في اسطنبول وقناةٌ تربط البحر الأسود ببحر مرمرة، مساعٍ غير منطقية». حتى أن أردوغان وصفها بـ«المشاريع المجنونة».
لاقت القناة التي اقترحها أردوغان، و التي تربط البحر الأسود ببحر مرمرة، معارضةً من قبل العلماء والمهندسين المعماريين والمدنيين بسبب الأضرار البيئية التي يمكن أن تسببها لأشكال الحياة والممرات المائية القديمة والمركز التاريخي لإسطنبول، الذي سيصبح جزيرةً محصورة بين مضيق البوسفور والقناة الجديدة.
ومع ذلك، فإن تفكير أردوغان لا يتوقف فقط عند بناء المشاريع، إذ يفتقد أسلوبه الاقتصادي أيضاً للمعاير العلمية. عمل أردوغان على تخفيض نسبة الفائدة لأعوامٍ، ما أدى إلى انخفاضٍ كبير في قيمة الليرة التركية.

تقول المنظّرة السياسية حنا أرندت إن تحدي الواقع والبعد عن الحقائق هما من سمات التفكير الشمولي. إن أردوغان ليس حاكماً شمولياً ولكنه استبداديٌ في بلدٍ يكافح من أجل الحفاظ على مؤسسات ديمقراطية متعددة الأحزاب. إن رفضه للوقائع ووصفها بأنها تلفيقاتٍ من قبل أعدائه واستخفافه بهؤلاء الذين يشيرون إلى حقائق اقتصاديةٍ أو بيئية لا يمكن أن يكون إلا سمة من سمات عقليته أيضاً.
يوضح أحد الأصدقاء من الأكاديميين والصحافيين المعروفين الأمر بشكل مختصر قائلاً: «أحاول الحفاظ على أموالي، لكن الوضع العام لا يسمح بذلك بل العكس يدفعني للخلف».
في الإطار ذاته، تقول المنظّرة السياسية حنا أرندت إن تحدي الواقع والبعد عن الحقائق هما من سمات التفكير الشمولي. إن أردوغان ليس حاكماً شمولياً ولكنه استبداديٌ في بلدٍ يكافح من أجل الحفاظ على مؤسسات ديمقراطية متعددة الأحزاب. إن رفضه للوقائع ووصفها بأنها تلفيقاتٍ من قبل أعدائه واستخفافه بهؤلاء الذين يشيرون إلى حقائق اقتصاديةٍ أو بيئية لا يمكن أن يكون إلا سمة من سمات عقليته أيضاً. بعد أن كرس خلال العقد الماضي جهوده، التي يشحذها بالخطاب الديني، ضد وسائل الإعلام والجامعات والأكاديميين والعلماء، يحرم أردوغان تركيا من أحد أهم أصولها في وقتٍ هي في أمس الحاجة إليها.
كما كتب إرسين كالايشي اوغلو، أحد العلماء السياسيين والخبراء الدستوريين البارزين في تركيا، رسالة بريد إلكتروني إلى أعضاء أكاديمية العلوم التركية فيما يتعلق باستخدام الحكومة للزلزال كذريعةٍ لتحويل كل التعليم الجامعي عبر الإنترنت، جاء فيها «من الخطأ إثقال كاهل شبابنا بصعوبات التعليم عبر الإنترنت على وجه التحديد بعد عامين من جائحة كورونا لم يتمكنوا خلالها من تلقي التعليم المناسب».
سواءً كانت الحكومة تريد استخدام أبنية الجامعات لإيواء الآلاف من المتضررين من الزلزال أم لا، فإن إيقاف دوام الطلاب في الجامعات هي مسألةٌ جدلية.
يصادف يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول المقبل الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية. نهضت تركيا من رماد الإمبراطورية العثمانية بعد حربٍ ضد القوى الأوروبية وقمع ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن العثمانيين في عام 1915. كان يمكن أن تكون نموذجاً لما بعد الدول المستعمرة في كل مكان.
لكن خلال زيارتي في ديسمبر/كانون الأول الماضي، كان فخر زملائي والطلاب السابقين بذكرى الجمهورية يسوده الإحباط والحزن الذي لم أره من قبل. إن عقدين من حكم حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان وسلطته الميكافيلية هما من سبّب ذلك. يشكك كثيرون في إجراء الانتخابات المقبلة في موعدها. يعتقد بعض أقاربي المسنين في تركيا، من هم في الثمانينات من عمرهم، أنه إذا شعر أردوغان أنه سيخسر، لن يتم إجراء الانتخابات وسيعلن الأحكام العرفية في المحافظات التي ضربها الزلزال. وفي ظل الضرر الذي أحدثه الزلزال، قد يؤجل أردوغان الانتخابات حتى يهدأ الغضب الشعبي ضده وضد حزبه.
قد يبدو من اللامنطقي النظر إلى الكوارث الطبيعية بعين سياسية. لكن أظهرت دراسة أمارتيا سين للمجاعة في الهند أن المجتمعات الحرة، والتي تتدفق عليها المعرفة والمعلومات بسهولة، تكون أكثر قدرةً على التعامل مع الأحداث الكارثية من الأنظمة الاستبدادية التي تقمع تداول المعلومات القوية والتقييمات المهنية.
لقد فات الأوان الآن على إصلاح الماضي، إذ قتل الزلزال آلاف الأتراك وترك الآلاف يحزنون على أحبائهم وأقربائهم. لكن من دون أي شكٍ، يجب سد خطوط الصدع في الحكومة والأحزاب السياسية التي كشفها الزلزال، إذ أن الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية تركيا هي أنسب وقتٍ لذلك.

المصدر:فورين بوليسي

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد